الأربعاء، 10 يونيو 2009

"المليونير المتشرد"بين هوليوود وبوليوود






التسلل الى طبقة أعلى


بصرف النظر عن الدعاية الكبيرة التي رافقت هذا الفيلم "المليونير المتشرد"

عندما تحصل في البداية على جائزة الجمهور في مهرجان تورينتو 2008، يعد من

الناحية الانتاجية من الافلام قليلة التكلفة، حيث لا نجوم كبارا في الفيلم

وليس ثمة حاجة الى مشاهد كبيرة ذات سمة تقنية مبهرة، كما أنه لا يحتوي على

خدع أو ظروف عمل خاصة، بل هو مجرد قصة انسانية بسيطة، تتخللها مناظر جميلة

لواقع اجتماعي يسيطر عليه الفقر، حيث يسكن قطاع كبير من الناس في عشوائيات

متراكمة، يولد منها الفقر، ولا يتوقع أن تفرز إلا الآلاف من الفقراء

المتشابهين، وهذا هو واقع الهند كما تصوره الكثير من الافلام، من بين هؤلاء

الفقراء يولد الأغنياء احيانا، وهذه الفكرة سيطرت على السينما الدرامية

الهندية وغيرها ومازالت مسيطرة، فليست هذه المرة الأولى أو الأخيرة التي

يمكن أن نر فيها شخصا فقيرا يتسلل من طبقته الدنيا ليصل في النهاية الى

الطبقة العليا، محققا النجاح المادي والنفوذ الاجتماعي. فكيفما كان الأمر

يبقى الصراع بين الفقير والغني هو المولد الرئيسي للسينما الهندية وقصصها

وموضوعاتها بصرف النظر عن التباين الظاهري والاختلافات الجانبية.

تعدد الانتاج

لكن علينا أن نوضح مسبقا بأن هذا الفيلم ليس فيلما هنديا، حتى لو كان

موضوعه الهند وقصته تجري في الهند. انه فيلم متعدد الانتاج ومخرجه

الانجليزي "داني بويل" ويمكن اعتباره فيلما امريكيا باعتبار الشركة

الرئيسية المنتجة.

وبذلك يتحقق ما يمكن تسميته بعولمة السينما، أي أن تقوم الشركات السينمائية

الكبرى بانتاج أفلام ذات صبغة محلية وتمنحها بعدا جديدا وهو البعد العالمي

وهذا يعنى اعادة انتاج الواقع بشكل معين يتماشى مع متطلبات السوق الدولية

وما تفرضه من اعتبارات.

بالنسبة الى هوليوود، ليس جديدا عليها أن تقوم بذلك فقد سبق لها أن اقتبست

موضوعات متعددة من بيئات مختلفة واظهرتها في صورة مختلفة كما حدث في عدد من

الأفلام الصينية واليابانية ومن امريكا اللاتينية ومن المسكيك وكما حدث في

أفلام أخرى مثل مصباح علاء الدين أو مغارة على بابا أو قصص ألف ليلة وليلة.

من مظاهر عولمة الافلام أن القصص ذات الطبيعة الواقعية تقدم بطريقة مختلفة،

في العادة لا يتم فيها التركيز على الطابع المحلي، باعتباره قضية ومشكلة

لها أبعادها السياسية والاجتماعية، بل يفرغ الموضوع من خلفيته بطريقة أو

بأخرى ويقدم في أبعاده الجمالية والتقنية، بحيث لا يصطدم مع الواقع.

هوليوود وغيرها

لم تكن هوليوود متميزة في ذلك وان كانت هي الأهم ولاسيما في تعاملها مع

الشخصيات العالمية، التاريخية والحديثة، فقد اشتهرت السينما الفرنسية أيضا

بهذا الاتجاه، وقدمت بعض الأفلام التي لها علاقة ببيئات معينة مثل افريقيا

وآسيا وغيرها، وكلنا يذكر ذلك الفيلم الشهير الذي اخرجه مارسيل كامبو عام

1959 وكان بعنوان "اورفيوس الأسود" والذي يصور قصة حب تدور احداثها في ريو

دي جنيرو بالبرازيل

.

أما السينما الانجليزية فقد سبق لها أن تعاملت مع الهند في افلام كثيرة،

اشهرها فيلم "غاندي" وفيلم "ممر الى الهند" وأفلام أخرى تدور أحداثها في

الهند ولكن يتم التركيز فيها على الشخصية الانجليزية.

من أشهر الأفلام "سيد هارتا" وهو فيلم امريكي تنطبق عليه معايير عولمة

السينما بنفس القدر الذي تنطبق فيه على افلام أخرى مثل ساندو خان وغيره.

لم تكن فكرة عولمة السينما لتنطبق على المخرجين الأجانب فقط، فقد أسهم بعض

المخرجين من الهند في ذلك، والأشهر هي المخرجة "ميرا نير" والتى قدمت فيلم

"سلام بومباى" عام 1988 وهو فيلم قريب في موضوعه- في حدود معينة -الى هذا

الفيلم "المليونير المتشرد"، ثم قدمت أفلاما هندية بنكهة عالمية كما في

"كاموسترازواج مانسونمن أجل الشهرة".

من جانب آخر ويحاكي هذا الفيلم عالم المهمشين واولئك الذين يعيشون على خط

الفقر وسوف نرى اقترابا بسيطا في موضوع الفيلم من الفيلم البرازيلي "مدينة

الرب" لمخرجه فرناندوميرليس، مع ميل الفيلم الأول نحو الرومانسية والابتعاد

عن العنف، وهذه من الظواهر المرتبطة بالهند والمختلفة عن البيئة البرازيلية

الساخنة والحادة في الافعال وردود الأفعال .

فيلم مقتبس

اعتمد فيلم "المليونير المتشرد" على رواية من الهند بنفس الاسم للكاتب

"فيكس سواراب" وقد صدرت عام 2005، ونحن لا ندري على وجه الدقة هل مسارات

الرواية واحدة كما أبرزها الفيلم أم أن السيناريو قد قام بتغييرات عديدة،

فجل المعالجة تخرج بهذا الشكل المبتكر نسبيا.

يسير الفيلم في ثلاثة خطوط متوازية.. الخط الأول يمثل عرض الحلقات من

برنامج "من يريد أن يكون مليونيرا؟" ونرى فيه المذيع بريم كومار وهو يستضيف

"جمال مالك" ويوجه إليه السؤال تلو الآخر.

الخط الثاني.. نرى فيه مفتش البوليس يستجوب جمال مالك، ويتهمه بالغش لأنه

استطاع الاجابة عن كل الاسئلة المطروحة في البرنامج، وبمساعدة من رقيب آخر

تتم عملية تعذيبه بالكهرباء، بالاضافة الى الضرب، بقصد الاقرار بالغش وقد

تم كل ذلك بعدما انهى جمال البرنامج وفاز بالمليون روبية هندية وهو يزمع

الاستمرار للفوز بما هو أكثر.

أثناء الاستجواب تأتي لحظات العودة الى الخلف، كما تأتى ايضا مواعيد طرح

الاسئلة وتكون الحكاية المروية بحسب المواقف أسلوبا في شرح الكيفية التى

تتم بها الاجابة عن السؤال، والمعلومات هنا ليست من الكتب، ولكن من واقع

تفاصيل حياة جمال مالك نفسها: فكل سؤال يعبر عن تجربة حياتية خاصة.

عندما يطرح سؤال حول المقدس "راما" يعود جمال بالذاكرة الى المنزل وبعض

الاحاديث القديمة المروية عن الاجيال، وعندما يذكر مثلا الفرسان الثلاثة،

كما جاء في رواية الاسكندر ديماس، تعود الذاكرة الى الأم والذهاب الى

المدرسة ثم الى الاستاذ وهو يلقي بالكتاب لجمال لكى يقرأ.

هنا تبدو هذه النقطة اضافة، خارج محلية الهند، حيث من غير المتوقع ان يدرس

الطلبة في الهند هذه الرواية وهم في الواقع تلاميذ دون العاشرة.

جمال وسالم

ينقسم الفيلم من ناحية أخرى الى قسمين.. القسم الأول شيق ونشط وفيه نرى

الكيفية التي يعيش بها الاخوان "جمال وسالم" مع امهما وكيف يتصرفان

ويتدبران عيشهما، ثم موت الأم في حوادث شغب ضد المسلمين، وتعرف الطفلان على

الفتاة "لاكيتا" والتي تقوم بدورها "فريدا ابنتو" في طور المراهقة، لتكون

بديلا عن الأم.

القسم الثاني يحتوى على قصة حب، فيه شيء من الرومانسية، مع وجود بعض

الفراغات والتفاصيل، حيث يكاد الفيلم ينفرط عقده، لولا أن تأتي النهاية

الايجابية لتسعف بالحل السريع.

ينتقل الفيلم من البرنامج التلفزيوني، الى الاستجواب البوليسي، والى سرد

بعض أحداث الماضي، في محاولة للبحث عن اجابة عن كل سؤال.

على سبيل المثال عندما يطرح سؤال حول الممثل "اميتاب باتشان" يتذكر الطفل

جمال ما حدث له، عندما زار هذا الممثل الاعشاش التي يعيشون فيها، ثم كيف

أدى الاختلاف مع اخيه، ولو كان مضحكا وطفوليا، الى السقوط في حفرة مليئة

بالأوساخ، ثم الحصول، رغم ذلك على توقيع اميتاب باتشان ولكن الأخ سالم يبيع

الصورة الموقعة للحصول على مبلغ مالي.

صراع خفي

كأن الفيلم قد سار نحو التقليدية عندما أبرز الصراع بين الأخوين، ولكنه لم

يعمل على أذكاء هذا الصراع واشعاله، رغم أنه فعليا كذلك فمنذ البداية نجد

الأخ سالم مختلفا عن جمال. إذ يبدو الأول عمليا ونفعيا بالدرجة الأولى،

ولكنه أنقذ اخاه عندما سقط في أيدى عصابة يديرها "مامان" الذي يعمل على جعل

الأطفال عمى، لكى يستخدمهم شحاذين في الطرقات، والافضل أن يتلازم مع ذلك

حسن الصوت والغناء في الشارع العام.

غير أن جمال ومعه سالم يفران وتقع الفتاة في يد العصابة، لكى تصبح راقصة

وعاهرة صغيرة.

وهنا يقدم الفيلم نظرة خارجية واضحة، حيث تبدو جماليات الصورة مبهرة،

والبريق فيها يخطف البصر والألوان مبهجة ونشطة والكادرات المختارة كأنها

لوحات اعدتها عين سائح اجنبي، لا تهم المشكلة الحقيقية، بقدر ما تهمهم

الصورة، والحقيقة ان كاميرا الدجيتال قد تنقلت ببراعة داخل الاحياء الفقيرة

وخارجها وطافت حول الهند وصورت الشوارع وحركة السير وأبرزت الفقر والفقراء،

وفي كل الجوانب حافظت على جمالية بالغة البهاء والروعة. وهذا المنظور

السياحي لا يمكن اعتباره سلبيا، فنحن لسنا أمام نظرة استعمارية متعالية

متبقية منذ زمن المستعمرات القديمة، لكننا أمام نظرة، تحاول تلميع الفقر

وتجميله لكى ترضى الجمهور والذي هو أجنبي بالدرجة الأولى، وفي النتيجة

النهائية جاء الفيلم بصورته اللامعة البراقة والتي ترفع من القيمة الجمالية

لفن السينما بشكل عام بصرف النظر عن التفسيرات والاعتراضات الأخرى.

تاج محل

يصور الفيلم بعض المشاهد الخاصة بتاج محل عندما يكون هناك سؤالا حوله،

ويصور ايضا كيف عمل الطفلان في جوانبه، اشبه بمرشدى السياحة، وأزعم بأن هذه

المشاهد كلها اضافية تكميلية، ربما توضح صورا من طرق العيش بالنسبة للطفلين

لكن النظرة الخارجية تبقى مسيطرة الى أقصى حدودها.

يصل الفيلم الى نقطة حاسمة عندما يستخدم سالم المسدس لانقاذ لاكيتا، بل

يقوم بقتل الزعيم الذي يعمل معه، وهو يتباهى بذلك لينتقل الى زعيم آخر وهو

فرهاد، ثم يطرد سالم اخاه جمال من أجل الاختلاء بالفتاة لاكيتا التي من

الواضح أنها قد صارت حبيبة لجمال رغم كل شيء.

إن كلا الأخوين يصل الى النجاح والغني، سالم بواسطة المسدس والعمل مع زعيم

العصابة الكبيرة، وجمال بواسطة ضربة الحظ القائمة على المشاركة في هذا

البرنامج "من الذى يريد أن يكون مليونيرا؟".

كما قلنا يغيب الفيلم الصراع بين الأخوين لمصلحة الوصول الى حالة جديدة وهي

تجاوز الفقر والتهميش الى الغنى، ومثل العادة فى الخط الدرامى الهندي، كما

تطرحه الرواية الأصل، فإن الأخ سالم يقدم نفسه قربانا للتضحية، فهو يعيد

لاكيتا الى الزعيم الذى يعمل معه بعد أن تواعدت للهرب مع جمال، ثم يسعى

بنفسه لتهريب الفتاة وتخليصها وقتل رئيسه بعد ذلك ليموت برصاص باقي أفراد

العصابة ويهديها هاتفه الخاص لتتواصل مع جمال في النهاية.

في الفيلم اسئلة كثيرة تدار بواسطة مذيع البرنامج، والذي يدخل في الصراع

ايضا بوصفه أحد الفقراء الذين تجاوزا فقرهم وصاروا نجوما، ولذلك يكون أول

من يتهم جمال بالغش.

لكن جمال يستمر وينجح في آخر الحلقات فى الفوز بثلاثة ملايين روبية،

وبالطبع لا يعرف جمال كل الاجابات فعليا ولكنه يستمر في الاستنتاج

والاستفادة من الجمهور واختيار جهاز الحاسوب، ومن هنا تأتي فكرة القدرية

التي تسهم أحيانا وتساعد على الارتفاع بحظوظ شخص على حساب آخرين وأحيانا

بدافع تشاهده لاكيتا.

زخرفة فنية

سنرى في الفيلم مخرجا سعى نحو زخرفة فيلمه واستخدم اللقطات السريعة بمونتاج

جذاب، معتمدا على التصوير أولا، وعلى اختيار اماكن التصوير واستخدام

الديكورات المناسبة ثانيا. أما التمثيل فقد بدا تلقائيا الى أبعد الحدود

وخصوصا بالنسبة الى الطفلين فى المرحلة الأولى، ويبدو أن المخرج قد استفاد

كثيرا من العثرات السابقة التى لازمته وخصوصا فى فيلم "الشاطىء - "2000

وكذلك فيلم "الملايين - 2004" وان كان النجاح قد حالفه فى أفلام أخرى مثل

"الحياة أقل عادية – 1997" وكذل "القبر الأجوف – 1994" وهو أول أفلامه.

ينتهى الفيلم بنهاية سعيدة، اجتمع فيها جمال مع لاكيتا، بعد أن صار طفل

الشاي والذى يعمل مجرد نادل فى شركة اتصالات، نموذجا للنجاح وشخصا شعبيا

تطلب منه الناس أن يواصل نجاحاته. وهذه النهاية تتوافق مع رحلة بطل خرج من

عالم المهمشين وانفصل عنهم وصار وحيدا يبدأ صعوده معزولا بعد ان ماتت أمه

وافترق عن اخيه، لكن الفتاة الحبيبة، كانت هى تعويض الأم، وهو يفقدها ايضا

بعد ذلك، لتعود إليه.

هذه العزلة القدرية تفرض على البطل ان يبدأ في تحقيق النجاح، حتى يصل إليه،

ثم يبدأ رحلة العودة بعد ذلك، وهي عودة مختلفة فى جميع الأحوال.

ليس غريبا إذن أن يفوز هذا الفيلم بجائزة أوسكار أفضل فيلم وجائزة أفضل

اخراج وجوائز أخرى، فقد اجتمعت فيه عناصر الصورة اللامعة والموسيقى

المختارة بعناية فائقة وكل ذلك قاده الى النجاح، ورغم كل البساطة الظاهرة

عليه ورغم أن موضوعه ليس جديدا، فان الشكل الفني المبتكر فيه هو الذي قاده

إلى النجاح وربما النجاح المتواصل.

ليست هناك تعليقات: