الخميس، 3 فبراير 2011



فيلم "الجامع".. عندما يطرد الوهم الحقيقة



صعدت المغرب في مجال الانتاج السينمائي الى المرتبة الثانية، بعد مصر، ففي السنوات الاخيرة بلغ متوسط انتاجها "15" فيلما في السنة الواحدة.

يبقى هناك أكثر من مشكل يتصل بهذه الزيادة في الانتاج أولى هذه المشكلات أن المستوى العام للانتاج ضعيف فنيا، فنحن هذه الحصيلة الانتاجية لا يبرز إلا العدد القليل من الافلام، وهذه ظاهرة عامة بالطبع، لكن الأمر يختلف عندما يتصل الأمر الدعم المالي الرسمي الذي يوفر أرضية جيدة للانتاج وينبغي أن تكون الاستفادة منه في الحدود القصوى.

من المشكلات الخاصة بالسينما في المغرب، أن التوزيع السينمائي يعاني من صعوبات كثيرة، أهمها أغلاق دور العرض، وعدم بناء دور عرض جديدة، مما يعنى أن الفيلم المغربي، محاصر في عدد قليل عن دور العرض، وبالتالي لا يحقق ربما وفيرا يمكنه أن يغطي تكلفة الانتاج أو القليل منها.يمكن أن نذكر العديد من المشكلات، لكن الايجابي في هذه القضية يفرض نفسه، أن هناك حركة سينمائية على مستوى انتاج الافلام الروائية الطويلة وعلى مستوى انتاج الافلام القصيرة أيضا، فضلا عن انتشار المهرجانات السينمائية في عدة أماكن، حتى يقال بأن المغرب هي صاحبة الرقم القياسي، فيما يتعلق بعدد المهرجانات السينمائية على مستوى البلدان العربية وافريقيا.

يمكن أن نشير أيضا الى ظاهرة استغلال الأمكنة السياحية في المغرب، وكل ذلك شكل مع مدينة "ورزازات" عامل جذب لشركات الانتاج العالمية للتصوير في المغرب، وكلنا يعلم بأن أكثر من فيلم عالمي قد تم تصويره بالمغرب.

ومن أهم المغريات التي تساعد على ذلك، وجود العمالة الفنية، ووجود مدينة صالحة لتصوير جميع أنواع الأفلام، وكذلك رخص الأجور مقارنة بالدول الأوروبية والدول الأهلية مثل أمريكا وكندا وغيرها، وهنا لابد أن نشير الى أن السينما المغربية قد استفادت من كل ذلك بطريقة أو بأخرى، وانعكس ذلك على عدد الافلام المنتجة وتعددها وتنوع المخرجين وتباين الموضوعات التى يختارونها.

من المخرجين المغاربة الذين اختاروا طرق مختلفة وأساليب غير مكررة نذكر المخرج المتميز داوود أولاد السيد والذي عرف كثيرا، بسبب مشاركاته المتعددة في المهرجانات السينمائية العربية والدولية، فهو من أكثر المخرجين المغاربة الذين تحصلت أفلامهم على جوائز في أكثر من تظاهرة، وذلك منذ الفيلم الثالث الأكثر أهمية "طرفاية" وآخر أفلامه "بانتظار بازولينى" عام 2007.

سوف نتحدث عن فيلم جديد للمخرج وهو بعنوان "الجامع" انتاج 2010، وقد شارك هذا الفيلم في أكثر من مهرجان عربي وعلى سبيل المثال نذكر فقط، مهرجان قرطاج السينمائي ومهرجان دمشق السيمائي ومهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وكل ذلك في الدورات الاخيرة، ولقد تحصل الفيلم على أكثر من جائزة، والأهم التقدير الفني من أكثر من ناقد عربي، وما يميز هذا الفيلم أنه يتبع فيلما آخر للمخرج، والحقيقة لا يمكن القول بأن الفيلمين يكملان بعضهما، وحتى في حال وجود فيلم ثالث على نفس النسق، فإن كل فيلم يختلف عن الآخر، ونقصد بذلك الفيلم السابق والذي جاء بعنوان "في انتظار بازولين"، حيث يتم بناء جامع بالديكور في المدينة التي كانت تتبع الحكم الروماني، وحيث اننا لم نشاهد هذا الفيلم، فلا نستطيع الاستطراد في الحديث عنه، غير أنه من المهم التأكيد على فكرة بناء الجامع ليكون من ديكورات الفيلم، وما وراء الفيلم يشير الى أن الأرض التي بني عليها الجامع قد تم تأجيرها من شخص قروي يدعى "موحا" جيث يقع ديكور الجامع في منتصف أرضه الزراعية والتي عليها يعيش ومعه أسرته محدودة العدد.

لا شك أن فكرة الفيلم "الجامع" طريفة، وهي مرتبطة طبعا بالفيلم السابق، لكن الأحداث منفصلة. هناك شيء ما يستمر من فيلم "بانتظار بازوليني". إنه الجامع والذي لم تتوسع آلة التصوير في عرضه واكتفت بابراز بعض جوانبه الخارجية.

وهنا تجدر الاشارة بأن ديكور الجامع باعتباره المحرّك للاحداث، ظل طوال الفيلم هامشيا، بينما تدور هذه الأحداث والوقائع فيما حوله.


كما إننا لم نفهم ما يقوله "موحا" بأنه لا يستطيع أن يزرع أرضه، لأن مساحة الجامع ظلت صغيرة وغير مؤثرة.

غير أن هذه الافتراضات لا تؤثر على حبكة الفيلم، ولاسيما التداخل بين الوهم والحقيقة، وتكبير الوهم ليحلّ محلّ هذه الحقيقة، وكما قال أحد النقاد، فإن تصور الفيلسوف "افلاطون" لمن يهتم بصورة النيران وهي تلتهب على الجدران ولا يهتم لمرأى النار نفسها، هذا التصور يقودنا الى سيطرة الخدعة وانهاك الانسان في التعامل مع الوهم الذي يصنعه بنفسه، حتى أن الأمر يتجاوز المنطق أحيانا.

في الفيلم السابق للمخرج أولاد السيد، هناك جامع تأسيس خلال المرحلة الرومانية المتأخرة وهو جامع قديم يقرر المخرج الايطالي بازوليني أن يزوره. كل ذلك في فيلم "بانتظار بازوليني". ولقد صوّر الفيلم في منطقة مغربية تدعى "زاكورة" وهي مدينة سياحية صحراوية، وعندما نعود الى زاقورة في الفيلم الجديد "الجامع" نجد بها جامع، هو في الأصل مجرد ديكور سينمائي، صنع لغرض تصوير فيلم، ولكن الديكور لم يهدم، حتى بعد انتهاء التصوير، واستخدمه الناس مسجدا حقيقيا للصلاة، لأنه في منطقة متوسطة، وكان ذلك خسارة واضحة لصاحب الأرض التي بني عليها الجامع.

ويقصد بذلك "موجا". إنه فلاح يزرع أرضه وعليها يعيش، ولقد قرر تأجير مساحة من أرضه لصالح أصجاب الفيلم لكي يستفيد ماليا. لكن الديكور استمر وصار الجامع حقيقة، رغم أنه مجرد وهم أو ديكور مصطنع.

في مقابل ذلك هناك وهم آخر صار حقيقة وهو الممثل الذي عمل أماما للجامع، فلقد استمر في أداء دوره وحاول أن يفرضه على الناس، وبالفعل باشر عمله باعتباره الأمام الذي يحاجج الجميع بأن هدم المسجد حرام وإن الأمر لم يعد مجرد ديكور، بل صار حقيقة.

البداية الفعلية للفيلم فيها بعض الاطالة، والسبب أن فكرة فيلم قصيرة، وبالتالي احتاج موضوع الفيلم من خلال السيناريو الى بعض الاضافات والتي تبدو وكأنها زوائد وفي الحقيقة ان الفيلم يدور هنا وهناك معتمدا على فكرة واحدة ربما لا تصلح أن تكون فيلما روائيا مطوّلا.

سوف نرى في البداية حفلا تكريميا لكل من شارك في الفيلم السابق "بانتظار بازوليني، وسوف نرى تكريمات بحضور المخرج لبعض الشخصيات من قرية زاكورة بما في ذلك شيخ القرية والامام الرئيس وشخصيات أخرى مثل موحا، ولكن تبدأ القصة بانتهاء ذلك، والوصول الى مشكلة موجا وكيفية تخلصه من ديكور الجامع، بعد رفض عدد من مشائخ الدين فكرة هدم الديكور، من جانب آخر هناك زوجة موحا والتي لا تهتم إلا بختان أبنها فقط، فهي احدى الاطراف التي تتوسع بها الفصة ولكنها تبقى مجرد اضافة فقط شخصية المخرج "أولاد السيد" وتحركه داخل الفيلم يدخل من باب الاضافة، لأن حضوره يبقى بعيدا عن جوهر الفيلم.

تبدو الشخصيات في الفيلم هامشية تتحرك داخل بيئة نائية، وبالتالي فإن هذه البيئة هي التي تقود الاحداث تقريبا وتقود طريقة التصوير، بحيث لا يتم التركيز على الشخصيات نفسها ولا نراها إلا في كادر واسع، وربكا كانت هذه الطريقة هي التي تميز أفلام أولاد السيد، لأن الشخصيات تبدو مدفوعة دفعا، والمكان هو الذي يدفعها ويحركها، ونقصد بذلك طبيعة المكان نفسه.

لقد وقع الاختيار على السينما، لأنها فن الوهم، حيث نجد أن الحركة فيها مجرد وهم، وهي تعطي الايهام بالحقيقة بواسطة الملابس والديكور والتمثيل، ويمكن لهذا الوهم أن يتحوّل الى حقيقة تسيطر على الناس، ونلحظ هنا ارتباط كل ذلك بفكرة الدين "الجامع"، مع الفائدة الشخصية والمصلحة الذاتية، وهذا ما تحقق في الديكور الجامع، وهو الوهم الذي استجابت له مصالح بعض الاشخاص فتحوّل الى حقيقة.

لقد انتهى الفيلم دون أن يتمكن موحا من هدم ديكور الجامع وإعادة أرضه للزراعة، ورغم أن هناك من وقف معه من الشيوخ، إلا أن لعبة المصالح هي التي تسيطر في النهاية.

في الحققة، يقوم الفيلم على فكرة أساسها الصراع بين موجا وأمام الجامع المخادع، لكن أجواء الفيلم ابتعدت عن تجسيد هذا الصراع، وسار الفيلم الى قضايا جانبية وتفاصيل كثيرة غير ذات أهمية، من ذلك كما قلنا التركيز على اهتمامات الزوجة المغايرة والتي تبتعد عن اهتمامات زوجها، أيضا محاولة البحث عن الحل بعد طرق، ومنها اختيار موحا هدم الديكور اعتمادا على حفارة صديقه سلام، لكنه يفشل بسبب الجنازة التي تخرج من باب.

وبالطبع هدم الديكور باليد وبالاعتماد على النفس، ولكن استبعاد هذه الفكرة كان لمصلحة أن تسير الاحداث نحو نهاية معينة، في آخر الفيلم تسير الاحداث نحو بعض الدعاوى السياسية، ومنها مسألة الانتخابات وادعاء الديمقراطية واستخدام الديموغوجية اعتماد على ديكور الجامع ومحاولة شراء بعض الاصوات.

كما أن النهاية تتضمن أيضا حضور وسائل الاعلام وأهمها التلفزيون الذي يصور حفلا له طبيعة سياحية، مع إضافة فرقة الرقص والتي يعمل فيها موجا ايضا. غير أن قضية أرضه وديكور الجامع قد جعلته يتراجع عن الاهتمام بالرقص.

من ضمن الحلول المطروحة لمشكلة موحا، أن يسافر الى الرباط لكي يتصل بالمركز السينمائي المغربي ويطالبه بازالة ديكور الجامع، كما أن صديقه يكتب له رسالة وهي عبارة عن مطلب لرئيس المركز السينمائي لكي يتدخل ويعيد الأمور الى نصابها.
في آخر مشهد من فيلم يتحوّل "موحا" الى متهم لأنه حاول أن يتشابك مع المسؤولين في الحفل وهو يسير نحو الصاق أحدى التهم به.

وهذه النهاية متوقعة، لأن ممن غير المطلوب حل القضية، بل التصعيد بها نحو أفق مسدود، وذلك يعني أن الوهم قد انتصر على الواقع والحقيقة.

لقد أعتمد الفيلم على عدد من الممثلين الجيدين، وهم يتعاملون مع الأحداث بكل تلقائية وبساطة، وهذا جزء من نجاح الفيلم، مع التركيز على السخرية في الطرح والتناول وخصوصا عند استخدام الشعارات السياسية الكبيرة لتحقيق مصالح ذاتية ونفعية صغيرة.

كما قلنا، في الفيلم بعض الاطالة وأحيانا الحشو، لأن الفكرة صغيرة والفيلم طويل، لكنه يبقى فيلم الامكانات المتواضعة والمستخدمة لتحقيق أهداف واضحة المعالم، ليس فيها أدعاء، بل التعامل في حدود الممكن، ولقد حقق هذا الممكن نجاحا واضحا، تجسد في فوز الفيلم بأكثر من جائزة في مهرجانات عربية كثيرة.

ليست هناك تعليقات: