الأربعاء، 29 أبريل 2009

- فيلم "العمى"..و العودة الى البدائية الاولى




الصراع من اجل السيطرة


من ضمن الروايات الحديثة التي صدرت مؤخرا للروائى البرتغالي

"جوزيه ساراماغو" رواية لمتترجم بعد الى العربية، بعنوان "الموت في

اجازة"، وفيها يتخيل الكاتب صورة مستقبلية افتراضيةتقوم على تصور معين

قوامه أن يأخذ الموت اجازة فلا يعمل لوقت معين، وبدلك البشر سوفتطول

أعمار البشر و تستمرحياتهم.

فهل هذا يعني في جميع الأحوال تقديم اضافة ايجابية للحياة أم أن المسألة

سوف تكون مصدر شروصراع سلبي بين الناس. إنها صورة متخيلة، ربما تكون أقرب

الى الكابوس، حيث سيحتشدالبشر فى مكان ضيق لا يتسع لهم، وسيكون ذلك باعثا

على الألم وليس الفرح.

سياق افتراضي: -

أن الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو" يعمل في سياق افتراضي دائما، أو على

الأقل في أغلبالأحوال. ثم يصيغ موضوعه وفق هذا السبياق الافتراضي، وفي

معظم الروايات، يعود الىالحالة الأولى التي انطلق منها، وبالتالي يحدث

التعديل المطلوب لذلك الاهتزاز الجديد ويستيقظالانسان من كابوسه المركب

على حالة لم تشرع في انطلاقتها بعد

.

في هذا الفيلم "العمى" انتاج 2008 صورة من ذلك، فهو مقتبس عن رواية لنفس

الكاتب "جوزيهساراماغو" صدرت عام 1995، وقد اعتبرت من أفضل روايات

الكاتب، حتى ان التعريفالرسمي به عند منحه لجائزة نوبل للأدب عام 1998 قد

وضع في الاعتبار صدور هذه الرواية،بالاضافة الى روايات أخرى مثل: الخطيئة

الأولى. عام موت ريكاردوس. كل الأسماء. انجيليسوع. الذكريات الصغيرة

حصار لشبونه. الطواف الحجري.

وبالطبع لم يتم اقتباس رواياته للسينما، إلا مع هذه الرواية "العمى" وذلك

لاعتبارات كثيرة،أهمها عدم موافقته الاساسية، وثانيا صعوبة نقل عالم هذا

الكاتب الى السينما، إذ تظل أعمالهالأدبية جذابة بسبب لغتها الخاصة

وطريقة الصياغة والبنية السردية التي تمزج بين الوصفوالحكي بطريقة

مفتوحة، تغلب عليها البساطة، رغم غرابة الموضوع احيانا.

استقرار نسبي: -

أما عن هذا الاختيار وأسبابه، فيعودان الى أن الكاتب يعيش مستقرا في

البرتغال، وهي دولةأوروبية، يمكن اعتبارها معزولة عن أوروبا، مقارنة

بغيرها من الدول، ولهذا كان هذا الاتجاهالتأملي المتخيل، الذى يكشف عن

متابعه من بعيد لما يحدث في العالم المتقدم، وبقدر ما توجدخطوات دالة على

تداخل البرتغال مع التقدم العلمي باعتبارها دولة أوروبية، توجد ايضا خطوات

واضحة تكشف عن ابتعاد البرتغال عن الحضارة الأوروبية الحديثة، ومن هنا

جاءت هذه النزعةالانتقادية، وفى جميع الأحوال يمكن رد كل ذلك الى نزعة

فردية خاصة بالمؤلف دون غيره، لكننوعية الحياة وطبيعة التعامل معها تدلنا

على خصائص عامة لا يمكن اسقاطها أو الحد منها.

خيوط أساسية:-

اذا عدنا الى الفيلم "العمى" وجدناه يلتقط الخيوط الاساسية للرواية

ولاسيمكا فى المقدمة أوالمدخل، وهو طويل نسبيا، حيث تقودنا الاحداث الى

عدد من الشخصيات، يصابون بالعمىتدريجيا. كل شخصية تقودنا الى شخصية أخرى.

وهذا يعني أن مرض العمى ينتقل بالعدوى

في البداية تصاب شخصية معينة "يابانى" بالعمى وهي تقود السيارة الصغيرة فى

قلب المدينةالمزدحم، ويساعده الناس من حوله، وهم فى حالة استغراب، ويتطوع

احدهم لقيادة سيارتهاوايصاله الى منزله، ونفهم من الحوار بين الشخصيتين

أن الأعمى يرى الأشياء بيضاء لا تخلومن وهج، وهى الصورة التي أوضحها

الفيلم ايضا، وهذا يسير وفق القاعدة المعكوسة للعمىالحقيقي، حيث يظهر كل

شىء أسود.

بين السواد والبياض ليست هناك فروقات كبيرة، إلا إذا تصورنا أن العمى

الأبيض هو حالةمؤقتة، ليست لها خلفية عضوية ، ولكنها مجرد حالة نفسية،

وهو أمر كشف عنه الأطباء، ولاسيماالطبيب "يورك" عندما عالج المريض الأول

ثم تكرر ظهور المرض مع الأم وابنها والمرأة فىالفندق، ثم سارق السيارة

الدى ظهر في البداية. وهكذا تكثر الشخصيات، الى ان يتم اعلان حالة

الطوارىء العامة

.

مدينة متخيلة: -

إن المدينة بلا اسم، وهي مدينة عالمية، يمكن أن تكون سان فرانسيسكو او

مونتريال أو طوكيو،أو هي خليط من كل هذه المدن جميعا، ومثلما كانت الفكرة

افتراضية، كذلك هي المدينة.

إن الشخصيات ايضا بلا أسماء، وأحيانا بلا مهمة واضحة، لكنها متعددة وأغلبها

من طبقةبورجوازية، كما يدل على ذلك السكن وأحيانا نوعية الملابس، مع وجود

شخصيات أخرى شبههامشية.

أهم شخصية هي الطبيب، والذي قام بدوره مارك رفالو، ثم زوجة الطبيب وقد قامت

بدورهاالممثلة "جوليان مور"‏.

البداية الفعلية للفيلم تظهر مع عمل الحكومة على جمع هؤلاء المصابين بالعمى

ووضعهم في ملجأخاص أقرب الى السجن أو الحجر الصحي، في محاولة لايقاف تسرب

العدوى. وهنا تظهرشخصية الزوجة "جوليان" والتي تصر على مصاحبة زوجها الى

المركز الصحي، رغم أنهاليست عمياء ولم تنتقل إليها العدوى بعد، وازاء

اصرارها على المصاحبة، يسمح لها بذلك،وخصوصا وأنها قد أعتبرت نفسها عمياء

أو تظاهرت بذلك.

البداية الثانية للفيلم يمكن التقاطها مع وجود عدد من الاشخاص في الملجء

الصحى تقودهم الزوجةالى عنابرهم وتساعدهم ويسيرون في طابور واحد لمعرفة

الممرات وباقي التفاصيل.

جرح نازف: -

أول اشتباك حقيقي بين هؤلاء المرضى يبدأ بين الفتاة التى شاهدناها في

الفندق "فتاة الهوى" وتقومبدورها "إليك براغا"، مع سارق السيارات وهو

نفسه كاتب السيناريو "دون مالكير" حيث يتحرشالأخير بها. ولذلك ترفعه بشدة

على قدمه ليصطدم بقطعة حديدية ويصاب بنزيف دموي ، لاتجدي معه محاولات

الطبيب وزوجته في العلاج البدائي وليصبح دون أول مريض حقيقي داخلالمركز

الصحي مما يقوده الى الموت تخلصا من الألم.

تخترع "جوليان" فكرة الخيوط لتستعملها مع العميان في معرفة المسالك

والممرات ويصبح الفيلمبعد ذلك ومجرد تداخل وتشاحن بين الشخصيات في هذا

العالم الجديد الذي انتقلوا إليه

توجد فى المركز الصحي ثلاثة عنابر ولا يتم الحديث إلا على العنبر الأول

والثالث، ولاسيما أنالقادمين الجدد يتوافدون يوميا مع انتشار المرض

وسريانه بين الناس، وقد اظهر التلفزيون الوحيدفي المركز الصحي بأن هناك

الكثير من المآسي تقع يوميا وأن اجراءات وزارة الصحة لا تفيدكثيرا في

الحد من انتشار الفوضى بعد أن صار الناس عميانا لا يتعرف أحدهم على الآخر.

لا شك أن هناك العديد من الافلام التي تفترض حدوث أمر خطير غير متوقع كأن

يصاب الناسبالعمى أو الخرس أو يصابون بمرض سريع الانتشار، وآخر الأفلام

كان بعنوان" أبناء الرجال" ‏حيث يصاب الرجال بالعقم ولا توجد إلا امرأة

واحدة حامل يحاولون حمايتها قدر الامكان، ويالهامن مصادفة فقد شاركت في

بطولة الفيلم الممثلة جوليان مور.

كابوس بشري:-

من الأفلام العربية المعروفة "النوم في العسل" حيث يصاب البطل بالعجز

الجنسي وهو أمرمؤقت إلا أنه يسبب في مشكلات تفاقم على مستوى الافراد،

وبصرف النظر عن المعاني التيترتبط بكل ذلك، فإن المخاوف البشرية تبعث هذه

الكوابيس، حيث يفتقد الماء مثلا، أو يقل الأكل،وفي ذلك مقاربة لما سبق أن

أشرنا إليه بشأن أخذ الموت اجازة من العمل المستمر، وهذا كلهيؤدي الى

تغيير في سنن الحياة العادية المتعارف عليها.

ان البياض الذي يظهر ويعبر عن العمى، يمكن اعتباره مجرد صورة لوضعية جديدة

ينتقل إليهاالانسان. إنه فى الحقيقة يعود الى بدائيته ووجشيته، لمرجد أن

يوضع فى مكان يشتد فيه الصراعويقوى، فلا مكان لكل معطيات الحضارة

وأدواتها واخلاقياتها.

هناك عدد من الحراس حوال المركز الصحي، لا يتعاملون مع المرضى، وفي أكثر من

مرة يتمقتل من يحاول الخروج أو الاقتراب. وهذا الضغط الخارجي المتمثل في

القوة الخارجية العمياءيدفع الى توتر داخلى يزداد كل يوم.

من ذلك مثلا أن أوجه التعاون قد تكون حاضرة بشكل ايجابي، وخصوصا بالنسبة

للجناج رقم ‏‏"1" ولا حديث عن الجناح رقم "2". أما الجناح رقم "3" فقد

سيطرت عليه مجموعة من الاشراروجدت طريقها نحو القوة بحصولها على مسدس

صالح للاستعمال و صارت الزعامة لعامل فيملهى سابق، يقومك بدروه الممثل

جيل جارسيا، ويساعده أعمى حقيقي وهو "موري شاكين"‏.

بدائية أولى: -

أن الصراع يقوم على الطعام أولا وبالسيطرة على الوجبات الممنوحة، وهو أمر

له علاقة ببدائيةالانسان التي تظهر عندما تجد طريقها الى ذلك.

هناك ايضا الصراع حول الجنس، فقد طالب رجال العنبر رقم "3" باستغلال نساء

العنبر رقم ‏‏"1" رغم وجود الازواج، وقد حاول الفيلم في البداية أن يجعل

تطور الاحداث يقوم على حضورالزوجين، رجل وإمرأة، ولقد استجابت النساء

للطلب، لكي يتم توفير الطعام للجميع.

أي أن هذهالبدائية الأولى قد اعادت معها استغلال جسد المراة، رغم أن

الفيلم يشير الى ذلك بمعنى مختلفآخر في بداية الفيلم وذلك استجابة

لمتطلبات العصر الحديث الذي يستغل المرأة ايضا.

في الفيلم تبدو الاجواء معتمة والسواد يسيطر على أسلوب التصوير مع حشر

الأجساد في أركانضيقة وكثرة الاماكن القذرة، وسقوط الأفراد واختلاط

الشخصيات، وكل ذلك يعني أن الحضارةالتى يفاخر بها الناس يمكن أن تنهار في

أية لحظة، وان الضوابط والاجراءات والقوانين، كلهايمكن أن تسقط وتنهار

ويعود الانسان الى طبيعته البدائية المتمثلة في الصراع فتترادع انسانية

البشر لمصلحة النزعة الحيوانية في السلوك.

اشارات دالة: -

يمكن أن تكون هناك اشارات نقترب فيها من بعض الافلام، كما في فيلم "سيد

الذباب" المقتبسعن رواية ايضا للكاتب وليام غولدنغ، وكذلك رواية

"الطاعون" للكاتب البيركامو، وخصوصاعندما نجد خذخ الشخصية النسائية التي

تقود المجموعة العمياء نحو علاج مشكلاتها ولانقاذهاوبدافع التعلق بالزوج

وبسب سيطرة صفة الانسانية.

بالطبع نحن لا نعلم لماذا لم تصب الزوجة "جوليان" بالعمى طيلة الفيلم، ولا

نعلم لمذاا قررت أنتكون مضحية بحياتها من أجل الجميع، فهي تبقى الصورة

النموذجية التى تطرحها معالجة الفيلم،وهى الاضافة الخارجية التى تنجم فى

قيادة المجموعة المتمثلة فى العنبر رقم "1" الى طريقالأمان عن طريق كتب

النوازع الشريرة ومعالجة المواقف الصعبة بالمزيد من التعاون الانساني.

هناك شخصيات أخرى اضافية يركز عليها الفيلم، ومن ذلك مثلا الرجل الحكيم

"وانى غلوفر" ‏الذى يملك راديو صغير نعرف من خلاله بان الأمور فى الخارج

تسير نحو الأسوأ، وان وزارةالصحة لم تستطع معالجة الموقف العام.

هناك ايضا الزوجة اليابانية التى تنتقم لنفسها وللجميع بحرق العنبر رقم "3"

بكل ما فيه مضحيةبنفسها ايضا لمصلحة الجماعة.

اعتبارات مختلفة: -

نعم أن القوانين الصارمة تفتر قليلا داخل المركز الصحي، وخصوصا من جانبها

الاخلاقى حيثنجد أن الزوجة "جوليان" قد غفرت للزوج لجوءه الى الخيانة،

لأن هناك واقعا آخرا صعبايفرض نفسه.

ان الزوجات ايضا يقدمن أنفسهن بموافقتهن، لأن الظروف تغيرت وهى ظروف تفرض

اعتباراتجديدة لم تكن قائمة فى السابق.

هناك ايضا عملية قتل تقوم بها زوجة الطبيب "جوليان" ضد زعيم الأشرار، ولا

تقاس بمنطقالجريمة، لأن لها أحكاما أخرى غير متعارف عليها. إنه منطق

البدائية القديمة الذي يسمح بكلذلك، ولكن بمجرد الخروج من هذا المركز

الصحي، يتغير الأمر قليلا ونعود الى شكل آخر منأشكال الحضارة، وهو خروج

ارتبط بانتشار العمى بين الجميع في المدينة.

عندما تتجطم أبواب المركز الصحي الذي هو أقرب الى السجن في حقيقة الأمر،

يجد الجميعأمفسهم في الخارج، فقد نجح كل من تعاون واظهر الروح الجماعية

وسقط من رهن نفسه للانانيةالفردية، ولقد نجح الفيلم في تصوير المشاهد

الخارجية للمدينة المنهارة، بكل ما فيها من كلابوفئران وبشر يبحثون عن

لقمة العيش الصعبة.

ان هذه المشاهد هى أجمل ما في الفيلم، حيث تطرج اسئلة الشك نفسها كثيرا جول

الموضوعوطريقة معالجته، وحول سيطرة الرمز المباشر، واقتراب الفيلم من

حالة عدم الوضوح في أغلبالاحيان، فالفيلم يكاد يبدأ عندما ينتهي.

منطق داخلى

:-

يبدو الفيلم فاقدا لمنطقه الداخلي، ولذلك لا يتم الانسجام الكامل معه، فنحن

نشعر بالحاجة الشديدةالى النهاية منذ أول الفيلم، بسبب التكرار في تقديم

وطرح المعاني، ولولا الصورة التي انسجمتمع حسن اختيار أماكن التصوير لصار

من الصعب تتبع أحداث الفيلم.

تحاول الزوجة ايضا ان تحضر بعض‎ ‎الأكل من أماكن خفية لا يدركها العميان

وينبىء سقوطالمطر بانفراج الازمة، وعندما يصل الجميع الى منزل الطبيب

وزوجته يجدونه كما هو، حيث يتمالانتظار ولو الى حين في المنزل بصورته

المغايرة.

في هذه الاثناء تحدث معجزة ربما تكون متوقعة. ذلك أن أول من اصابه العمى

المؤقت قد استردالنظر، وهذا يعنى أن البقية سوف تلحق به وعلى هذا الأمل

ينتهى الفيلم، مع اشارة خاصة، تشيرالى امكانية أن تصاب الزوجة المخلصة

بالعمى من جديد.

بقدر صعوبة الفيلم الظاهرة يبدو المعنى شديد الوضوح وربما كان شديد

المباشرة، وهذه منعوامل ضعف الفيلم الذي نراه فقط دون الدعوة الى امكانية

التفكير فيه.

رغم وجود بعض الممثلين المهمين، إلا أن الممثلة "جوليان مور" تبدو الأهم،

فقد ظهرت بسيطةطوال الفيلم في تعبيراتها ولم تجهد نفسها بطرق تعبيرية

مصطنعة أو فيها بعض المبالغة. لقدظلت وحدها محافظة على ايقاع الفيلم

المتبدل.

رغم الرقة المسيطرة عليها إلا أنها كانت أفضل ما في الفيلم، ولا شك أن

دورها هو اضافةلادوار أخرى قامت بها مثل: نهاية المسألةمانغوليا

قوانين الجاذبيةالساعاتأرضالحريةهانيبالقطع صغيرةالهارب.

أما المخرج "فرناندو ميرليس" فلم يكن في أحسن حالاته وتبقى بعض افلامه

السابقة هي الأهم،كما في "مدينة الرب" 2002 وكذلك فيلم "البستاني المقيم"

2005، وبحكم جنسية المخرجالبرازيلية، شعرنا بأن الفيلم أقرب الى روايات

أمريكا اللاتينية ولاسيما أن الرمز في الفيلم يمكنأن يمتد الى قضية

الدكتاتورية والعلاقات بين الدول فيما تكشف عنه تلك القوى الكونية الجديدة

بكل ما فيها من متغيرات

.

ليست هناك تعليقات: