الأحد، 28 نوفمبر 2010


الفرد في السينما المعاصرة.. بعيدا عن الأرض وقريبا من السماء


إ
ن أكثر الأفلام نجاحا على المستوى العالمي، هي تلك التي تستمد مادتها من تقلبات الحياة والواقع، ونقصد بذلك طبعا الناحية الفنية والنقدية، وهي أفلام تعالج موضوعات وقضايا لها علاقة مباشرة بالناس، بعيدا عن الخرافات والأساطير وأفلام الكوارث والخيال العلمي، رغم النجاح الساحق لهذه الأفلام من النوعية الأخيرة.

وهكذا يمكن تلخيص واقع الإنتاج السينمائي بالنسبة للجمهور، هناك إنتاج مرغوب يعالج قضايا الواقع الاجتماعي والاقتصادي والانساني، وهناك إنتاج مرغوب أيضا يهرب منه ويبتعد عنه مسافات طويلة.

إن أفلام السياسة والحروب هي أكثر الأنواع تفاعلا مع الجمهور، لأن مادتها مستمدة من الواقع والتاريخ، وسوف نجد عشرات الأفلام التي استحقت الجوائز العالمية وهي من هذه النوعية الواقعية، مهما اختلفنا من درجة الاقتراب من الواقع أو الابتعاد عنه.

مع حرب العراق مثلا أنتجت الكثير من الأفلام، وهي أفلام أمريكية في أغلبها، وعندما نصنف هذه الأفلام سوف نجدها واقعية اجتماعية، تقترب من السياسة بدرجات مختلفة.

خذا ينطبق على مشكلات حيوية أخرى تفرض نفسها، ولعل الأزمة الاقتصادية العالمية هي أهم هذه المشكلات، وهي بالتالي استحقت اهتماما أوسع من السينما، لأن تفاصيلها تصل الى الفرد العادي، وليس فقط مجموعة معينة من الأفراد.

على سبيل المثال أعيد إنتاج فيلم "وول ستريت" ولكن بموضوع جديد، حمل اسم "المال لا ينام" ولعل الأزمة المالية وحدها التي صنعت هذا الفيلم إنتاجا، وصنعت نجاح الفيلم على المستوى التجاري.

وبالطبع تختلف المعالجة من فيلم الى آخر، حيث تظهر الأزمة المالية العالمية أحيانا جانبية، لكنها هي التي تحرك الفيلم وتقود الأحداث، ولعل الفيلم الجديد لجورج كلوني يشكل دليلا على ذلك.

إننا نقصد فيلم"عاليا في السماء"، وعندما نقول جورج كلوني، فنحن نعني الممثل وليس المخرج، فقد استطاع هذا الممثل أن يحقق نجاحات متتالية، حتى صارت تنسب إليه الأفلام ليس باعتباره نجما، ولكنه ظاهرة في التمثيل، اجتمعت فيه الكثير من الخصائص والسمات والتي تعني وانما نجاح معظم الأفلام التي يشارك فيها، ولاسيما أن المشاركات تقترب قليلا أو كثيرا من السياسة بمفهومها العام.

فيلم" عاليا في السماء" من إحراج جاسون ريتمان ولقد اشتهر بفيلم نال شهرة واسعة وهو "جونو" وقبل ذلك فيلم"شكرا على التدخين".

والمخرج يعيد في فيلمه الجديد بعض الإشارات التي سبق أن قدمها، ولاسيما ما يتعلق منها بالتركيز على المنحى الانساني وموقف الإنسان من المصاعب اليومية التي تجتاح حياته.

"عاليا في السماء" فيلم يستند على "الوظيفة" ونقصد بذلك وظيفة الفرد داخل الفيلم، فنحن نجد مثلا بعض الأفراد مهمتهم القتل وآخرين مهمتهم البحث عن العدالة لغيرهم أولا لأنفسهم.

نعم هناك وظائف مختلفة تستند عليها الأفلام، ومنها الطبيب والعميل السري والقاتل المأجور والأستاذ الجامعي وغير ذلك من الوظائف، ولكن هناك نوعية من الأفلام تقدم الوظائف الغريبة، فمثلا سوف نجد فيلم"الرسول" يختار وظيفة استثنائية وهي أن يقوم الرسول بإبلاغ أسر الضحايا بموت أحد أفراد العائلة في الحرب، والرسول يتنقل من أسرة الى أخرى بحيث يبدو وكأنه شبح الموت الذي ينفر منه الجميع.

في السينما العربية، سوف نجد في "السقامات" شخصية مميزة وظيفتها حضور المانح والمشاركة في الجنازات نظير مبالغ مالية مدفوعة، وهذا يتشابه مع شخصية الحانوتي، أو من يقوم بعملية الدفن، وهي الشخصية التي لم تقدم في السينما العربية بشكل جيد.
في بعض السينما، تظهر أيضا شخصية "الدوبلير" وأحيانا شخصية البديل وهو من يقوم بأعمال صعبة بديلا لبطل الفيلم فى السينما.

في هذا الفيلم -عاليا في السماء- نجد شخصية لها وظيفة غير مألوفة، وهي وظيفة أفرزتها الأزمات المالية التي عصفت عالميا بالشركات والمؤسسات والمصانع والمصارف وغيرها، حتى صارطرد الموظفين مسألة اعتيادية ويومية، وبالتالي صار من الضروري وجود "عميل خاص" يتصدى لهذه المهمة ويتولى أبلاغ الموظفين بعملية الفصل من الوظائف.

هذا ما يقوم "رايان بنغهام" أو جورج كلوني، إنه يطير من مكان الى آخر ومن ولاية الى أخرى، بقصد إبلاغ الموظفين بقرارات الفصل، ويتحمل هو وحده تبعات ذلك من انفعالات وشتائم وأحيانا مواقف عاطفية صعبة، تصل الى درجة البكاء.

ولقد بدأ الفيلم بمشاهد أقرب الى الوثائقية توضح ردود أفعال الناس بعد إبلاغهم بإلغاء عقودهم، بعد سنوات طويلة من الخدمة. ومن الواضح أن الاستعانة قد تمت بمجموعات تم فصلها فعليا ولم يدخل الأمر فى باب التمثيل فقط.

يسير الفيلم باتجاهين.. الأول علاقة "بنغهام" بأولئك الذين يتم فصلهم في مواجهات شخصية وأحيانا في اجتماعات موسعة، يستخدم فيها بنغهام نفس التعبيرات التي تحاول أن تراعي مشاعر الآخرين، مثل الحديث عن بدايات الرحلة وحزم حقائب السفر والتطرق الى المستقبل بقصد البداية من جديد، ولكن الكلام لا معنى له لأن من يتم فصلهم يصلون الى درجة الانهيار ولا يمكن الرفع من معنوياتهم بسهولة، بل يذكر الفيلم حادثة -عرضا -أساسها انتحار أحد الموظفين، بعد قرار الاستغناء عنه.

لا يهتم الفيلم بالمسارات الشخصية لكل هؤلاء، ويركز على الشخصية الأولى "بنغهام" وعلاقاته المختلفة مع من حوله، وهذا هو الاتجاه الثاني.

سوف نجد في هذا الفيلم شخصية نسائية أولى وهي امرأة تنتقل مع بنغهام من فندق الى آخر وعلاقتهما أحيانا تبدو رومانسية، وأحيانا علاقة جسدية مباشرة، وفي مشهد جيد نكتشف أن هذه المرأة متزوجة ولها أبناء ولم تتطرق الى ذلك طوال علاقتها مع بنغهام.

تبدو شخصية "جورج كلوني" وكأنها نموذج للحياة المعاصرة، فهو رجل لا يهتم بالبيت والأسرة وغير مقتنع بالزواج والاستقرار. إنه يطير دائما ويهرب باستمرار من شيء ما ويحاول أن ينع نفسه بهذه الآراء، بل ويقنع غيره.

هناك فتاة أخرى صغيرة السن، هي موظفة جديدة، تقدم مقترحا بديلا تقنيا، لغرض إبلاغ المفصولين عن العمل عن طريق الشبكة الدولية "الانترنيت" ويوضح الفيلم نجاح هذه الطريقة، ولكن الجانب الانساني فى محاولة المواساة يبدو ضعيفا، لذلك يأخذ بنغهام هذه الفتاة الى رحلة لكي يعلمها كيف تتعامل مع المفصولين وكيف تمتص انفعالهم وغضبهم وتفشل الفتاة في هذه التجربة، بل تتحرك المهنة نهائيا في آخر الفيلم.

من القصص الفرعية نجد مواجهة لبنغهام مع ابنة أخته والتي تسعى للزواج وهو يتدخل لكى يقنع الزود بإتمام الزواج، بعد أن قرر إلغاء المشروع، وبالفعل ينجح بنغهام في ذلك، رغم انه غير مقتنع بالأسرة والاستقرار العائلى.

يصل بنغهام الى رحلة مجموعها 10.000.000 ميل من الطيران في السماء. إنه يبتعد عن الأرض وأهلها ومشكلاتها، لكنه مجبر دائما على العودة الى الأرض، حيث المشكلات تتزايد وأهمها مشكلات البطالة والفصل عن العمل.

الفيلم يعتمد على رواية، ولكن الخط الدرامي مفقود، لذلك نجد الكثير من التفاصيل والجزئيات التي أضيفت الى الفيلم، وبذلك يلفت الفيلم الانتباه، غير انه لا يشد الجمهور ولا يؤثر فيه كثيرا، رغم حضور الجانب الكوميدي والدرامي، ولعل ذلك أحد مقاصد صناع الشريط.

ليست هناك تعليقات: