الخميس، 30 سبتمبر 2010



البهجة والأسى في كوكو قبل شانيل


ربما يجذبك لهذا الفيلم تلك الممثلة الفرنسية صغيرة الحجم والتي ليس لها علاقة مباشرة بمتطلبات نجمات السينما من جمال أخاذ وجسد فاتن وصورة جذابة معنوية، ولعل ذلك يدين توجهات السينما الفرنسية في عقودها الأخيرة، وأكاد أقول السينما العالمية أيضا، فقد ولى ذلك الزمن الذي سيطرت فيه على عالم السينما ممثلات اقبلن من عالم آخر مختلف، كما عند صوفيا لورين وأيضا غاردنر وكلودينا كيردينال وجاكلين بيسه وبريجيت باردو وانجريد بيرجمان وغيرهن كثيرات، وصارت صورة الممثلة من صورة الواقع، مما أتاح للكثيرات أن يسيطرن على السينما، بطريقة أو بأخرى في ظاهرة ربما لا تستمر طويلا.

وإنما نقصد بالطبع الممثلة الفرنسية "اوردري توتو" والتي بدأت عام 1996 من خلال مسلسلات التلفزيون والأفلام المرئية، وفي عام 2001 جاءتها الفرصة السانحة، فقدمت الدور الرئيسي في فيلم بعنوان "اميلي""2002" ولقد نجح الفيلم نجاحا ساحقا ونال جوائز كثيرة، وأتاح لهذه الممثلة فرصة الانطلاق في السينما الفرنسية، وجاءت الأفلام متتالية، وهي:


"أشياء جميلة وممتعة ""2003" و "ليس على الشفاه""2004" و"الخطوبة الطويلة"" 2005" و" دماء من روسيا"" 2006" و "شفرة دافينشي"" وهو فيلم امريكي"، تم "بلاتمن" " 2006 " و"معا ليس أكثر عام""2007".

في هذا الفيلم الفرنسي والذي عنوانه"كوكو قبل شانيل" تبرز الممثلة "اودري توتو" من جديد في دور يناسبها تماما، ومثل العادة، لم تنجح الممثلات الفرنسيات في السينما الأمريكية، بينما يحققن النجاح في فرنسا وأوروبا، وهو أمر ينطبق على أسماء كثيرة، من صوفي مارسو وايزابيل إدجاني الى كاترين دينوف وايزابيل هوبير وغيرهن كثيرات.

هناك حدة في شخصية الممثلة، ربما تنسجم مع روح مصممة الأزياء شانيل، وهناك قسوة في ملامح أودري توتو، ربما تدفع نحو الإحساس بروح الابتكار المتولدة من داخل الشخصية، رغم التهكم والسخرية والمرح، الظاهر في الملامح الخارجية لهذه الشخصية.

ومن جانب آخر ينتمي هذا الفيلم الى أفلام السيرة الشخصية، فهو يركز على شخصية امرأة صعدت من الفقر الى الغنى ومن العتمة الى الأضواء ومن هامش المجتمع الى المركز، وفي هذا يكاد الفيلم يشبه فيلما آخرا، وهو "الحياة الوردية"عن المغنية الشهيرة "أديت بياف". كما أنه يقترب قبيلا من فيلم "النجمة اللامعة" للمخرجة جين كامبيون، وهو من الأفلام الجديدة أيضا.

ولم يكن فيلم "كوكو قبل شانيل" هو الأول، فقد سبقته أفلام أخرى، ويعرض في نفس السنة فيلما جديرا تدور أحداثه حول كوكو شانيل ولكن من وجهة نظر مختلفة.

وربما نشعر بحساسية هذا الفيلم وبصورة أوضح، لأن مخرجته امرأة وهي "آن مونتان" وقد سبق لها العمل بالتمثيل أولا، ثم أقدمت على الكتابة والإخراج، ومن أشهر أفلامها"فتاة من موناكو 2008" وقبل ذلك فيلم"التنظيف الجاف""1997" و"ناتالي""2003".

ولكن أولا لماذا هذا العنوان بالتحديد.. كوكو قبل شانيل؟
من الواضح أن مجريات الفيلم تهتم بالشخصية نفسها، شخصية المرأة كوكو قبل أن تصبح شانيل، بعد أن دخلت عالم تصميم الملابس والقبعات وصارت مشهورة وصاحبة صالون باريس واسع، وأخيرا صار لها عطر عالمي، بل إنها صارت إيقونة فرنسية، لأنها صورت الموديلات الفرنسية الى الخارج، وكانت البداية الفعلية لما يعرف بالموضة الفرنسية في صناعة الأزياء النسائية على وجه التحديد.

إن الفيلم لا يهتم كثيرا بشانيل مصممة الأزياء الناجحة، بل يكتفي بربع ساعة أخيرة، لتصوير نجاحها وبطريقة سريعة ببراعة هذه المصممة.

لا يركز الفيلم على عالم شانيل الناجح، ولكنه يعود الى الماضي، الى سنوات البداية، ففي المشاهد الأولى نجد عربة يقودها رجل لا تكاد تظهر صورته وبها طفلتان أحدهما تنظر الى السماء وليس إلى الأرض، إنها بداية فعلية لفتاة فقيرة تدعى "غابرييل بونور" ولدت عام 1883 وعاشت فقيرة، الى أن ماتت أمها ووضعها الأب مع أختها "اديان" في دار للأيتام، ثم اختفى نهائيا.

وكما تقول غابرييل، فإنه قد هاجر الى أمريكا، ولا يبدو ذلك صحيحا لأنها فقدت الاتصال به نهائيا، وفي مشهد آخر نجد الفتاة تنتظر زيارة والدها في الميتم، لكنه لا يأتي، وتبدو عقدة فقدان الأب واضحة ومسيطرة، وتسعى من جانبها الى تطبيق بعض أفكارها في التصميم غير المكتملة على نفسها وعلى الوسط الراقي من النساء اللاتي يفضلن دائما البهرجة والملابس المعقدة، بينما تتجه كوكو الى البساطة دائما، حتى أنها في بعض الأحيان تلبس ملابس قريبة للرجال.

يدخل الفيلم في دائرة ضيقة ويستفيد قليلا من الحفلات الراقصة الجماعية، وكذلك يستفيد من بعض المناظر الطبيعية في الريف الفرنسي، لكن الأحداث فعليا لا تتقدم الى الامام، فمن ناجية تحتاج كوكو الى البارون ماليا، ومن جانب آخر ترفض أن تعيش مجرد امرأة عشيقة وأقرب الى فتاة الجيشا اليابانية، التي تخدم الرجل بحكم الأعراف الاجتماعية.

كما أن الفيلم يهمل الأفكار الكبيرة والتي تسيّر الأحداث، تبدو أخت كوكو صورة منها، إلا أن طموحها يسير بها نحو الزواج بالبارون الذي تعيش معه، ويفتعل الفيلم بعض المواقف للقاء بين الأختين، كما يضيف شخصية أخرى "امرأة تعمل" وهي ممثلة مسرحية تستفيد من كوكو وفي تصميم القبعات، ويبحث لها عن الخلاص من الرجل تتطلع كوكو الى أن تكون ممثلة، لكن الاختيار يدفع بها الى التعلق بموهبتها في الابتكار والتصميم، ولاسيما بعد فشل تجاربها مع الرجل.

في بعض الأحيان يبدو الفيلم وكأنه يعتمد على التحليل النفسي، فمع فقدان الأب من الصغر، يصبح أيّ رجل أقرب الى أن يكون الحارس والضامن من الفقر، حتى أن مفهوم الحب غير واضح في الفيلم، وعلى سبيل المثال سوف نجد في الشخصية التي تظهر في المنتصف خير دليل على ذلك. إنها شخصية نبيل انجليزي يدعى "بوبي" هو بارون آخر تقريبا، لديه نفس الإمكانات المادية التي تبحث عنها كوكو، ومن هنا جاء اختلاط مفهوم الحاجة مع المصلحة والحب في ثلاثية يصعب تفسيرها.

رغم كل المظاهر، إلا أن العلاقة بين كوكو وبوبي غير مقنعة، وكل ما في الأمر أن النبيل الانجليزي يعاملها بشكل أفضل، وهو يراهن على موهبتها، إلا أن الفيلم يجعله يموت في حادث سيارة، بعد أن ترك كوكو نهائيا، وبعد أن فشل الأمر في الزواج لأن النبيل يبحث عن زواج الطبقات المبني على المصالح المادية.

ان الفشل مع الرجل يقود الى الإبداع.. ذلك ما يصرح به الفيلم من خلال هذه الشخصية كوكو. ولكن من خلال التعبيرات البسيطة وليس التنظير.

وهذه المعادلة تؤكدها كوكو في النهاية، عندما تقرر نسيان الحب وإهماله وهجر الرجل بصفة نهائية بحثا عن العمل في باريس، وبالتالي التأنق في محلات الابتكار والموضة.

في اللوحة الأخيرة من الفيلم تقرأ بان كوكو لم تتزوج مطلقا، كما انها ظلت تعمل طوال الأسبوع وحتى في العطلة، ولم يتطرق الفيلم الى أي تجربة عاطفية أخرى، ربما ثالثة أو رابعة، فهي "كوكو" قد قررت أن تكون "ضد أمها" تلك المرأة التي تزوجت بدافع الحب وماتت وهي مهملة وضائعة في خدمة رجل.

إن فَقد الأب يقود الى الإبداع، وعدم التفكير في الرجل "عشيقا أو زوجا" يقود الى النجاح، ولا سبيل الى إقصاء أو تعديل هذه المعادلة.

هناك ولا شك محطات كثيرة، لم يحاول الفيلم التطرق لها، ومن ذلك علاقات كوكو المتشعبة في باريس ونشاطها أثناء الحرب العالمية الثانية مع وجود القوات الألمانية في فرنسا، فالمسألة كما قلنا تختص بتلك المرأة التي تدعى غابرييل وليس كوكو. أو بالأصح كوكو قبل شانيل كما يقول عنوان الفيلم.

في الإطار العام برت كوكو منسجمة مع نفسها، ظاهريا على الأقل، فلم تكن صاخبة أو متذمرة، رغم أنها كانت أقرب الى المحظية. كما أن الفيلم لم يضع حدودا اجتماعية لحركة المرأة، رغم أن الزمن هو بداية القرن العشرين وفي الحقيقة لا يوجد مجتمع عام في الفيلم، لكن هناك شخصيات من لحم ودم، قليلة تدور في دائرة ضيقة، وإذا قلنا بوجود مجتمع ما فهو مجتمع الطبقات الغنية والتي تعاملت كوكو معها، فكان أن استخدمت تصماميم البسطاء وأدخلتها في عالم النبلاء.

لم يكترث الفيلم بإبراز معالم ومصادر الإبداع عند كوكو، ولاسيما ونحن نعلم بانها قد عاشت في دوائر ضيقة، وربما كان لإلغاء مرحلة الطفولة سببا في ذلك. وفي جميع الأحوال لا يمكن مطالبة أيّ سيناريو بأن يطرح كل ما يمكن طرحه في فيلم واحد، ولاسيما ونحن نتعامل مع أفلام من نوع السيرة الذاتية، وهى أفلام يقال حولها الكثير، ولا نكاد نصل فيها الى رأي موحد، بل ربما من غير المطلوب أن يكون هناك فيها رأي شامل ومُجد.

ليست هناك تعليقات: