اتجاهات ومدارس سينمائية: -
مايكل مان.. المخرج ذو الوجوه المتعددة
المخرج مايكل مان هو أحد المخرجين الذين صنعوا أفلاما قليلة طوال رحلتهم السينمائية، ومازال هذا المخرج قليل الإنتاج الى هذه اللحظة لكن نجاحه تجاوز الإخراج الى كتابة السيناريو والإنتاج وكذلك تقديم المسلسلات المرئية الناجحة.
ولد "مايكل مان" فى شيكاغو عام 1943 من اب مهاجر روسى استقر فى امريكا عاملا فى مجال بيع الخضروات والفواكه. أما الأم فهى أمريكية ومن أسرة متواضعة اقتصاديا، ورغم ذلك فإن الابن مايكل قد اختار أن يعمل فى الموسيقى منذ البداية ومع تخصصه فى اللغة الانجليزية إلا اهتماماته امتدت الى مجالات أرحب شملت التاريخ والفلسفة والنحت، وهو أمر انعكس على أفلامه بعد ذلك، من حيث تكريسه لمبدأ الجدية وطرح الموضوعات المختارة بوعى وتقنية عالية.
ومثل كل مخرج، فقد كان هناك دائما فيلم أول له التأثير الكبير عليه وكان هذا الفيلم هو (لستانلى كوبريك) الشهير بعنوان "دسترانجلان" أو "كيف أتوقف عن القلق وأحب القنبلة – 1964".
درس مايكل مان السينما فى المعهد الدولى للفيلم بلندن، ثم عمل بعد ذلك فى مجال الإعلانات التجارية وبصحبة جيل من المخرجين ومنهم ريدلي سكوت والآن باركار وادريان لين.
أول أفلام:
فى عام 1971 عاد المخرج الى امريكا واخرج فيلما تسجيليا بعنوان (17 يوما تحت الخط)، ثم عمل بالتلفزيون وكتب وأخرج عدة حلقات من مسلسلات مختلفة، الى ان جاء فيلم المخرج الأول والذى أعد فى البداية خصيصا للتلفزيون، وهو (أميال جريكو) عام 1979 وقد فاز الفيلم بجائزة الإخراج وأفضل فيلم فى جوائز (اويمى) الشهيرة.
ومن الأعمال المرئية، الشهيرة التى عمل فيها منتجا منفذ (شرطة ميامى – قصة شرطي) ومن الطبيعى ان يكون له تأثير فنى واضح من الناحية الفنية على هذه الانتاجات، رغم انه فى بداياته الأولى.
نجح الفيلم الأول (أميال جريكو) وخصوصا وأن موضوعه يقترب من عالم السجناء، حيث يأمل سجين لمدى الحياة فى المشاركة بسباق الاولمبياد ويحول السجن الى مكان للتدريب.
ومن مميزات الفيلم الجانب الواقعى المسيطر عليه. كما بدت المزاوجة واضحة بين الاتجاهين الاوربى والامريكى فى الإخراج، وكذلك غلبة الأسلوب التسجيلي وحضوره على الجو العام للفيلم.
نجاح واسع:
فى الفيلم الثانى للمخرج كان النجاح أوسع، وقد جاء الفيلم بعنوان (اللص) أنتج 1981. وهو أول فيلم سينمائى للمخرج، اعتمد فيه على كتاب لفرانك هومير بعنوان (غزاة البيت).
ربما كان الفيلم قريبا من الأفلام السوداء، ولكنه لا يخلو من انتقاد جماعى للطبيعة الفردية. من خلال التركيز على شخصية اللص (المعزول) (فرانك) والذى قام بدوره الممثل (جيمس كان)، عندما يخرج من السجن عازما على عدم العودة إليه، ولكن هناك من يدعوه للقيام بعملية أخيرة يكسب منها مالا وفيرا يساعده على العيش بهدوء بعد أن خرج من السجن، وتكون النتيجة فقدان فرانك لكل أخلاقه القبض عليه، ولقد أعادت السينما الأمريكية على وجه التحديد هذا الموضوع مرات عديدة، وبطرق مختلفة، ولكن يبقى فيلم مايكل مان من أهم الأفلام المتميزة فى استمرار لنهجه الواقعى، حاول مايكل مان أن يقدم فيلما قريبا لفيلمه "السابق" واختار بعد قراءات عديدة رواية بعنوان (الحارس) وهى أقرب الى روايات الرعب المتخيلة بما تحتوى عليه من هلوسة وكوابيس مرتبطة بالحرب العالمية الثانية، من خلال قصة ويحرص عدد من النزلاء فى قلعة برومانيا هاجمتها القوات الألمانية.
هذا الفيلم الغرائيبي لم يحقق النجاح المتوقع، رغم وجود وعدم من (الممثلين الجيدين مثل (أيان ماكلين وسكوت غلين وجيركين بروغونف والطبع ينسب كلا الفيلمين الى المخرج لأنه أيضا كاتب للسيناريو.
أنتج الفيلم السابق عام 1983 ولقد عمل المخرج بالإنتاج لسنوات معينة ثم اخرج فى عام 1986 فيلما بعنوان (الراجل الصياد) وهو مقتبس عن رواية بعنوان (التنين الأحمر) لتوماس هاريس، وهى تتعرض لقاتل يرتكب سلسلة من الجرائم وهو (هانيبال) بينما يحاول العميل السرى باترسون الكشف عنها ومعرفة هذا القاتل الذى يملك قدرات خاصة نفسية وعقلية. ولقد اعيد هذا الفيلم بعنوان آخر وهو (صمت الحملان، والقاتل فى الفيلمين يتراوح بين شخصين الأول هو هانيبال والثانى هو (بافالوبيل).
أسطورة ولكن: -
ان الفيلم يحتوى على أكثر من مجرد الشكل الظاهرى للقصة، ولكن النجاح الذى أصاب الشريط الثانى كان كبيرا (1991) والشهرة التى نالها المخرج الثانى (جوانان ديمى) كانت أوسع، والسبب يعود الى تركيز الفيلم الثانى على النزعة الوحشية داخل الإنسان بما تحتوي عليه من قدرات خارقة. أما فيلم مايكل مان فهو فيلم يتحسس الجانب الواقعى الاجتماعى ويبتعد عن الأسطورة فى إطارها البدائى.
كان أشهر الممثلين الذين اختارهم المخرج للعب الأدوار الرئيسية، وليام باترسون وكيم قريست ولعب دور "الدكتور" بريان فوكس، ومما تناوله النقاد فى هذا الفيلم التجاوز فى استخدام الألوان ونوعية اللقطات والزوايا المتعددة، حتى اعتبر فيلم (الرجل الصياد) من الأفلام الكبيرة من الناحية التقنية وأعطيت له أحيانا تفسيرات سياسية متباعدة القراءة، بل هناك من قارنه بالفيلم الشهير تلصص توم (إنتاج 1960 لمخرجه (مايكل باول).
لم يحقق الفيلم نجاحا واضحا فى دور العرض، ولم ينجح أيضا عندما بث مرئيا، والفيلم يعبر عن حاجة المخرج للإنتاج التلفزيونى وتداخل السينما مع التلفزيون. ومن جانب آخر كان هناك استعداد دائم لفيلم كبير، وكان هذه المرة بعنوان (آخر أيام الموهيكان) إنتاج عام 1992. ويعد هذا الفيلم من أشهر الأفلام الناجحة الذى يجمع بين المغامرة والتاريخ والدراما، وكان البداية الحقيقية للمثل (دينيس دى لويس).
استفاد المخرج من فيلم بكرة صغيرة عيار 6/فم أنجز عام 1936 للمخرج "جورج ساتيز" معتمدا على رواية لجيمس فينمور كوبر، ومع إعادة كتابه السيناريو بمشاركة مايكل مان أنتج الفيلم الجديد وحقق نجاحا كبيرا ونال اوسكار الصوت لعدد من التقنيين.
ترجع أحداث الفيلم الى عام 1757 عندما كان يتواجد فى امريكا الانجليز وكذلك الفرنسيون، ومع وجود آخر القبائل الهندية (الموهيكان) ومنها البطل الاسطورى (هوكاى).
هناك أيضا قصة حب بين ابنة الضابط الانجليزي (كورا) والتى قامت بدورها (مادلين ستو) وعملية الإنقاذ والصراع الدائر لمحاولة البقاء على قيد الحياة لبواقى القبائل الهندية، ولعل بعض النقاد وقد أشار الى إمكانية اعتبار هذا الفيلم من الملاحم التاريخية القريبة لأفلام سيسيل دي ميل، بل وقرن أيضا بالفيلم الشهير الذى تدور أحداثه فى نفس الإطار وهو (الحبل الأسود) 1991 لمخرجه بروس بيرسفورد، تفوق الفيلم بوضوح شديد.
يحتوى الفيلم على مشاهد بانورامية تظهر الطبيعة المتميزة للبيئة فى تلك العقود والبدايات الأولى لاستخدام الرصاص من قبل الجيش الانجليزى ضد أصحاب النبال والأسهم والأدوات الحربية التقليدية رغم تصنيفه بأنه فيلم مغامرات بامتياز إلا أنه قد احتوى على ما هو أكثر من ذلك، ولاسيما فى مجال إبراز التقاليد الهندية والملابس والعبارات فى مواجهة نهائية مع متغيرات الحضارة الحديثة.
حرارة ساخنة: -
فى عام 1995 ياتى الفيلم الشهير للمخرج، وهو (حرارة)، ومثل العادة، فإن مايكل مان يجرى الكثير من اللقاءات والحوارات مع عدد من المجرمين والسجناء قبل كتابة السيناريو، كما أنه يتعرف على موضوعات أفلامه بالقرب أكثر من الشخصيات، ولقد حدث هذا فى أفلام سابقة وفى هذا الفيلم (حرارة) فإن المعايشة هى أكثر من السابق.
وجاءت النتيجة ايجابية، حيث أعتبر من أهم الأفلام الكلاسيكية الأمريكية تعتمد القصة على الصراع بين الطرفين المتقابلين، اللص ورجل البوليس الأول (ماكلوى) روبرت دى نيرو والثانى (هانا) آل باشينو.
ومثل العادة يصل الصراع الى أوجه بسبب ذكاء وألمعية الأطراف المتصارعة غير أن (حرارة) يتعمق فى الوقائع والتفاصيل، وكأنه قد أعتمد على رواية أدبية، رغم ليس كذلك.
ان المواجهة بين الطرفين المتصارعين تكشف عن حاجة كل منهما للآخر لكي يضمن كل طرف أن يستمر فى عمله، ويحقق النجاح المطلوب، وبالتالى فإن الانتصار الأخير مؤجل بسبب هذه الحاجة، فالعداوة الظاهرة تبدو شكلية لأن الحاجة ملحة الى الخصم لتأكيد الذات، وهى حاجة تزيد عن الحاجة الى صديق أو شريك، ومن جانب آخر تعمل الزوجة على إيقاف روح المغامرة لكل الإطراف، لكن هذه المغامرة مستمرة الى النهاية.
بالإضافة الى الممثلين السابقين هناك أيضا (فال كليمر – جون فوت – أشلي جود – هامك ازاريا). والتمثيل فى هذا الفيلم عنصر نجاح مهم.
غلة جديدة: -
مع آل باشينو كانت النقلة التالية، وكان الفيلم بعنوان (العارف) عام 1999، وبطولة الممثل (رسل كرو) ومع الاعتماد على مقال للكاتبة (مارى برينر) بعنوان: الرجل الذى يعرف كثيرا. ولم يختلف هذا الفيلم عن سابقه كثيرا، وخصوصا من الناحية الفنية، لكن الموضوع هنا هو المسيطر مع قلة الحركة وعناصرها، والاعتماد على التوتر والتشويق.
يبدو فيلم (العارف) وكأنه أفضل أفلام المخرج، فهو يوظف كل العناصر الفنية لمصلحة الفيلم، ويتجه نحو الجانب الانتقادى السياسى ضد الشركات الكبرى على وجه التحديد.
أما قصة الشريط فهى مواجهة بين خبير بشركة التبغ (جيفرى وقرد) والذى يضع على الملأ معلومات خطيرة، حول ما تقوم شركته الكبرى من عمليات لوضع مادة مخدرة داخل لفافات التبغ المباعة لكى تجعل المستهلكين أكثر ادمانا على بضاعتها المباعة، ويتعرض جيفرى الى التهديد ومعه أسرته ويقف معه مقدم برنامج (ستون دقيقة) من خلال إحدى القنوات المرئية (بيرجمان) لتقديم التقرير المفصل عن عمليات التصنيع داخل الشركة.
فى الفيلم صراع داخلى بين الإخلاص للقسم الخاص بالشركة من قبل المهندس (راسل كرو) والتصريح بما هو غير قانونى من ممارسات تستخدم لاستغلال المواطن.
لقد تم ترشيح الفيلم الى عدة جوائز أوسكار، لكنه لم يفز بأية جائزة ورغم فوز الفيلم بعدة جوائز، إلا أن مايكل مان لم ينل جائزة أوسكار أفضل مخرج وكانت فرصة بالنسبة لفيلم (العارف) يصعب تكرارها بسبب قلة الأفلام التى يخرجها مايكل مان.
الحياة والواقع: -
يتجسد الاهتمام بالوقائع الحياتية فى فيلم مهم من أفلام المخرج مايكل مان، وهو فيلم (علي) إنتاج عام 2000. ورغم عدم النجاح التجارى للفيلم وكثرة الانتقادات حوله، إلا أن طبيعة هذا الفيلم تجعله من أفلام السير الذاتية المتميزة أيضا نجد أن الفيلم قد اختار قطاع زمن معين من حياة الشخصية وركز عليه، لا يتعدى العشر سنوات أى من عام 1964 الى عام 1974. وهى الفترة المهمة التى كسب فيها محمد على كلاي لقب الملاكم الأول فى الوزن الثقيل، ثم انتقاده للتدخل الامريكى فى فيتنام وسحب اللقب منه وفقدانه البطولة وإعادتها من جورج فورمان. كما يناقش الفيلم بعض القضايا السياسية والاجتماعية التى لها علاقة بالملاكم محمد على كلاى واعتناقه للإسلام وتأثير بعض الوقائع عليه، مثل اغتيال مالكولم اكسى ومارتن لوثر كينج. إن نوعية الفيلم ليست درامية، مع نزوع نحو تجسيد الأحداث فعليا ومن ذلك ما قام به الممثل (ويل سميث) من تدريب شامل فى الملاكمة وزيادة وزنه واستخدام ملاكمين محترفين داخل الفيلم وعناية بالملابس والديكورات وتفاصيل الحياة اليومية التى يتفنن فى ابتكارها مخرج مثل مايكل مانى.
نعم لم ينجح الفيلم كثيرا – رغم استخدامه واستغلاله لكل شىء، والسبب يعود الى برودة الفيلم وعدم حيوية الأحداث، مقارنة بالحيوية التى كان عليها الملاكم فعليا.
ومن الناحية الفنية هناك امتيازات جيدة للفيلم أهمها جمع المخرج للثقافة الزنجية مع الملاكمة، وتأكيد الذات فى مواجهة العنصرية، ونقل الصراع من داخل الحلبة الى خارجها وبالعكس.
ولولا بعض الاعتبارات التى تخص السوق ومتطلبات الإنتاج التجاري لامكن القول بأن المخرج يقترب من السينما الشاعرية أحيانا، وبالتالى يمكن مقارنته ببعض المخرجين الكبار مثل تاركوفسكى أو بريسون أو بازولينى.
الكفيل الأول: -
فى عودة الى أجواء العصابات والمطارات يقدم المخرج فيلما جديدا، وهو (الغامن) 2004 بطولة توم كروز وجيمى فوكس، ويعتمد الفيلم على
تناقض شخصيته.. الأول فينست وهو قاتل متهور يحمل حقيبة مالية والثانى ماكس وهو سائق تاكسى يختلف تماما فى كل شىء عن الشخصية الأول واعتماد على هذا التناقض تدور أحداث الفيلم، مع تواصل عمليات القتل المتتالية وتورط السائق مع القاتل منها.
لقد حقق الفيلم نجاحا كبيرا وخصوصا من حيث الإخراج فنيا، كما أن الحركة والتشويق الظاهرى تتكفل ببعض الاعتبارات الأخرى، ذات الطابع الفلسفى التى تحضر فى خلفية الأحداث، وهذه ظاهرة لازمت المخرج مايكل مان حيث يقدم فيلما بسيطا فى ظاهره وعميقا فى محتواه الفعلى.
بعد ذلك مباشرة جاء فيلم (شرطة ميامى – 2006) وهو فيلم سبق ان أنتجته مايكل مان فى شكل مسلسل ناجح (1984 – 1989)، والفيلم من النوع البوليسى المتحرك الملىء بالمطاردات وصراع عصابات التهريب، ورغم النجاح التجارى للفيلم، إلا انه يعد من الأفلام البسيطة فى موضوعها، ولا تتحقق فيه الا كثرة المشاهد العنيفة واستخدام لعبة التشويق والإثارة والإبهار، مع استغلال حضر أكبر عدد من النجوم مثل كولين فاريل وجيمس فوكس.
لا يستخدم المخرج فى فيلمه قصة واضحة، لكنه يستفيد من بعض الحلقات التلفزية. لتقديم فيلم فيه الكثير من التسجيلية أحيانا.
يمكن القول بأن نجاح المخرج مايكل مان لا يوازيه الا نجاح المنتج فى عدد من المسلسلات مثل (قصة جريمة) 1986 وكذلك أفلام مثل (الطيار – 2004) ثم الفيلم المعروف (المملكة) 2007 والذى اعتبره بعض النقاد أقرب الى المخرج، لأنه لم يكتف بالإنتاج، أشرف عليه فنيا رغم أن الفيلم قد نسب لمخرج آخر أيضا هناك فيلم للممثل ويل سميث بعنوان (هانكوك) وهو من إنتاج مايكل مان 2008.
وهكذا جمع المخرج بين الإخراج والإنتاج وتأليف القصة وكتابة السيناريو وكلها وسائط فنية تسمح بالقول بأن الفيلم ينتمى الى خصائص مدرسة مايكل مان الفنية، فهو مخرج مؤلف رغم قدرته على الإمساك بالجمهور وجعل السينما أداة من أدوات الإمتاع والتشويق، وهى على ما هى عليه، تحمل معها ما يحضر فى الخلفية لتجعله بارزا فى الوقت المناسب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق