الخميس، 5 فبراير 2009

مرة اخرى كلينت ايستوود فى فيلم جديد--غران تورينو


بطولة ولكن بطريقة مختلفة


‏بعد أن ظل لفترة طويلة ممثلا متميزا، له خاصية لا تتواجد عند غيره من الممثلين، وبعد أن كسب جمهورا واسعا عبر أفلام الكابوي والأفلام الحربية وأفلام الحركة، رغم أنه لم ينل تقديرا رسميا عن هذه الأدوار، وبعد تجربة إثر الأخرى في الإنتاج والتأليف الموسيقي وإدارة الإنتاج، بعد كل ذلك يبرز كلينت ايستوود مخرجا لا تستطيع إلا أن تقف أمامه باحترام شديد، بسبب نوعية اختياراته السينمائية والجدية التي يعمل بها والكلاسيكية التي لا تجازف بموضوعاتها ولا تدخل في دوائر التجديد والتأثر بما يطرأ علئ السينما من متغيرات شكلية وتقنية.

ربما كان بطلا متميزا في أفلام الو سترن وبالتحديد في أفلام ألمخرج الإيطالي سيرجيى ليوني- أفلام السباغيتي- لكن في أفلامه التي أخرجها يخرج عن إطار التشويق والمتعة في حد ذاتها. لتحمل أفلامه رسائل معينة، ربما تكون إيجابية أحيانا، لكنها تبقى رسائل للجمهور. فالفيلم وجهة نظر لها غاية معينة قبل كل شيء. إن هذا المستوى من التفكير يتجلئ في أهم أفلام المخرج كلينت ايستوود،بداية من(الطائر) عام 1988 ‏إلى (طفلة المليون دولار 2005 ‏) مرورا بفيلم (اللا متسامح 1992 ‏) وصولا إلى (رسائل من جيما 2006 ‏)، وهناك أفلام أخرى واضحة التمييز ومنها (قوة مطلقة- جريمة حقيقية) وأيضا (اعلام الاباء2006 والنهر الغامض 2003

‏كما سبقت الإشارة، فإن هناك من يرى بأن المخرج ينحاز للكاميرا التقليدية، ويحاصر نفسه بموضوعات ليس فيها إثارة وطرح أسئلة، وهو يقترب أحيانا من الميلودراما، بنظرته المفرطة في الواقعية، هناك من يرى ذلك، ولكن لآ يمكن أبدا إلا أن تحترم هذا المخرج، فهو يتعامل مع السينما بالكثير من الجدية المفقودة عند أجيال مختلفة عنه، وهو الشيخ الذي يكاد يبلغ الثمانين من عمره ورغم ذلك يملك كل حيوية الاستمرار.

‏في سنة 2008 ‏قدم المخرج كلينت ايستوود فيلمين الأول بعنوان التحدي وقامت ببطولته الممثلة انجولينا جولي، وقدم أيضا فيلما مختلفا، وقد جاء بعنوان (غران تورينو) وقد لعب فيه الدور الأول الرئيسي، بمشاركة عدد من الممثلين الآخرين، غير المعروفين، بدرجة كبيرة، ولا سيما وهم يقدمون أدوارا لشخصيات غير أمريكية، ربما للمرة الأولئ. إن السيطرة والقيادة لهذا الممثل في الإخراج والتمثيل.

‏اما العنوان (غران تورينو) يعود إلن نوع من السيارات، صممته شركة فورد

‏في بداية السبعينات في أمريكا، وهي رمز للسيارات الفارهه والسريعة والقوية، وهي رمز أيضا لمرحلة أمريكية معينة، كانت فيها أمريكا تشكل أسطورة وعنصر جذب، رغم الإخفاقات الحربية في مناطق من العالم، والتي اعتبرها الفيلم دليل صحة وعافية،كما في الحرب الكورية التي دخلتها أمريكا، وكان فيها (والت كو السكي) عسكريا صارما، يعتقد أنه قد خدم أمريكا بقدراته القتالية الخارقة ضد المقاومين الكوريين.

‏هذه السيارة الطويلة المتينة، يقوم والت (كلينت ايستوود) بغسلها وتلميعها بشكل مستمر ويحافظ عليها وكأنها أيقونة تعبر عن زمن القوة الأمريكية في كل شيء. رغم أن هذه القوة قد وجهت إلى الضعفاء وكانت في غير محلها. لكن الفيلم لا يطرح هذا السؤال ويربط بين السيارة وصاحبها، رغم أنه لا يكاد يستعملها.. يستعمل سيارة أخرى بديلا عنها، ربما لأنها لا تصلح إلا للنزهة والمناسبات الخاصة، وليس للاستعمال اليومي.

‏إن جيل الستينات وما بعد ذلك بقليل، والذي يشكله (والت كو السكي) هونموذج للأمريكي، حسب افرازات وسائط الإعلام المختلفة. هذا النموذج يجد نفسه يعيش حاليا وسط متغيرات كثيرة، يكتشف حضورها من حوله.

‏يبدأ الفيلم بمراسم جنازة الزوجة (دورتي) ويكشف المشهد عن علاقة فاترة بين كوا لسكي وأبنائه (ميتش وستيف) وكذلك الابنة اشلي التي لا تضع اعتبارا لحالة الحزن ولا لمراسم جنازة الأم.

‏هناك موقف اخر يكشف عنه المشهد الأول وهو خاص بعلاقة كوا لسكي بالدين فهو لا يكترث كثيرا لموعظة القس عن الحياة والموت، ويعتبره مجرد طفل تعلم بعض الجمل من المدرسة الدينية وجاء ليلقيها في كل قداس.

‏إن تجربة الحياة الصعبة التي مربها والت كوا لسكي جعلته قاسيا، فقد تعلم من الحرب د روسا عملية وتعلم من الواقع ما هو أهم بالنسبة إليه، وهذا ما جعله يعيش الماضي، فهو المتقاعد الذي ينتقد كل متغيرات ألحياة الجديدة وبالأخص عدم الولاء والنظرة النفعية الضيقة، واستخدام منتجات غير أمريكية.

‏تقول الفتاة اشلي لأبيها بأنها ترغب في أن تنال السيارة غران تورينو بعد موته، وربما عبر باقي الأبناء عن ذلك أيضا بالتفكير المبكر في بيع المنزل الذي يقطنه الأب في مدينة ديترويت بالقرب من المصانع المتناثرة، حيث رفض كوا لسكي أن ينتقل إلن مكان اخر، رغم كثرة الاغراءات.

‏إن سخط كوا لسكي ينتقل إلى الجيران أيضا وهم جماعة من الكوريين ليس لديه معهم أي علاقة ايجابية فهو ينفر منهم، ويطالبهم بأن يبتعدوا عن الفناء المعشوشب الدى يحاصر بيته

‏ربما يكون الفيلم في هذا الجانب من الأفلام التي حاولت أن تقترب من (الآخر) وهو أمر صار موضوعا ملحا بعد احدات سبتمبر نفي امريكا. فهؤلاء الأجانب الذين يعيتنون في مناطق من امريكا متقاربين من بعضهم صاروا يحاصرون بعض السكان من الامر يكان، منلما حاصر سكان من أسيا وامريكا اللاتينية السيد والت كوا لسكي فصار الأمريكي الوحيد بين الغرباء المهاجرين.

‏إن هذا ما حدت فعلا، لا نكاد نرى في الفيلم إلا امريكيا واحدا وحوله عدد من الأجانب الذين هاجروا إلى أمريكا وصاروا جزءا منها.

‏لاشك أن النفور من هؤلاء الأجانب، ليس إلا مرحلة أولية، إذ لا يحاول كوا لسكي أن يعود إلى أسرته وأحفاده، فالقطيعة واضحة ولا مجال

‏للصلح معهم، وخصوصا أن تفكير أسرته يكمن فقط في ما يمكن أن يتحصلو ا عليه بعد وفاته.

‏منل عادته يبد وكلينت استوود صارما وعابسا وملامحه القاسية لا تتبدل.. رغم أن الدور فيه بعض المرح حيت يفرز اختلاف التقا فات بعض التناقضات الخفيفة بين الأطراف المتعددة.

‏فعليا يبدأ الفيلم بمحاولة أحد أفراد

‏الأسرة المجاورة (تو) سرقة السيارة (غران تورينو) وهو يقوم بذلك رغم أنفه بسبب فرض عصابة الاشقياء من الكوريين أمرها عليه وخصوصا بعد انقاذه من عصابة أخرى تكونها جماعة من سكان أمريكا اللاتينية.

‏يفشل (تو) في سرقة السيارة، ولا يتعرف كوا لسكي علئ من حاوله السرقة، إى أن يتدخل يوما في النزاع الجماعي بين العصابة بقيادة ابن

‏العم وبين أسرة (تو) ويطرد العصابة بتهديد السلاح الذي يخرجه من مكمنه والذي يعود إلى أيام الحرب في كوريا. بهذا يكون الفيلم قصة بسيطة تروى مما يؤكد حضور السيناريو قبل الاخراج.

‏بعد أن انهالت الأسرة المجاورة علئ كوا لسكي بالورد والأكل تقديرا له عن دوره في حمايتهم لأنهم يحتاجون إلن رجل قادر علئ ذلك يعمل كوا لسكي علئ طردهم.. إلا أنهم يصرون علئ تقديم المزيد من الأكل ..وعندما يتذوته كوا لسكي يجده لذيذا، فيسمح لهم بالاستمرار في تقديم ولائم الامتنان والتقدير، رغم أن الكاميرا تظهر مرضه في اكثر مشهد. إن الأكل هنا هو مفتاح العلآقة بين تقافيتن مختلفتين، التقا فة الأمريكية التقليدية المحافظة المترددة التي لا تعترف بالآخرين وتتعالى عليهم، والثقافة الآسيوية (الكورية) التي تحاول أن تتسلل إلى داخل التقا فة الأمريكية.

‏ليس ما يقدم هو الأكل فقط أوشتلات من الزهور ولكن بعض المعاني المرتبطة بها، ومن ذلك منع رفض الأكل المطروح باعتباره هدية بل وتقديم واجب الاحترام لمن يقدم الورود والزهور.

‏بعد عدد من الشناهد وبعد تحسن العلاقة بين كوا لسكي والكوري الصغير تو سوف يقدم الأول للتأني هدية وهي عبارة عن ميدالية نالها قديما أيام الحرب.

‏هذه المفردات، الأكل الشهى ، ميدالية الحرب، الزهور، هي مفردأت لعلاقة تقافية متفاعلة أراد الفيلم أن يعبر عنها ببساطةشنديدة.

‏في بعض الأحيان نشعر بأن كلينت استوود يكاد يشبه (هاري القدر) وهو التنخصية التي قدمها في بعض الأفلام لكنه هنا يسير نحو اتجاه مختلف فهو شرس ويستخدم السلاح ضد خصومه لكنه لا يستعمل السلاح فعليا، إنه نموذج للبطل المضاد أو البطل السلبي، فهو قد اكتفى بما قدمه أيام التدخل الأمريكي في كوريا بممارسته للقتل ويحتاج إلى التكفير عما قام به في السابق.

‏في الفيلم هناك دور جيد للفتاة (سو)، إنها أخت تو ويعمل كوا لسكي أيضا علئ انقاذها من العصابة، وهي عصابة الأقرباء فقد صار الأمريكي أقرب

‏إلى بعض الشخصيات الكورية من الكوريين أنفسهم.

‏تدعو الفتاة سو سوكوالسكي إلى حفلة غداء مفتوحة وبدافع الرغبة في التعامل مع طعام الثقافة المختلفة الشهي يقبل بالدعوة ليتعرف علئ عادات جديدة عليه ومنها عدم وضع اليد علئ الرأس وعدم التفرس في أعين الآخرين، وهكذا تصبح التقاليد الأمريكية في مواجهة مع تقاليد أخرى علئ الأمريكي التقليدي أن يتعرف عليها ويقبلها ولا ينفر منها ذلك النفور المبدئي الذي تجسد بين الجدة الكورية وكوالسكي في بدايات التعارف وتعبيرات الاشمئزاز الصادرة عن كل منهما تجاه الآخر ثم الانتقال إلى معرفة الطالع وتقبل بعض الغيبيات من قبل الامريكى التقليدى

‏كما قلنا لا يكترث كوا لسكي لأفراد عائلته ويتخذ من (تو) الكوري رفيقا وصديقا بديلا ويعلمه بعض المهن التي لا يعرفها، وخصوصا عندما ينزل معةالى البدروم ليجد ورشة كاملة، بها كل المعدات للأعمال المنزلية، فهذا الرجل كما قلنا هورجل تقليدي أمريكي يقوم بكل الأعمال بنفسه أي إننا أمام رجل (كوالسكي) من زمن غير الزمن الحديث

‏إنها محاولة من الثقافةالامريكية لاحتواء الثقافة القادمة من أماكن أخرى، وسوف نرى في مشهد آخر به الكثير من الارتباك

‏كيف يحاول كوا لسكي أن يجعل من تو الكوري المهذب امريكيا في تعامله وفي طريقة عمله وسلوكه، حيث يطالبة بأن يستخدم التعبيرات السوقية علئ الطريقة الأمريكية، والأمر لا يخلو من مزحة إلا أنها وضعت في قالب صحيح لا يمكن اغفاله.

‏تطالب العصابة تو بأن يعمل معها في السرقة هو يرفض بل يطلب من كوا لسكي العفو ويخدم عنده لمدة معينة لكي يمحو ما قام به من اثام عندما حاول سرقة السيارة وهذا التداخل في قبول التقا فات يصبح أمرا ممكنا مع استمرار الأحداث. فلم يعد هناك حاجز بين التقا فتين أو المنزلين المتجاورين.

‏أيضا يحاول كوا لسكي أن يدفع (تو) المتردد إلى اقامة علاقة عاطفية مع فتاة اعتبر أنها الافرب إليه. ولقد منحهما السيارة (غران تورينو) لنزهة قصيرة تعبيرا عن تعاطفه معهما سويا وبالدرجة الأولئ مع الفتى تو.

‏من جانب أخر تبدو علاقة كوا لسكي مع القس (جانوفيتش) مرتبكة ومشوشة فالقسيس يقول بأن الزوجة المتوفية قد طالبته بالسعي إلى نيل اعترافات دينية من كو السكي، وكالعادة لا توجد مبادرة من رجل الدنيا، رغم إلحاح رجل الدين.

‏والكنير من النقاد يرون ان لشخصية رجل الدين تتكرر كنيرا في أفلام كلينت ايستوود وبنفس الطريقة تقريبا فهو

‏يبقى بعيدا عن الوصول إلى مشارف الحقيقة الحياتية الفعلية العملية.

‏في المشاهد القريبة من النهاية تعتدي العصابة علئ منزل تو بالرصاص ليلا، وكذلك تغتصب أخته سو، وذلك ردا علئ تدخل كوا لسكي العنيف ضدها عند التحرش بالفتاة سو وهي لوحدها في الطريق المعزولة. مع ملاحظة أن الطرق الجانبية المنعزلة هي الأمكنة الرئيسية

‏لتصوير الفيلم، وهى التي تحرك الأحداث فعليا.

‏أيضا قبل النهاية يحاول كوا لسكي أن يسير بصديقه الصغير شو نحو العمل في البناء لكي يمكنه من أن يتابع دراسته والصرف علئ احتياجاته. غير أن عصابة الاشقياء لا تسمح بذلك وتفسد المشروع الجديد.

‏المشهد الأخير يمكن اعتباره المشهد الأهم، فهوغير متوقع، وان كان له تمهيد، عندما كان يستخدم كوا لسكي الإيهام باطلاق الرصاص من بندقية أو يستخدم يديه عوضا عن ذلك وفي جميع الأحوال لم نجده قد استعمل البندقية فعليا.

‏في المشهد الأخير توجه كوا لسكي إلى ألقس لكي يعترف ببعض الصغائر، حيث بدا وكأنه تمهيد لمرحلة الموت القادمة، وليس هناك اقتناع فعلي بفكرة الاعتراف، وربما رجع الأمر إلى استجابة لمطالب زوجة متوفية. بعد ذلك يجبر كوا لسكي صديقه تو علئ البقاء داخل المنزل ويتجه نحو العصابة المكونة من أكثر من ثلاثة أشخاص ويوهم الجميع بأنه سيخرج مسدسه، لكنه يخرج (قداحه) لاشعال التبغ وفي نفس اللحظة تطلق العصابة النار عليه لتقتله أمام مرأى سكان العمارة ليلا.

‏وبذلك يصبح القتل عمدا ومع حضور الشهود الكثر وبهذه الكيفية يتم التخلص من العصابة التي حسبما يرى كوا لسكي لا توجد طريقة أخرى للتخلص منها.

‏لقد بدا الأمريكي في هذا الفيلم وكأنه قربان قدم من أجل اسعاد الآخرين، ومن هم هؤلاء؟ إنهم جماعة من الأجانب، من ثقافة أخرى، اتجهوا إلى أمريكا بعد أن طردوا من بلادهم.

‏هذا الأمريكي كوا لسكي يبدو وكأنه بطل من نوعية مختلفة لا يهاجم الآخرين، ولا يستخدم السلاح ولا يفضل الاعتداء .. بل هو بطل الخلاص والتضحية، فهل الأمر كذلك فعلا؟ إنها احداث تذهب إلى الواقع لترجع منه وترجع من الواقع لتعود إليه من جديد.

‏بعد وفاة كوا لسكي انتقلت سيارة غران توريني بموجب الوصية إلن الفتى (تو) فهو الأولئ بها، انتقل النموذج والرمز إلى هؤلاء الأ مريكان الجدد، فقد تم الاعتراف بحضورهم وحضورثقافتهم وليس فقط تواجدهم في كل مكان يمكن أن يصلوا إليه.



ليست هناك تعليقات: