الأربعاء، 25 فبراير 2009

- ثلاثة قردة وربما أكثر





من أفلام السينما التركية المعاصرة


فرضت السينما التركية تلسها علئ العالم في مراحل مختلفة، من خلال الجوائز العالمية التي فازت بها في المهرجانات السينمائية.

ومازال جمهور السينما يذكر ولاشك بعض الأفلام التركية المهمة منل (الطريق و الدواء) وبعض أفلام المخرج يلماز غوني، وأفلام متفردة أخرى، وقف التوزيع عقبة أمام تعرف الجمهور عليها.

خلال العقد الأخير وأكنر قليلا ظهر اتجاه جديد في تركيا، يعرف باسم السينما التركية المعاصرة، وهي تتميز بقدرتها علئ تجاوز المحلية التركية إلى أفاق إنسانية أوسع واشمل، وهذا ما جعلها محط تقدير لدى النقاد من كل أنحاء العالم واهلها للفوز بالعديد من الجوائز في المهرجانات الدولية.

في الوقت نفسه ارتبطت هذه السينما بالحياة الفردية والاجتماعية في تركيا المعاصرة في تركيز متجدد علئ إثارة الأسئلة التي تواجه الإنسان في حيرته ووجوده الحياتي والطبيعي.

يمكن أن نذكر الكثير من المخرجين الذين ارتبطوا بهذه السينما التركية المعاصرة ومنهم زكي ديركويوتز في أفلامه مثل: القدر واعتراف. ونذكر أيضا يسيم اوستاو غلو في أفلام مثل: في الطريق إلى الشمس وفي انتظار الغيوم.

هناك أيضا من ألمخرجين ريحا أردام في أفلام مثل: أزمان ورياح ولسنا إلا شيئا قليلا، وكذلك سميح كابلا نوفلو في أفلام مثل: البيضة وسقوط الملاك، وتضم القائمة عددا أكبر من المخرجين مثل: سيفي فاورمان واوزار كيزلكان وأحمد أولوماني لكن يبقى المخرج التركي نوري بيلغي سيلان هو الأهم والأشهر وخصوصأ أن أفلامه قد نالت جوائز كثيرة ولا سيما في المهرجانات الأوروبية.

من أشهر أفلام هذا المخرج (الشرنقة) 1995 وهو فيلم قصير عرض في مهرجان كان السينمائي. أما أول أفلامة الروائية الطويلة فهو (البلدة الصغيرة، 1998 ‏).

واشتهر بعد ذلك بفيلم (غيوم مايو، 2000 ‏) ثم فيلم (مسافة، 2002 ‏) الذي حاز علئ جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي.

الفيلم الرابع جاء بعنوان (مناخات، 2006 ‏) وفاز بجائزة النقاد العالميين

يبقى فيلمه الخامس وهو (القردة التلانة) الذي فاز بجائزة الإخراج في مهرجان كان السينمائي 2008 ، حيت يشكل هذا الفيلم علامة نضج واضحة في تجربة المخرج، ولا سيما من حيت تركيزه علئ تشريح طبيعة الذات الفردية وعزلتها ومدى قوة تفاصيل الحياة اليومية، وانعكاس ذلك علئ محيط الجماعة والفرد.

يعود بنا فيلم (القردة التلانة) إلن حكاية القردة المعروفة وهي حكاية مصورة أو مرسومة تغطي تلانة أوضاع لتلانةقردة، الأول يغطي عينيه فلا يرى والتاني يغطي فمه فلا يتكلم والتالت يغطي أذنيه فلا يسمع.

وقد ذهبت هذه القصة احيانا حكمة صينية منلا لدلالة علئ الحكمة أو عدم التهور أو اللامبالاة، وخصوصا في حالات الظروف الصعبة، فهذا الاختفاء الكلي أو عدم الحضور الفعلي ربما يكون منقذا، وفي نفس الوقت ربما يؤدي إلى ما هو سلبي وأكنر.

نقول ذلك لأن العنوان (عنوان الفيلم) هو مجرد دلالة رمزية لأحدات الفيلم، غير أنه ليس بالضرورة أن يكون الأمر منطبقا بصورة دقيقة في تداخل بين عنوان الفيلم ومعانيه، ولكن هذه مجرد صورة أولية، ربما تفضي إلى ما هو أبعد من التصور المبدئي المطروح.

يصوع الفيلم حياة رتيبة وتقليدية وهادئة لعائلة مكونة من زوج وزوجة وابن.. لكن هذا الهدوء الظاهرى يأتي من يحرك سواكنه ويهزه بشدةفالتجانس العائلي ليس إلا شكلا خارجيا لقوام هش من الناحية الفعلية.

حقيقة هذا الانهيار تبدأ من الزوج (إيهاب) حيت يقبل عرضا يأتيه من رئيسه في العمل (سيرفت)، وهو عرض مهين.. لكن يقبل به لأنه يوفر له مبلغا جيدا من المال، ولا يغير من وضعيته باعتباره مجرد سائق يعمل عند أحد السياسيين والفارق بين طبقة السياسي وطبقة السائق واضحة. إذ تسمح هذه التراتبية بأن يتحمل الأضعف خطايا الأقوى بسبب الاحتياج المالي. بالإضافة الى المرتب الشهرى المستمر

فعليا يبدأ الفيلم بمشهد سيارة صغيرة يقودها (سيرفت) تتحرك في طريق صعبة وصغيرة ومظلمة، وبسبب سيطرة عامل النوم، نسمع صوت ارتطام فقط لنعرف أن السيارة قد أصابت شخصا مجهولا وعندما يدرك سيرفت ذلك، يختفي بمجرد ظهور سيارة أخرى. ولكن أصحاب السيارة الثانية قد عرفوا جيدا السيارة الأولئ، مما يعني أن هناك مخاوف من بلوغ الحقيقة ومعرفة الجاني الحقيقي.

في نفس الوقت يقود سيرفت انتخابات محلية، ويخشئ أن يهدد هذا الحادث فرصته في النجاح، ولذلك يعرض علئ سائقه إيهاب أن يتحمل المسؤولية فيسجن لشهور معينة بديلا عنه، والإغراء المادي بالطبع هو الحافز.

لم يكن إيهاب يتصور أن هذا المدخل هو ضربة أولى تجر معها ضربات أخرى، وذلك أشبه بلعبة (الدومينو)، فقد أتيحت الفرصة للعائلة لتجديد اختياراتها

الابن إسماعيل يفشل للمرة التا نية في النجاح، ويتعذر عليه دخول الجامعة

وتقفز رغبته في الحصول علئ سيارة عائلية إلى الظهور، وينوي أن يحقق ذلك.. فيعمل علئ هذه السيارة لإيصال التلاميذ إلى مدارسهم. وهو يدفع أمه إلى مطالبة (سيرفت) بدفع المبلغ قبل خروج الأب.

الأم (أسر) ليس لديها حافز واضح، ولكن تريد أن تنقذ ولدها إسماعيل من تعاطي المخدرات والتعامل مع رفاق السوء، ولا يكون ذلك إلا بالمساعدة في الحصول علئ المبلغ مبكرا.

لكن من جانب أخر أتيح للزوجة أن تلتقي بهذا المسؤول السياسي الكبير الذي لديه قدرة واضحة علئ ألتلاعب بمصائر الناس واستغلال احتياجاتهم، وهو يساوم الأم علئ إقامة علاقة غرامية، مفتتحا ذلك باستقبالها في مكتبه، تم إيصالها إى البيت بسيارته، وربما كانت الزوجة في حاجة إلى رجل فكانت هذه العلاقة خطوة مبدئية، صارت بالنسبة

إليها أساسية وضرورية، حتئ بعد خروج الزوج من السجن.

ربما كان القرد الأول هو الابن إسماعيل، فهو قد عاد إلى المنزل بطريقة مفاجئة بعد أن توجه إلى زيارة الأب، ويوضح سيناريو الفيلم السبب عندما يلوث إسماعيل قميصه وتصبح الحاجة إلى تغييره ضرورية، وهذا مبرر العودةالمفاجئة.

يكتشف الابن خيانة أمه مع سيرفت، ولا يجد أمامه إلا صفعها عدة صفعات، وبعد ذلك ينسئ كل شيء فيقفل فمه أمام أبيه وكأنه لم يسمع أو ير أو يتأكد ومرة أخرى يوضح الفيلم أن القيمة المالية هي السبب.

بعد شهور من السجن يخرج الأب ليشهد الخيانة أيضا، عن طريق مكالمة من سيرفت سمعها بنفسه، وقد سبق له أن سأل عن الكيفية التي صرف بها المبلغ، وعن هذه السيارة الجديدة، وعن علاقة زوجته بكل ذلك. ورغم مواجهته لزوجته أو محاولته ذلك إلا أنه يدفع الى أن يكون سلبيا، فكأنه لم يسمع شيئا.

الزوجة يصورها الفيلم بطريقة مختلفة نسبيا، فهي في مشهد له دلالة، نراها وقد أحست بشىء من الحرية، عندما تقذف بحذائها إلى الأعلى وتتمدد علئ الكرسي بكل ارتياح، لا يعوقها الإحساس بالخيانة أوأهمية الاعتراف الفعلي وإنما زيادة الإحساس بأن التجربة تبدو هذه المرة ذات طابع مختلف، والدليل علئ ذلك أنها تبحت عن أية طريقة لكي تدوم علاقتها بسيرفت والتي تريدها ان تتحول من علاقة مؤقتة إلى علاقة دائمة، ولكن من وجهة نظرها فقط،.. ذلك أن السياسي المسؤول يرأها مجرد صفقة انتهت باستلام المبلغ المالي، وخروج الزوج من السجن.

هناك ولا شك حالة من البرود تسيطر علئ الفيلم. وهو برود يخدم عزلة الأفراد وعدم انسجامهم وابتعاد كل منهم عن الآخر. فهذه العائلة التي تسكن بيتا واحدا هي في الحقيقة متفرقة، لا يعلم أي فرد ماذا يدور بذهن الآخر، ورغم الانسجام المبدئي في علاقة الأم بابنها، حيت يخرجها لحفلات معينة ويتنزهان سويا، إلا أن كل تنخص يبقى بعيدا، فلا يقترب من التأني.

هذه البرودة يصورها الفيلم ببطء شديد، وبطريقة لاتصور الأحداث فعليا، إننا لا نرى شخصا يقتل بوضوح في حادث السيارة الرئيسي الذي يبدأ بة الفيلم

كما أننا لان نشاهد فعليا خيانة الزوجة، إلا من خلال صوت الرجل، تم خروجه من البيت، تم تجاذبه أطراف الحديت مع الزوجة، عندما يطلب منها أن تنهى هذه العلاقة، وألا تحاول الاتصال به .

اننا مرة أخرى لا نعلم بجريمة القتل التي دبرها الابن إسماعيل ضد سيرفت، إلا من خلال التحقيق مع الأب، تم اعتراف الابن بذلك لأبيه فقط. إن كل الأطراف لا تريد أن تفقد أوضاعها التي تعيش فيها، ولا تريد أن تنغص حياتها بالبحت في هذه الخيانة، وهي تقبل بها وترضاها، حتئ لا يتبعتر كل شيء ولو كان هزيلا وهشا، فالمعرفةهنا تؤدي إلى المشقة والحرمان.

يركز الفيلم علئ النافذة التي تشرف علئ خط سكة الحديد و علئ مشا رف ضواحي مدينة اسطنبول، وعن طريق هذه النافذة تلتقي الأسرة بالخارج، أما الشقة نفسها فقد بدت ضيقة والمنزل غير واضح المعالم، إلا في النهاية لنعرف أنه بناية صغيرة متكاملة

في مشهدين نرى وجه الابن إسماعيل وهو خارج نافذة القطار قليلا، فهو الوحيد الذي يقفز علئ الحاجز بين البيت وسكة الحديد، وهو بالتالي الوحيد الذي يصبح شخصا عمليا، لأنه يقرر أن يقتل (سيرفت عشيق الأم. أما الأب فهو يعيش مع الأوهام والخيالات، فهو يتوهم منلا أن زوجته سوف تنتحر عندما تجلس علئ حافة السقف العلوي، وهو أيضا يتوهم ويتخيل ابنه الصغير الذي مات منذ سنوات، زائرا له ومترددا عليه بين الحين والآخر. لا يوجد مبرر درامي واضح لحضور خيال هذا الطفل الصغير، فقد نقل الأحدات إلى جانب غير واقعي، رغم أن الفيلم مفرط في طبيعته وواقعيته وتشريحه لما بداخل الأفراد من استبطا نات لا تكاد تخرج إلى السطح.

هناك تركيز أحيانا علئ اللقطات المقربة، مثلا حبات العرق المتساقطة، والوجوه التي لا تنطق، لأن نسبة الكلام في الفيلم قليلة إلى أبعد الحدود.

في مشهد قصير يزور الأب (إيهاب) مقهى مجاور له بعد خروجه من السجن ويلتقي بفتى يعمل بالمقهئ وينام في نفس آلمقهئ، فهو فقير وبائس تقريبا (إبراهيم)، إنه أقل منه درجات علئ مستوى الطبقة الاقتصادية، مثلما كان هو أقل من المسؤول السياسي

. .يعيد الفيلم نفس ما طرحه في المقدمة.

يطلب الأب من فتى المقهئ أن يتحمل وزر الجريمة ويدخل السجن بديلا عن ابنه، علئ أن يستلم مبلغا ماليا بعد خروجه، وهوبذلك يحل مشكلة السكن أيضا بدخوله إلى سجن مضمون التكييف والأكل اليومي.

يقبل فتى المقهئ بالعرض فهو صورة متجددة من إيهاب.

بذلك تصبح القضية منتهية، وتعود الأسرة إلى باقي حياتها، وتنسئ أو تتناسى ما حدت لها سابقا، ولعل متنهد دخول إيهاب إلى المسجد يقود إلى هذه التسوية المحتملة. لكنه يناقض نفسه في نفس الوقت، لأنه يعيش ازدواجية محيرة، ربما تستمر بداخله. فدخول المسجد ليس له علاقة بالوعي واليقظة، وإنما يدل علئ الانهيار.

في آخر الشريط تتجمع الغيوم في السماء وتنذر بالمطر الذي يبدأ غزيرا مصاحبا للرعد والبرق، وهو ليس علامة إيجابية، إذ نحن إزاء تطور درامي لاحق، وكأننا أمام رواية لدستويفسكي مثلا أو فيلم لتاركوفسكي، فما هو قادم يبدو أكثر شحوبا وبؤسا وفيه علامات علئ انهيارات داخلية أشد اتساعا، وهي وجهة نظر يطرحها تصور المخرج لسيناريو الفيلم، ويعبر عنها بألوان اقتربت من اللون الأصفر، حيث يتعرى الإنسان وتنكشف د واخله بصورة مكشفة ولا يجدي معها أي ترقيع خارجي.

في هذا الفيلم اعتمد المخرج نوري سيلن علئ ممثليين محترفين، علئ عكس عادته سابقا في استخدامه لهواة أو عناصر من عائلته، ولا شك في أن الممثل إيكر ان كيسال والممثلة (هاتيكا أسلان) والممثل الآخر الذي قام بدور الأب (يا فز بنقول) كل هؤلاء قد أضافوا إلى الفيلم نكهة خاصة. لأنهم أدركوا ماذا يراد منهم بالفعل وقاموا به بكل حيوية ينطق بها الوجه قبل اللسان.

وما يلاحظ في الفيلم أن هناك اختصارا في الأحداث ومحاولة للتعبير عن الوقائع من بعيد وليس تجسيدها بالفعل، ولهذ كان الفيلم مختصرا رغم نسق بوادر الصدفة التي تسيطر عليه، ولا سيما من حيث اختيار نوعية اللقطات وعدم الكشف عن التعبيرات الحقيقية والانتهاء بما يقود نحو الغموض والتوجس والحيرة، وهذه العلامات الثلاث هي قردة أخرى في طريقها إلى التشكل.

ليست هناك تعليقات: