الجمعة، 14 نوفمبر 2008

الخطيئة والخلاص في فيلم الوشاح المطرز







حجاب رقيق يخفي الحقيقة!


من أهم الروايات التي تناولتها السينما أكثر من مرة هذه الرواية التي تحمل عنوان "الوشاح المطرز"، فقد سبق أن قدمتها السينما الأمريكية عام 1934 في فيلم بنفس العنوان، وأخرجه ريتشارد بويسلافسكي، وقامت بالدور الرئيسي فيه الممثلة غريتا غاربو.. أما الفيلم الثاني فقد جاء بعنوان مختلف وهو "الخطيئة السابعة" عام 1957 وأخرجه رولاند تيم.
وفي عام 2007 جاء الفيلم الثالث المقتبس عن نفس الرواية بنفس العنوان "الوشاح المطرز" لمؤلفها الروائي سومرست موم، والذي لم تقترب السينما من أعماله كثيرا بسبب ميل إنتاجه إلى التعامل مع المشاعر الداخلية، وعدم تحقق المادة الدرامية التي تسمح بإظهار الانفعالات وإبرازها إلى مواقف الصراع الخارجي والتي تحتاج إليها السينما بصفة عامة.
رغم ذلك.. فقد تعاملت السينما مع روايات هذا الروائي الانجليزي والذي ولد في باريس ودرس الطب في لندن وأنتج الكثير من الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات وأهمها "الرابطة البشرية - حد الموسى - رسالة قبل الفجر - عطلة الكريسماس.. وغيرها من الأعمال الأدبية في رحلة عمر طويلة استمرت من عام 1874 إلى عام 1965.
أحداث لها خلفية:

إن فيلم "الوشاح المطرز أو بالأصح "الستر الموشى" من نوعية الأفلام التي يمكن وصفها بالرومانسية مع غلبة النزعة التاريخية عليها، وبوجود خلفية فكرية معينة ترتبط مع الرواية وأجواء سياسية حربية تعود إلى سنة 1920 عندما كانت بريطانيا تسيطر على أجزاء كبيرة من الصين ومع بدايات النزاع المسلح الذي يرمي إلى إخراج الانجليز من البلاد، وطرد الجانب الصيني المتعاون معهم والمتمثل في الحليف تشيك كاي تشيك.
وفعليا لم تحتو الرواية على إبراز لهذا الجانب السياسي ولكن الفيلم اتجه إلى ذلك وجعله خلفية سياسية للأحداث.
يبدأ الشريط برحلة برية تتجه نحو قرية صغيرة تدعى "مي تان فو" وفيها نرى الزوجة كليتي أو "مدام فين" تجلس على عربة محمولة على الأكتاف ويسير بها عدد من الصبية، وحول العربة سواتر رقيقة تحمي من الشمس وتفصل راكبها عن عامة الناس، وبحضور الزوج أيضا والذي يفضل السير على قدميه، يترك الموكب الصغير إلى الأمام مع توقف أحيانا عن السير لالتقاط الأنفاس.
من بين تلك اللحظات ما تقتنصه "كيتي" لتعود بالذاكرة إلى الماضي إلى عام 1920 تقريبا، وفي لندن، عندما تجبرها والدتها بطريقة غير مباشرة على الزواج، حيث تخبرها بأنها على وشك أن تصبح عانسا، وأن أباها سوف لن يستمر في الصرف عليها .. إلى ما لا نهاية.. وأن خلاصها لن يكون إلا بالزواج السريع الذي ينقذها من تذمر الأسرة.
رجلان وامرأة:

يتحقق ذلك عندما تتحدث العائلة عن رجل دعي إلى الحفلة الجماعية، تتعرف عليه الفتاة "كيتي" وتجده مناسبا ليكون الزوج العملي، وخصوصا وقد تقدم لخطبتها بصورة سريعة وجدتها الفتاة فرصة للنجاة من طوق العائلة رغم أن الزوج لم يكن يعبر عن صورة فتى الأحلام المنتظر.
من خلال لقطات "الفلاش باك" أيضا نتعرف على باقي القصة ، بعد الانتقال إلى شنغهاي داخل الصين، حيث يعمل الزوج في معمل تحليل طبي بصفة عالم في البكتيريا ويحمل شهادة طبيب أيضا.
يظهر في الأفق رجل آخر وهو "تشارلي" يقوم بالدور "ليف شرايبر" وقد تعرفت عليه "كيتي" في حفلة أيضا، وبنفس السرعة يصبح هذا الرجل الذي يعمل نائبا للقنصل، عشيقا مقربا للزوجة، بعد لحظات تعارف سريعة لكنها مقنعة على صعيد التمثيل وكذلك اختيار المشاهد السريعة الدالة على ذلك، ولاسيما مشهد حضور المسرحية التقليدية الصينية.
بسبب انصراف الزوج إلى عمله وتحليلاته العملية تحت المجهر وكذلك شخصيته الحذرة والمترددة "إطفاء النور وارتداء الجوارب باستمرار" تصبح الخيانة الزوجية أمرا مبررا حسب منطق الشريط، ولكنه مرفوض حسب منطق الزوج، والذي يعرض على الزوجة الطلاق مع التأكيد على تهمة الخيانة الزوجية أو القبول بالسفر معه إلى القرية الصينية المنكوبة بوباء الكوليرا، ومع عدم موافقة العشيق على تطليق زوجته والزواج من "كيتي" بعد طلاقها، لا تجد الفتاة أمامها إلا الموافقة على هذه الرحلة، والتي تبدو وكأنها تسير باتجاه الموت المؤكد .. إذ يرى الزوج خلاصا من حالة يأس وإحساس بالخديعة وانهيار ثقته بنفسه، والزوجة صارت الرحلة بالنسبة إليها عقابا لابد من القبول به بدلا من الطلاق المقترن بالفضيحة.
إن اختيار الشريط بأن يبدأ ببعض مشاهد تذكر الأحداث الماضية هو من طبيعة السينما وهو أمر يختلف عن الرواية التي سارت منذ البداية نحو التطور الطبيعي المتلاحق للأحداث وفق تدرجها التقليدي.
قرية الموت:

من هنا يمكن القول بأن مركز الشريط هو انطلاق هذه الرحلة نحو قرية الموت، حيث تقول الزوجة بأنها تحتاج فقط إلى بعض الملابس الصينية وكفن، وبالفعل فإن أول مشهد يعترض الزوجان في القرية هو تابوت محمول فوق الأكتاف.
كما أن البيت الذي ينتظرهما سكنت به عائلة أودت بها الكوليرا، والمصير يبدو واضحا بهذا الاختيار الذي أرغمت عليه الزوجة ولا يوجد اختيار آخر بديل.
إن الانتقال إلى قرية الموت هو محاولة للخلاص والتطهير البدني والنفسي بالنسبة للزوجة وهو احتفاء بتقديم الجسد وكأنه قربان للعقاب بالنسبة للزوج.
ورغم أن الزوجة "كيتي" تقوم بالدور الممثلة الاسترالية "نومي واتسن" تبقى في حالة حنين إلى مدينة شنغهاي وتحاول أن ترسل رسالة إلى تشارلي شاكية له صعوبة الحياة تحت ظلال الموت، إلا أنها سرعان ما تقبل بوضعها الطبيعي من خلال تعرفها على صديق العائلة الوحيد "وينغتون" يقوم بالدور "توبي جونس" في البداية وبمساعدة خاصة من حارسها الصيني المخلص "سانغ" تم تعرفها على الأم "ريانا ريت" في دير الراهبات وكل ذلك، نقل الأحداث نحو اتجاه مراجعة الذات واكتشاف حياة مختلفة والتعرف على زوجها بشكل مغاير لنظرتها الأولى.
إن رحلة الخلاص هذه تؤدي إلى تغيير زاوية النظر إلى الحياة، بعد معرفة الجهد الحقيقي الذي يقوم به الزوج وجانب التضحية الذي يقدره الجميع، والواقع أن الشريط قد مزج هذه الدراما الحزينة بإطار نقيض، فلم تظهر القرية في حالة سيئة في مظهرها الخارجي، لأن الخضرة والمناظر الطبيعية الخلابة ووجود الأمطار الغزيرة ومياه الأنهار المتدفقة، قد خلقت حالة متناقضة مع بشاعة الموت الذي يداهم أهل القرية، وبوجود عشرات الجثث الملقاة في الشوارع، هذه العلاقة المتبادلة حولت الشريط أحيانا إلى عدد من اللقطات السياحية الجميلة التي تتناقض مع طبيعة الأحداث، بل يشعر المتفرج أحيانا بأن هذه القرية هي أقرب إلى أن تكون منتجعا لقضاء شهر العسل وأن ما يظهر من مشاهد قاسية ليس إلا مرحلة مؤقتة.
في مشهد مهم تظهر المواجهة بين الزوج الدكتور "فين" قام بالدور الممثل "إدوارد نورتن" والزوجة كيتي، حيث تنتقد الزوجة اعتبارها مجرد بكتيريا له مسار واحد يمكن معرفته تحت المجهر، بل هي بشر نخطئ وتصيب ولا يمكن التنبؤ بسلوكها.


الظاهر والخفي:
في هذا المستوى يظهر الشريط الاختلاف في طبيعة الزوجين.. الزوجة تحب الحفلات والألعاب والمناسبات الاجتماعية، بينما يميل الزوج إلى البحث والتعمق في عمله ولا يميل إلى المظاهر العامة مما يبرز ثنائية "الكلام - الزوجة مع الصمت الزوج".
إن لعبة الظاهر والخفي تسيطر على الفيلم وقبل ذلك الرواية، فالزوجة تنخدع بما هو ظاهري وسريع الزوال بينما الزوج ينجذب لما هو مهم في الحياة الحقيقية للأفراد والجماعات، وكان لابد أن يحدث نوع من التقارب بين الخطين، وكان للجار "وادنغتون" الدور الرئيسي في ذلك، فهو أولا يقود الزوجة إلى دير الراهبات لكي تتعلق بالعمل الإنساني مع الأطفال، وهو كذلك يمهد لعلاقة طبيعية بين الزوجين بسبب وجود صديقة صينية معه، ويكون ذلك الذروة التي ينتهي بها الحدث فعليا.
إن لعبة الظاهر والخفي تتكرر أيضا بمعنى آخر، حيث ينظر جميع من في القرية إلى الزوجين على أنهما في انسجام كامل، وكان هذا الانسجام دافعا نحو قدومهما سويا إلى هذه القرية المنكوبة بالكوليرا، بينما من الناحية الفعلية "الخفية" هناك تباعد شديد بينهما، لا ينتهي أو يتوقف إلا في اللحظات الأخيرة للفيلم.
يمكن القول بأن الزوجة تكفر عن خطيئتها عندما تتعرف على زوجها عن كثب، وإن هذه الرحلة كانت هي السبب في هذا التغيير، فكل ما تعرفه عن زوجها ظاهريا يتراجع أمام حقيقة يصعب الوصول إليها.. والأمر نفسه كان على مستوى الزوج ولكن بصورة أضعف.
هناك خلفية في الشريط تتمثل في مواجهة السكان المحليين للأجانب المحتلين والتعبير عن ذلك بالشعارات ومحاولات للاعتداء ورفض كل المشروعات أحيانا رغم أنها في خدمة القضاء على وباء الكوليرا.
لا يوجد من يقف مع الدكتور فين إلا الضابط "يو" الذي يمثل حلقة الوصل، فهو يرفض التدخل العسكري للأجانب، وفي نفس الوقت يحارب التقاليد والعادات التي تدعو إلى بقاء الموتى في المنازل ثم دفنهم بالقرب من النهر، لأن أرواح الموتى مقدسة وتحتاج إلى الماء في النهر، مما يعني انتقال العدوى إلى مياه الشرب.

تطهير وخلاص:
يتوقف تسلسل الأحداث ولكنه يبدأ من جديد، عندما يظهر الحمل على الزوجة وبدون تحديد من هو الأب الفعلي.. هل هو الزوج أم العشيق؟! والإعلان عن هذا المولود القادم جاء بالتبادل مع نجاح التخطيط الهندسي الذي جاء بالماء عن طريق الطواحين الدوارة والروافع المصنوعة من الخيزران إلى القرية من المصب الرئيسي للنهر، رغم أنه من المقنع ألا يعمل الطبيب مهندسا.
إن الماء في هذا الشريط كان عاملا مهما في صياغة الأحداث، فقد استخدم باعتباره عامل تطهير "شرقي" عندما انتقل الزوجان بواسطة قارب مائي من مكان إلى آخر بعد مرحلة الخلاص والتطهير، وقبل ذلك أجبر الزوج زوجته على رحلة تدوم أسبوعين برا للوصول إلى القرية ولم يستخدم القارب المائي الأسهل والأسرع فيما يشبه العقاب البدني المبدئي.
أما بخصوص عنوان الشريط فقد استخدم تعبير الوشاح الموشى باعتباره الستر الذي يفصل الزوج عن الزوجة أو الحاجز الذي نراه غالبا في عدد من المشاهد فاصلا الزوجة عن غيرها، فهو أشبه بالحجاب الذي رغم رقته بإمكانه أن يحجب الحقيقة، وإذا كانت بعض المصادر تشير إلى أن الروائي سومرست موم قد اقتبس هذا المعنى من الكوميديا الإلهية لدانتي وخصوصا عن القسم الثالث "المظهر"، فإن اقتران الصورة بالحجاب بشكل ظاهري قد جعله كذلك فعلا، فهو حاجز رقيق تمكن إزالته في أية لحظة للتقرب من المعنى الحقيقي للحياة.
دور جديد يضاف لأدوار الممثل المتميز "إدوارد نورتن" وحضور قوي للممثلة "نومي واتسن" وموسيقى معبرة .. "عزف منفرد للبيانو مع أغنية في النهاية وموسيقى صينية تقليدية" وفوق ذلك إخراج له طابع ملحمي للمخرج جون كوران والذي سبق أن قدم لنا عدة أشرطة، أهمها: " لا يمكننا أن نعيش هنا 2004 - التمجيد 1998 - سقوط رستي 1996".

أكثر من خاتمة:
أما نهاية الشريط فتأتي متوافقة مع المقدمة، فالزوج الذي أتاح الفرصة أمام الزوجة لإدراك المعنى العميق للحياة، بالعمل في دير للراهبات في رعاية الأطفال، وكذلك الدخول في مرحلة الصمت التي يوصف الزوج بها وهي فعليا مرحلة إنقاذ الضحايا من الكوليرا عن طريق التلقيح أولا ثم الحفاظ عليهم من المصابين، كما حدث عندما هاجم بعض سكان النهر القرية بقصد العيش فيها، وهو أمر طارئ كان سببا في انتقال المرض إلى الدكتور فين، ثم موته في النهاية بحضور الجميع.
ربما تكون هي الخاتمة الثانية أو الخاتمة الثالثة التي يضيفها الفيلم، وتتعلق باللقاء الذي حدث صدفة في لندن بين تشارلي وكيتي ومعها طفلها والتحول الواضح هنا، يتجلى في عدم اهتمام كيتي بهذا اللقاء، ولقد أضاف الفيلم أيضا حالة استمرار للزوج الراحل ، فسمى الابن على اسمه "والتر فين" مع العلم بأن الشخصية الحقيقية في الرواية هي فتاة وليست ذكرا.
ربما رأي بعض النقاد بأن هذا الشريط فيه الكثير من المباشرة والميلودراما السطحية، وفي بعض الأحيان يشعرك بأنه من نوعية المسلسلات المطولة، لكنه يبقى رغم ذلك من الأشرطة التي يتحقق فيها جانب المتعة البصرية، واقتراب الشخصيات من الجمهور، وتتوفر فيه أيضا تلك الشحنة من العواطف التي تصعد بالفيلم إلى أعلى ولا تهبط به على أسفل.
لعل المنتج الممثل إدوارد نورتن هو أول الرابحين، فهو يحقق بانتظام نجاحات متتالية في الأفلام التي يختار أن يعمل فيها ومن ذلك مثلا: "المشعوذ 2006 - مملكة السماء 2005 - مهمة إيطالية 2003 - الساعة الخامسة والعشرون 2002 - التنين الأحمر 2002 - نادي القتال 1999 - التاريخ الأمريكي 2002".
أما الممثلة نومي واتسن فيعد هذا الشريط من أفضل أعمالها السينمائية بعد نجاحات أخرى تمثلت في: "ألعاب سحرية 2007 - اغتيال ريتشارد نيكسون 2004 - البقاء 2005 - كينغ كونغ 2005 - طريق مولهلاند 2001"، كذلك باقي الشخصيات التي تسمى ثانوية، فهي قد منحت مساحات كبيرة نسبيا، مما جعل حضورها متميزا يقارن بحضور الشخصيات الرئيسية، وهذه ميزة أخرى لا يمكن إغفالها في الشريط.

ليست هناك تعليقات: