مجلة السينما والثقافة magazine of cinema and culture ---- المحرر رمضان سليم s_ramadan53@yahoo.com
الجمعة، 28 نوفمبر 2008
طرابلس وذكريات السينما
عودة إلى الذاكرة السينمائية
هل لنا أن نعود بالذاكرة قليلاً إلى الوراء ! وفي الواقع نعود بها إلى ما هو أكثر من المعتاد إلى أيام كانت فيها السينما تشكل حلماً عند الغالبية العظمى من الجمهور ، ولا يعنيذلك أن السينما قد كفت على أن تكون كذلك ، لكنها صارت في قلب المنافسة مع وسائط أخرى ، سرقت منها الكثير من الجاذبية ، ولاسيما في العقدين الأخيرين ، عندما شاعت القنوات المرئية ، وصارت مسألة مشاهدة الأفلام أكثر سهولة وبساطة بفضل التطور التقني الحديث . نعم لقد كانت السينما حلماً ، وبعض المنظرين حولوا هذا المفهوم البسيط إلى نظريات تناقش العلاقة المتبادلة بين الفن والجمهور ، انطلاقاً من فكرة هذا الحلم وازدهاره عبر العقود المتتالية .
بدايات أولى :
عندما نعود إلى بداية الستينات سوف نجد السينما هي أداة الترفيه المثالية ، وربما الوحيدة ، وربما الأفضل ، ولا سيما عند الأوساط الشعبية ، وهي تشكل حلماً ، أقرب إلى شعاع النور المنبعث في دور العرض على الشاشات العريضة النظيفة منها والمتسخة ، هذا الأمر انطبق على بلادنا وبلاد العالم .ها نحن قد عدنا إلى تلك الأيام والمكان مدينة طرابلس في الستينات ، لنجد ذلك الصبي الصغير ، والذي لم يبلغ الثامنة من عمره بعد، يتسلل إلى دار عرض ، يسمونها الرشيد ، كان قد سمع عنها من رفاقه الكثيرون ، لم تكن الرشيد هذه إلا دار عرض شعبية ، رخيصة الثمن ، وهو ما أدركه بعد ذلك ، والأمر في جميع الأحوال لم يكن يعني عنده شيئاً ، فالمهم أن شاشة العرض مليئة بالشخصيات المتحركة النابضة بالحياة . هناك أصوات وموسيقى وأحداث مختصرة وشيقة ، لها تتابع .فيها شدّ وجذب وإثارة ، وفيها أوهام وأحلام . كانت للسينما بدايات أخرى ، عندما كانت السيارة المتنقلة تعرض بعض الأشرطة في الساحات الواسعة وعلى خلفيات المباني في ساعات متاخرة تطول أحياناً إلى متتصف الليل ، ولاسيما في ليالي الصيف الطويلة وفي منطقة كانت تسمى باب عكارة . لم تكن عروض الحائط مؤثرة ، وخصوصاً إذا كان التعرف إلى دار العرض كان هو المبدأ ، ولازلت أذكر تلك اللحظة التي تعرفت فيها على السينما ، من خلال دار عرض الرشيد ، ومن خلال فيلم شهير لإسماعيل ياسين بعنوان ( عفريتة إسماعيل ياسين ) عرفت بعد ذلك أنه من إخراج حسن الصيفي وقد أنتج عام 1954ف .
قلب المدينة :
تقع دار عرض الرشيد في قلب مدينة طرابلس ، والأرجح أن الاسم قد جاء اختصاراً لاسم ( هارون الرشيد ) ، وكانت دار عرض بسيطة تعرض شريط كل يومين أو ثلاثة أيام وخصوصاً وأنها تشرف على محطة الحافلات العامة ( حالياً ميدان السويحلي ) ، فإلى هذه المحطة تأتي كل الحافلات ، ومن مناطق مختلفة ، ومنها منطقة الهضبة الخضراء وباب بن غشير والفرناج وسوق الجمعة ، ويتطلع الصبية إلى التردد على هذه الدار لسهولة الوصول إليها من ناحية ، ولرخص تذكرتها من ناحية أخرى .، وكذلك يقف أمامها عدد كبير من الباعة الجوالين ، الذين يبيعون مشروبات شعبية مثل السحلب والحمص والعصائر ، بالإضافة إلى المكسرات والمشروبات الزجاجية والسندويتشات وغير ذلك من البضائع الرخيصة الثمن . تعرض دار عرض الرشيد أشرطة متعددة أغلبها أشرطة عربية ، وهي تقع ضمن مجموعة دور عرض لشركة خاصة تشمل دار عرض الرويال ( الشعب ) وكذلك دار عرض ( أ ب ت ) وهي الدار التي أطلق عليها لاحقا دار عرض الحرية ثم أغلقت وهدمت بعد ذلك . من أسباب شهرة دار عرض الرشيد ، موقعها كما قلنا ، ثم رخص ثمن تذكرتها ، فهي متواضعة لا تحتوي على نوافذ وسقفها من قطع ( الزينقو ) وبها مراوح تعمل باستمرار ولكنها خفيفة وغير مؤثرة ، والدار رغم ذلك ، ورغم إنارتها الضعيفة وحوائطها المتسخة ، تلقى إقبالاً كبيراً من الرواد ، ولِمَ لا ، ودور العرض كما قلنا كانت هي المتنفس شبه الوحيد للتسلية والمتعة الأسبوعية . في دار العرض هذه شاهدت الأشرطة العربية الأبيض والأسود ، والتي تتكرر بسبب إقبال الناس عليها ومن ذلك أشرطة إسماعيل ياسين وفريد الأطرش وأنور وجدي وأم كلثوم وفريد شوقي ومحمد عبد الوهاب وغيرهم. أول شريط :
لازلت أذكر إذن هذا الشريط جيداً ( عفريتة إسماعيل ياسين) .أنه أول شريط شاهدته ، ولعل سبب ارتباطه بالذاكرة ، أنه يحتوي على بعض الخدع البسيطة والتي كانت تبدو لنا وقتها غريبة وخصوصاً الكيفية التي تظهر بها العفريتة ، وهي الراقصة ( كيتي ) التي تُقتل ثم تظهر لزوجها لكي تساعده في اكتشاف الجريمة والتي دبرها صاحب الملهى الليلي ( فريد شوقي ) ، وهي أيضاً تساعد الزوج ( إسماعيل ياسين ) في الزواج من امرأة أخرى ، ثم تختفي هذه العفريتة نهائياً بعد ذلك ، ومن الطبيعي أن يلفت انتباهنا هذا الشريط إلى باقي أشرطة إسماعيل ياسين ، والتي تعرضها هذه الدار باستمرار ، ويكون دافعاً لمشاهدة المزيد من الأشرطة . أذكر جيداً أن السبب في دخولي دار هذه السينما وللمرة الأولى هو رغبة ( خالي ) في ذهابي معه وهو المتردد على السينما أسبوعياً ، ولولا ذلك لكان من الصعب إقناع أسرتي بالموافقة على هذه الخطوة ، رغم أنها تعد بسيطة وطبيعية في تلك الآونة . بعد ذلك صار الذهاب إلى اسينما عادة أسبوعية ، تعرفت فيها على باقي أشرطة إسماعيل ياسين ، وخصوصاً الأشرطة التي تحمل اسمه مثل : إسماعيل ياسين في الجيش ، وإسماعيل ياسين في البوليس الحربي ، وإسماعيل ياسين في متحف الشمع ، إسماعيل ياسين ملك البترول ، ولم يكن في علمي أن إسماعيل ياسين هذا له أشرطة أخرى يظهر فيها مساعداً للبطل ، وهي كثيرة جداً الا بعد أن تعرفت على ذلك من خلال أعداد من مجلة ( الكواكب المصرية ) وهي أيضاً المجلة التي قادتني إلى اشرطة أخرى ، ولاسيما أشرطة ( فريد الأطرش ) الغنائية ، ولازلت أذكر جيداً شريط ( لحن الخلود ) إنتاج 1952 وإخراج بركات ، وكذلك أشرطة أخرى اشترك فيها المطرب مع سامية جمال على وجه التحديد . ومن أشهر الأشرطة التي علقت بذاكرتي ، وخصوصاً من ناحية الملصق المحفز لمشاهدة الشريط ( أمير الانتقام ) للمخرج بركات وبطولة أنور وجدي ، وهو الشريط الذي قادني لقراءة الرواية العالمية ( الكونت دي مونت كريستو ) وباقي روايات الإسكندر دوماس . ملصق وشريط :
من مزايا دار عرض الرشيد ، أنها تعلن عن الشريط المعروض في إطار يقع على يسار المدخل ، والإطار الآخر على اليمين يعلن عن الشريط القادم ، ومن النادر جداً أن يحدث تغييراً في المواعيد ، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الملصقات التي بداخل ردهة القاعة وهي معلقة بتوزيع غير منظم يمهد لعروض قادمة غير طارئة إلا في أيام الأعياد . كانت التذاكر صغيرة الحجم تقذفها آلة صغيرة ، ولا يتم قطعها باليد عند الشراء ، ولكنها تقطع عند الباب ، والدخول كما هي العادة في أغلب دور العرض في كل وقت ، حيث تستمر العروض متواصلة ، وهناك من يحضر الشريط أكثر من مرة ، ليس للمتعة فقط ، ولكن لإضاعة الوقت وخصوصاً في فصل الشتاء ، حيث يسمع صوت المطر بشكل خفيف على السقف ، لكنه لا يغطي على صوت الشريط والذي في الغالب يصل إلى أعلاه ، حتى أنه يسمع في جوار دار العرض وما حولها . لقد ارتبطت دار عرض الرشيد في الذهن بالأشرطة العربية المصرية ، ومن النادر أن يعرض غيها شريط أجنبي إلا في سنوات متأخرة نسبياً ، عندما ظهرت أشرطة إيطالية تاريخية كان لها جمهورها الواسع ، ومن ذلك أشرطة هرقل وماشيستي والمصارعين العشرة وأورسوس وسبارتاكوس وغيرهم . لابد من القول هنا بأن دار عرض الرشيد بمدينة طرابلس ، كانت مكانا للتجمع واللقاء ، يمكن ان يرتبط هذا اللقاء برحلة في شوارع مدينة طرابلس ، أو الذهاب إلى دار عرض أخرى ، لكن في الغالب يستقر الأمر على مشاهدة الشريط المعروض في هذه الدار ، بسبب سهولة العودة إلى البيت مهما تأخر الوقت ، ولوجود الكثير من المتطلبات في الأزقة والشوارع القريبة منها ، وخصوصاً أكشاك بيع المجلات ولا سيما الفنية منها . نعم لقد كانت هناك نقلة أخرى من أشرطة عربية كوميدية وأخرة غنائية إلى أنواع أخرى من الأشرطة الدرامية ، ولاسيما المقتبسة عن روايات عربية وعالمية ، وهذه النقلة كان لها الأثر البالغ من حيث اختلاط الفرجة السينمائية بعالم القراءة الأدبية ولاسيما قراءة الروايات التي تمت مشاهدتها على الشاشة ، وأحياناً البحث عن أوجه المقارنة والتفضيل ، ولكن بطريقة ليست واعية تماماً ، إلا من حيث رسم وتصميم الشخصيات ، ومن ذلك روايات لإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وعبدالحليم عبدالله ثم نجيب محفوظ في مرحلة لاحقة .
بحثاً عن بطل :
لا أدري لماذا لم يسيطر على تفكيري فكرة البحث عن البطل في الأشرطة ، والتركيز على النجم الأوحد ، رغم أن الدافع لمشاهدة الشريط يكون الممثل كما حدث في أشرطة إسماعيل ياسين وفريد الأطرش ، ثم في فترة لاحقة فريد شوقي في سلسلة من الأشرطة ذات طابع المغامرة الاجتماعية ، ولاسيما ما يخص منها الحارة الشعبية مثل ( فتوات الحسينية – ابو حديد – الفتوة – النمرود – سلطان – المارد ) . كما أن الممثلة هدى سلطان كان لها دور مهم في إقبالي على الاشرطة ذات الطابع الغنائي ، في مرحلة لاحقة لأشرطة فريد الأطرش ومحمد الكحلاوي ، ثم مرحلة ما خاصة بأشرطة عبد الحليم حافظ . بين الحين والآخر كانت دار عرض الرشيد تعيد بعض الأشرطة القديمة ، مثل ( قبلة في الصحراء ) وأشرطة أخرى لأم كلثوم ، مثل ( فاطمة – سلاّمة ) وفي أحيان نادرة نرى شريطاً لمحمد عبدالوهاب ، مثل ( ممنوع الحب ) في نسخة رديئة بسبب التكرار وإعادة هذه الأشرطة لجمهور يمكن اعتباره من الدرجة الثالثة ( الترسو ) .
عروض معينة :
من جانب آخر عرضت دار عرض الرشيد ، بعض الأشرطة ، والتي يمكن وصفها باليتيمات ، ومن ذلك على سبيل المثال شريط ( كتاب الأدغال ) إنتاج 1942 لمخرجه زولتان كوردا ، وكذلك شريط ( لص بغداد – 1940 ) وشريط ( علي بابا والأربعين حرامي ) وشريط ( عمر العادل ) من تركيا ، وجميعها أشرطة ترتبط بلحظة الاكتشاف حيث تأتي المفاجأة في الغالب من عدم المعرفة المبدئية بمثل هذه الأشرطة، ومبلغ الإعجاب يكون متعلقاً ببعض الغرائب والخدع فيما يعرف باسم ( الفانتازيا ) والتي لا تتحقق في الأشرطة العربية أو أشرطة رعاة البقر أو الأشرطة البوليسية . لم تعرض دار عرض الرشيد خلال مرحلة الستينات أشرطة أمريكية ، بل كان المعروض في الغالب من الأشرطة العربية والإيطالية ، ولاسيما أشرطة المغامرات ، كما أنها أفردت إلى الشريط الغنائي مساحة كبيرة ، بسبب إقبال الجمهور المكثف ، وأذكر جيداً أن أفلام المطربة سميرة توفيق قد عرضت في هذه القاعة تباعاً بعدما ارتبطت المطربة باسم البدوية ، فكانت الأشرطة تعرّف بهذا الاسم: ( البدوية العاشقة – بدوية في باريس – بدوية في روما ) وغيرها من الأشرطة ، كما حدث في سلسلة أشرطة إسماعيل ياسين وسلسلة أشرطة ليلى مراد ( ليلى بنت الفقراء – ليلى بنت الأغنياء – ليلى بنت الشاطئ –ليلى بنت مدارس ) .وكذلك شريط عنتر ابن شداد –الابيض والاسود ثم الملون. يمكننا القول في المقابل بأنه لا توجد دار عرض واضحة لها صفة شعبية الرشيد إلا دار عرض الغزالة والتي تقع في ميدان الغزالة ، وهي متخصصة في الأشرطة الأجنبية ولاسيما أشرطة رعاة البقر الإيطالية ، ومن هنا جاءت شعبية هذه الدار . لاشك أنه من عدد يصل إلى خمسة عشر دار عرض بمدينة طرابلس ، كان لدار عرض الرشيد التأثير الواضح على محبي السينما ، وهي دائماً تشكل مرحلة انتقالية لدور عرض أخرى بعد ذلك ، مثل دار عرض الشعب ( الرويال سابقاً ) ودار عرض الخضراء ( الحمراء سابقاً ) ودار عرض الفتح ( اللوكس سابقاً ) ، بالإضافة إلى دار عرض النصر والتي كانت منافسة لدار عرض الرشيد من حيث نوعية الأشرطة القديمة التي تعرضها بسبب وقوعها في المدينة القديمة (سوق الترك) بطرابلس . كما قلنا ورغم أن بناء دار عرض الرشيد بم يكن ، معمارياً ، مصمماً ليكون سينما ، كما هو الحال في دور عرض أخرى ، فهي أقرب لأن تكون مخزن كبير ، صمم بعد ذلك ، وبسبب موقعه الجغرافي التجاري ، ليكون دار عرض لها فاعلية مميزة عند قطاعات كثيرة من الصبيان والشباب بصفة خاصة ، ومن الفئات الفقيرة نسبياً ، إلا أنها مازالت عاملة إلى حدّ الآن ، في حين أغلقت دور أخرى أو توقفت ، رغم توقف استيراد الأشرطة وتوقف بناء دور عرض جديدة ، ورغم خراب السينما في بلادنا إنتاجاً وعرضاً .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق