عندما يتسلل الثعلب إلى الحديقة
بعد 11 سبتمبر 2001 لم تظهر فقط موجة من الأشرطة العربية لها علاقة بالصراع في بعض المناطق الدولية الساخنة كما في أفغانستان والعراق ولبنان وبعض البلدان الإفريقية.. ولكن برز اتجاه في السينما يتطرق إلى الأقليات العرقية في الدول الأوروبية وفي أمريكا تحديداً مع التركيز على ما يسمى بفكرة "الاستبعاد والاندماج" في المجتمعات الغربية.. وما يعني ذلك من تحليل لفكرة الفواصل والتقارب بين الثقافات المختلفة والتشابك والتداخل بين
لهذا السبب أنتشرت الشخصيات الأجنبية في الأفلام الأمريكية والأوروبية وتم التعامل معها، ليس بأعتبارها نماذج لها تأطير معين ولكن شخصيات حية ومتفاعلة ومتغيرة. وهذه مسألة ايجابية في تطور نوعية الإنتاج السينمائي وفي تخلصه من الدعاوى السياسية المباشرة.
وفي الحقيقة لقد أسهم بعض المخرجين في التأكيد على هذا الاتجاه وكان أغلبهم من الأقليات الوافدة من أوروبا وأمريكا ومن السكان الأجانب الذي استقروا وعاشوا بشكل
ما يشبع الثقافة عموماً.
من هؤلاء المخرج المعروف أنطوني مانغويلا الذي ولد في بريطانيا ولكن من أبوين ايطاليين مهاجرين وبالتالي فإن أفلام هذا المخرج قد أكتسبت هذا الانفراج على ما هو غير أوروبي والانفتاح على ما يعرف بالخارجي
ولقد بدأ ذلك واضحا في معظم أشرطة المخرج ومنها "حقيقي ومجنون وعميق 1990 ــ المريض الانجليزي 1996 ــ مستقر ريبلى الموهوب 1999 ــ الجبل البارد 2003، ثم هذا الفيلم (تكسير واقتحام 2006).
في الأفلام المذكورة سابقا سوف نجد بعض الشخصيات (الخارجية) بمعنى وافدة على المجتمع الغربي أو ما يمكن تسميته أحياناً بالشخصيات الغريبة ــ الغرباء..
والذين مشكلتهم أبدا هي مقدار تكيفهم أو عدم تكيفهم مع المجتمع الجديد الذي ينتقلون إليه لأسباب كثيرة لها علاقة بالجوانب السياسية والاقتصادية بسواء كان الأمر متعلقا بعوامل أفراد لها جاذبية داخلية أو عوامل طرد خارجية.
في هذا الفيلم "تكسير واقتحام" نجد أنفسنا أمام اقتحام فعلي، تقوم به مجموعة من الأفراد "عصابة للسرقة" تقطن حي شعبي يسمى "تقاطع كنيج"، يضم عدداً كبيراً من الوافدين إلى لندن من المهاجرين للعمل لفترات تطول أو تقصر، ويختار الفيلم "كاتب القصة هو منغويلا نفسه" مجموعة من البوسنة ومن الشباب الذين يجيدون القفز ويتدربون عليه بمهارة عالية تسمح لهم بتسلق الجدران والأماكن العالية.. وبالتالي سرقة المحتويات من المنازل والمؤسسات المجاورة والبعيدة.
مؤسسة "الإنجاز الأخضر" للبناء تسعى لتطوير هذا الحي ووضع نماذج هندسية جديدة.. ولذلك انتقلت بمقرها إلى قلب حي تقاطع كنيج لتكون قادرة على إنجاز العمل اليومي بكل العاملين الذين يعملون فيها، بما فيهم المهندس المعماري "ويل" يقوم بالدور الممثل "جودلو"..
رغم أن الفيلم يبدأ بتهويمات بين هذا المهندس ورفيقته ليف حول الدائرة الوهمية التي تحيط بالأفراد ولا يستطيعون الخروج منها.. إلا أن بداية الأحداث فعليا نراها عندما يقوم الفتى "ميرو" بتسلق مبنى المؤسسة وفتح الباب لزملائه لسرقة المحتويات، وخصوصاً أجهزة الحاسوب، بما فيها الحاسوب الشخصي للمهندس "ويل"..
تطال التهمة من يقوم بالنظافة، ويصر رفيق المهندس "ساندي" على أن الفاعل هي من تقوم بالتنظيف "عاملة من نيجيريا" على أساس أنها الوحيدة التي عرفت الشفرة الخاصة بفتح الباب الرئيسي.
هناك تكسير للزجاج من أعلى السطح بعد متابعة الكاميرا "ميرو" من بعيد لعملية تركيب آلة الفتح والإغلاق وتسجيل رقم الشفرة، وهناك اقتحام من الباب الرئيسي لسرقة حواسيب الماكنتوش الخاصة بالعمل.
يكافئ العم المسؤول على تصريف المسروقات الفتى "ميرزاد" على جهوده الكبيرة في السرقة ويهدي له الحاسوب المحمول الخاص بالمهندس ليتابع عن طريقه المشاهد المصورة لحياة المهندس العائلية، وعلاقته بأبنة رفيقته "بي" التي تعاني من الآرق ومن مرض التوحد، رغم أنها تجتهد في مجال الرقص الإيقاعي والبالية.
فئة أمام أخرى:
يقسم الفيلم فضاء الأحداث إلى قسمين: الأول الجيتو الذي يسكنه هؤلاء المهاجرين المتعددي الأجناس، والثاني المكان الأرقى الذي يسكن فيه المهندس مع كل من الأم ليف وهي مخرجة أفلام وثائقية من أب أمريكي وأم سويدية، ومشكلتها هي ابنتها التي تعالجها عند طبيبة تدعى روز ماري.
وهنا نلمس التقسيم الطبقي الواضح والخط الفاصل بين الجانبين على المستوى الثقافي والاقتصادي، ولاسيما عندما يقوم المهندس مع صديقه بانتظار السارق والتربص به لمعرفته والقبض عليه، بعد أن عاد للمرة الثانية وترك "سي دي" خاصة بالمهندس مع حفظ كل ما في الجهاز من مواد.
يتدخل المهندس ويل إلى هذا المجتمع الصغير الذي يسكن الجيتو عندما يشرع في العمل لتطويره وكذلك عندما يتابع السارق إلى حيث يسكن، ليبدأ في التعرف على الأم "أميرة" وهي بوسنية مسلمة هربت من الحرب في سرايفو مع ابنها وتركت زوجها الذي لا تعلم عنه شيئاً.
علاقة متشابكة:
تتحول العلاقة المنفعية إلى علاقة عاطفية، ولكن قبل ذلك وعندما تتعرف الأم "أميرة" على مقاصد المهندس الفعلية، تعمل على الإيقاع به بواسطة تصويره في لقطات مخلة بالشرف، لغرض إرغامه على عدم توريط ابنها والقبض عليه بتهمة السرقة.. ولكن الأحداث تسير نحو اتجاه آخر عن طريق من يعمل في الشركة وكذلك التحري الذي تولى ملف القضية، فيتم القبض على ميرزاد وإيداعه السجن، ورغم أن الأم تحاول أن تستجدي "ويل" لمساعدتها في إنقاذ ابنها، ثم العودة به إلى سرايفو.. إلا أنه لا مجال لإنقاذ الابن، ولا تسير الأحداث نحو ذلك، إلا عند مكاشفة ويل رفيقته "ليف" بكل ما حدث، لنصل في النهاية إلى سحب الشكوى بالسرقة والاعتراف بالعلاقة السرية بين أميرة وويل، وفي ذلك، كما يتصور صناع الفيلم، تراجع من قبل هذه الطبقة الغربية المترفة بحضور الآخر في محيطها بعد أن كان سبباً رئيسياً في تهميشه وعدم الاعتراف بحضوره.
لم يركز الفيلم كثيراً على الفوارق بين القسمين، السكان الأصليين والغرباء، فالملابس متقاربة والتداخل في العلاقات واضح، ومن هنا جاء التركيز على التمثيل ليكون الفارق الأساسي بين فئتين مختلفتين، وبهذا المعنى، فإن الممثلة الأكثر حضوراً هي "جوليت بنوشيه" الفرنسية التي يمكنها أن تقدم عشرات الأدوار بنفس المستوى، ولا يتعلق الأمر بلهجتها الشرق أوروبية في نطق الإنجليزية ولكن أيضاً في علاقتها بابنها ومرارة حياتها والتغافل عن كونها أنثى، إلا في اللحظات الأخيرة عندما تلتقي بالمهندس ويل.
ربما كانت مشكلة هؤلاء المهاجرين أقوى، من الناحية المادية، عمال من إفريقيا ومن البوسنة وروسيا، يحتاجون إلى المال، وللتأكيد على ذلك، جاءت الشخصية الثانوية التي تحضر دائماً في أفلام أنطوني مينغويلا، وهي شخصية المرأة المهاجرة من روسيا والتي تعمل ليلاً امرأة طريق تبحث عن الزبائن بطرق مختلفة..
ولقد استخدمت في مشاهد انتظار ويل لقدوم السارق الليلي.. أما مشكلة الفئة الأخرى، فهي ليست واضحة، تمتد لتشمل مشكلات اجتماعية وفردية لا علاقة أحياناً بالسويد، ثم التفكير في الانتحار، والإحساس بالذنب، والحاجة للخروج من الدائرة المغلقة وتكسير الطوق الذي يحاصر الشخصيات، أي أنها تحتاج إلى تكسير واقتحام نحو الخارج، بينما الفئة الهامشية الفقيرة تحتاج إلى تكسير واقتحام نحو الداخل.
ليس بالضرورة أن يكون هناك توافق بين الفئتين، ولكن يمكن الوصول إلى حلول مشتركة، قوامها التنازل والاقتراب نحو الفئات الهامشية من الغرباء، مثلما اعترف ويل بعلاقته مع أميرة.. ومثلما أضطر ساندي إلى عدم الإصرار باتهام الزنجية ايريكا بتهمة السرقة.
استخدم الفيلم ما يمكن تسميته بالمجاز في التعبير عن موضوعه، ولطالما كرر ويل استخدامه لفكرة التعبير بالمجاز عندما يفشل في التعبير عن أفكاره مباشرة.
قلب موحش:
لم أجد مبرراً لإدعاء الشقاق بين بيل ورفيقته ثم عودة الأمور إلى مجرياتها بعد ذلك، وهي نهاية لا تستقيم معها الأحداث التي تجعل من المشكلة قائمة أبداً، إلا أن منطق مينغويلا الكلاسيكي يقود دائماً إلى مثل هذه النهايات التي تنهي الفيلم وتنهي الحدث وتكتم السؤال في آن واحد.
هناك سرقة أخرى كشفت عنها الأحداث، عندما طالبت فتاة الليل الروسية بأجرها على مجرد إضاعة الوقت والرقص داخل السيارة، ولم يستجب لها ويل، تعلمت على سرقة السيارة ثم ارجعتها بعد ذلك، مثلما ارجع ميرزاد أسطوانات "السي دي" الخاصة بالمهندس.
الحقيقة أن الفيلم قد استخدم مشاهد كثيرة خارجية داخل الفيلم للكشف عن بعض تفاصيل العلاقة بين الفتاة "بي" وبين عائلتها، وكذلك لتوضيح بعض المجريات التي كانت سبباً في هجرة المرأة البوسنية وابنها إلى لندن.
ثقافات متداخلة من الكلمات واللغات والأغاني والرموز، حاول الفيلم إبرازها ولكن بدون رجوع إلى اثنوغرافيا باردة ورمزية، ولعل هذا ما انقذ الفيلم نسبياً، رغم ما به من تفصيلات غير مقنعة على مستوى المنطق الداخلي للفيلم.
لقد أضافت الممثلة "جوليت بنوشيه" دوراً جيداً إلى أدوارها المختارة بعناية، مثل رجفة الكائن التي لا تحتمل 1988 - ثلاثية الأبيض والأزرق والأحمر- عشاق على الجسر 1999 - شكولاته 2000 - في بلادي 2005 - الفصل الرائع 2005 - أيام في سبتمبر 2006.
أما "جود لو" فهو يحضر ويغيب في أدواره المتلاحقة، ولكن بعض الأدوار الأخرى تبقى هي الأهم ومن ذلك "العدو على الأبواب 2001، طريق الخلاص 2001، الجبل البارد 2003، القطع النهائي 2004، الاقتراب 2004، العطلة وكل رجال الملك 2006".
ربما يمكننا القول بأن أكثر المستفيدين هي الممثلة روبن رايت والتي سبق أن عملت في أفلام مثل "السقوط إلى أسفل 2001، الحب فعليا 2004" فقد كانت الممثلة الأكثر اقناعاً في الشريط.
من اللافت للنظر أن المخرج قد استخدم تنويعات موسيقية متعددة، تعبيراً عن سياق الفيلم التي يفترض وجود ثقافات متعددة، لكنه لم يهتم بملابس الممثلين، حتى أنه قد شاهدنا أكثر من شخصية بملابس واحدة، مثل ميرزاد "رافي كافرون"، فالهدف هو عدم إبراز الاختلاف الظاهري على حساب الاختلافات الجوهرية التي تحملا كل شخصية معها، وهو ما يدفع نحو العودة إلى المبدأ والمنطلق وليس الاندماج مع ما هو جديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق