الخميس، 8 يناير 2009

اللعب داخل جنينة الاسماك


خطوط فاصلة ومتشابكة


يتيح لنا فيلم (جنينة الأسماك) أن نلتقي بعدد من الشخصيات التي من الصعب أن تنوقع العثور عليها في حياتنا العادية. هو إذن فيلم عن حياة تبدو مختلفة بامتياز، أو هي علئ الأقل حياة فيها الكثير من الوهن اليومي، السياسي والاجتماعي والعاطفي. بحيث تظل الشخصيات في النهاية مجرد نماذج وتحمل فموما فوق رأسها وبعض هذه الهموم فعليه متحركة وتنبض من القاع وبعضها أفكار متسلطة من ذهن صاحب الفيلم نفسه بصرف النظر هل وصلت إلن الجمهور أو لم تصل.


ربما بدا للوهلة الأولئ بأن هذا الفيلم فيه بعض الصعوبة. وهذا أمر حقيقي وواضح وهو يتشابه أحيانا مع فيلم مرسيدس لنفس المخرج يسري نصر الله. إلا أن جنينة الأسماك فيلم بلا قصة تبدأ وتنتهي وبلا موضوع يتطور بواسطة الأحداث، إنما هو تعامل مع عدد من الشخصيات وبخلفية معينة ورجعية

تشرع لنا بعض الغموض المربك.

إن المخرج يسرى نصر الله من المخرجين المثقفين. فهو كاتب وناقد سينمائي في البداية ثم عمل مع المخرج يوسف شاهين تلميذا نجيبا، مع أنه يختلف عنه فمنذ الفيلم الأول للمخرج (سرقات ميغية 1988 ‏) والمخرج يحاول أن يجمع بين السيرة الذاتية والقصة الموضوعية الاجتماعية مع تنافر في طرق السرد. في ارباك متعمد أحيانأ يمتد إلن محاولة تشويه صورة النموذج في الشخصية، وتقديمها بشكل مختلف بقصد تعرية الداخل وكشفه، وهو أمر سبق أن تحقق عند يوسف شاهين في عدد من أفلامه، والتي عمل فيها يسري نصر الله مساعدا في ألاخراج.

لعل هذا القول ينطبق أكثر علئ فيلم (مرسيدس 1998 ‏) ولكنه لا ينطبق علئ فيلم (المدينة 2000 ‏) والذي يعالج فيه بطريقة جزئية مفهوم الهجرة إلن الخارج ثم العودة إلن الداخل (خارج وداخل الوطن). في فيلم (باب الشمس 2005 ‏) بجزئية محاولة للاقتراب من القضية الفلسطينية ولكن بصورة مختلفة ينحو نحو التاريخ ومحاولة ربط الماضي بالحاضر في ملحمة تستند إلن رواية أدبية لكاتبها الياس خوري.

~هذا الفيلم (جنينة الأسماك) تم تنفيذه

بواسطة كاميرا ويجنتال اعتمادا علئ سيناريو كتبه ناصر عبد الرحمان والذي سبق أن اشترك مع المخرج في كتابة سيناريو المدينة. وكانت آخر أعماله (هي فوضئ وحين ميسرة) وأيضا فيلم الغابة التي تدور أحداثه حول المناطق العشوائية والشخصيات الأمنية.

يمكن القول بأن الفيلم يعتمد بالدرجة الأولئ علئ حضور الشخصيات ورغم أن الخلفيات كانت حاضرة بقوة إلا أنها خلفيات جاءت لتعزيز صورة الشخصية التي يقدمها الفيلم فنحن منذ البداية ازاء شخصية تقابل أخرى، ومن هنا جات فكرة أن الحديث يجري دائما بين شخصية وأخرى فمن النادر أن نجد مشهدا يحتوي علئ أكثر من شخصين، وحتن إذا كان الأمر كذلك فالشخصية الثا لثة دائما

صامتة لكي تسمع الشخصيتين تتبادلان الحوار بينهما.

الحوار القائم بين شخصيتين فقط بيدودائما وكأنه يتم في اطار المصارحة والمكاشفة والارتداد إلن الداخل بدلا من الاشتراك مع المجموع ولهذا وجدنا أن أساس الفيلم مبني علئ برنامج اذاعي ليلي تقدمه فتاة تدعئ ليلن بكر فهي تتلقن المكالمات من المستمعين لتذيعها في برنامجها (أسرار الليل). فالحوار يسير علئ نمط ثنائي فقط، وهذا ما ينطبق علئ كل الفيلم تقريبا، ليلن تتحدث مع يوسف أو مع زكي مهندس الصوت الذي يعمل معها أو تتحدث مع أمها أو صديقها أو يتحدث يوسف الطبيب مع الممرضة أو صديقة شادي أو معلم أبيه المريض في المستشفئ أو مع عشيقته والتي تتحدث عن نفسها بعد ذلك حتئ عندتما تخرج الكاميرا إلن مناطق مزدحمة ينعدم الحوار مثل مشاهدة جنينة الأسماك من الداخل والخارج. حضور حفلة راقصة، يختفي فيها الكلام ومشاهدة استعراض السيرك الذي ينعدم فيه الكلام أيضا. وبصورة أوضح تعامل يوسف مع منطقة شعبية. يلجأ إليها لأكل طبقه المفضل في مشهد ليس به إلا القليل من الحوار. وهكذا يأتي الكلام في شكل فردي أو ثنائي.

إن كل شخصية من شخصيات الفيلم لا تتحدث داخل مجموعة بل تهمس بكلامها لأحد الأفراد، ولا يقع ذلك إلا بدافع الخوف. حتئ وإن بدا الأمر علئ العكس من ذلك.

بل لا يتوقف الأمر عند هذا الحد. ففي

الفيلم نجد كل شخصية تقريبا تسرد ما يدور بداخلها وتواجه الكاميرا أو الجمهور،وحتئ لو استخدمت ضميرا اخر، فهي تكثف عن مخاوفها الذاتية، مع اسخدام الحجاب الحاجز الذي يخفي .. الحقيقة و~ بما يريد الآخرون أن يسمعوه أو يميل إلن حالة من الأحلام والأمنيات والتي لا تتفق مع حقيقة ما يفرضه الواقع. إن شخصية (يوسف) التي يجساها (عمروواكد) تستقربين وجهين.. الأول طبيب تخدير والثاني طبيب نسائي يقوم بعمليات الاجهاض وترقيع فشاء البكارة وغيرها من الأعمال اللا قانونية.

أما ليلن المذيعة الليلية، فلها وجه اخر مختلف إذ تعيتنر حياتها الليلية، مع شخص أو أكثر باعتبارها عشيقة طارئة لا مانع لديها من التنقل بين شخص أو اخر طالما أنه قادر علئ الدفع. وعلن حل كل المشكلات المادية وغير المادية.

إنها شخصية نافذة من خلال علاقاتها العاطفية المادية المتعددة. وهي مستعدة للمساومة وممارسة كل الطرق السلبية من أجل الوصول إلن غايتها، وفي مشهد واحد له أطته تمارس ليلى ضغوطا علئ زميلتها في العمل من أجل نيل التصريح باذاعة برنامج أسرار الليل في حلقة خاصة بموضئ الايدز واعترافاتهم.

إن كل شخصية لها وجهان متناقضان ولا يمنع ذلك من أن تكون علاقتهما الأمرية متشابكة يوسف مع أبيه الذي يعالج في المستشفيبواسطة المسكنات اليومية وليلن مع أمها التي تعاتبها علئ اذاعة فضائح الناس علئ الملإ.

هناك شخصيات أخرى جانبية مثل عشيقة يوسف التي ~ أيضا بتبريرات لعلاقتها ولكي تتستر عنها. صديقة ليلن الصغيرة والتي تجد نفسها حاملا ولا تجد من ينقذها إلا ليلن والدكتور يوسف.

كذلك السيدة التي تؤجي عمارتها (سماح أنور) وهي تحاول أن تخفي خوفها المستمرهن المتغيرات والتي تسير في مصلحة المزيد من التطرف فلا تملك إلا أن تتسترعلئ هذه المخاوف علئ اعتبار أنها مسيحية وأن هناك حدود معينة في التعامل معها

هناك الممرض الذي يبررعمله مع الدكتور يوسف في العيادة المشبوهة ويجد لنفسه الأسباب الخاصة التي تدفعه إلن الارتباط أكثر من العمل.

إن هذه الشخصيات وغيرها تستخدم الأقوال لخلق صورة أخرى لها بديلة عن

الصورة المشوهة الأصلية. فهي عندما تكثف عما بداخلها لا تكثف ألحقيقة لأسباب ودوافع مادية ومصلحية.

لا نريد أن نقول بأن الأسلوب الذي اتبعه المخرج يسري نصر الله يعتمد علئ ارباك المشاهد والمتابع والتشويش عليه ففي أحيان كثيرة يبدو الفيلم واضحا ومباشرا وخصوصا عند تقديم الاعترافات للجمهور لكن وهذا هو المهم لا يحتقر الفيلم الشخصيات التي يقدمها ولايقسوطيها رغم حالة الازدواجية التي تعيش فيها. بل يتركها تعرض فيها.

من جانب آخر يبدو الفيلم (جنينة

الأسماك) وكأنه يتبع أشرطة المثقفين، إذا جاز هذا التعبير والسبب يعود إلن أن هناك دائما فكرة تسحب الأحداث إليها، أو يمكننا القول بأن الأحداث نفسها قد تأمست علئ هذه الفكرة. وهي فكرة في ذهن المؤلف - كاتب السيناريو- إلا أنهأ قد تجد لها صدى مختلفا عند المخرج فيعبر عنها بطرق مختلفة. ولهذا السبب يصعب وضع حدود فاصلة في هذا الفيلم بين السيناريو والاخراج.

إن كل الشخصيات تعاني من مشكلة

داخلية لا تتفق مع الظاهر مع العلم بأن هناك محاولات أحيانا يقوم بها بعض الأفراد لانقاذ الآخرين، لكن لا جدوى من ذلك، وهذا ما نجده تحديدا في تنخصية زكي الذي يعمل علئ سحب ليلن إلن عالمه ويعرض عليها حبه، إلا أنها تقبل بالبعيد المجهول وتترك ما هو قريب منها.

هناك تنخصية أخرى وهو عمر (أحمد الفيتنا وي) الذي يقترب من الأب (جميل راتب) ويحاول أن ينقذه بالعلاج بعد أن تعرض لحادت أودى به إلن الدخول في مرحلة الغيبوبة. وهو ما يسمح للأفكار بأن تتداعئ وتختلط الصور ببعضها بدون انتظام أو ترتيب.

هناك حالة إذن يبخت عنها الفيلم (مرحلة الغيبوبة) أو هي تنبه الغيبوبة. فنحن في أخر الليل منلا عندما نسمع البرنامج المباتنى (أسرار الليل) وهو زمن يقع بين اليقظة والحلم. بين الغياب والحضور. إنه أقرب إلن حالة التحذير التي يمارسها الدكتور يوسف مع مرضاه أو ضدهم من هنا يأتي التتنابه بين يوسف وليلن.

يمكننا أن نترك المتناهد المزدوجة التي تركز علئ التنخصيات فقط ونذهب إلن المتناهد العامة والتي تعبر عن حركة الناس والأوساط التنعبية ففي خلفية التنا رع نجد بعض المظاهرات التي قامت

بها حركة كفاية ولكن من خلال الحشود من قوات الأمن التي تقف لها بالمرصاد.

ربما عبر ذلك عن ممارسة العنف لكنه تعبير أيضا عن حالة خوف يعيشها الفرد. إنه نفس الخوف الذي بدا واضحا من انفلونزا الطيور، وهو خوف يمكن أن ينقلب إلن حالة هيستيرية لأنه خوف جماعي ومصدره جماعي. وسوف نجد في آخر ألفيلم مشهدا لعدد اثنين من أفراد الطاقم الطبي وهما يدخلان إلن حضيرة دواجن ليتواجدان داخلها بدلا من الفرجة عليها من الخارج.

لاشك أن هناك بعض الاستعراض الفكري الذي اضربا لفيلم فالفكرة لا يمكن القبض عليها كليا لأنها تبقن مجرد مدخل إلن فكرة أخرى، وخصوصا إذا كانت هذه الفكرة قادمة من أعلن أو تعبر عنها الشخصيات بالحوار الثنائي فقط ولا توجد أحداث فعلية ودرامية تؤكد عليها.

هكذا ركز الفيلم علئ الكلام وليس علئ المواقف وفي بعض الأحيان تشعر بأن الكلام ضعيف وهزيل مقارنة بما تدعيه الفكرة من علو. رغم ذلك فقد نجح الفيلم في السرد الاستطرادي حتئ لو كانت هناك مشاهد مفتعلة ودخيلة،

منلا تقول ليلن بأنها تسكن مع عائلتها ولا تحتاج إلن غير ذلك وفي نفس الوقت يصر زكي صديقها علئ أن يعرض عليها تنقة للايجار. وذلك لمجرد أن يلي ذلك المتنها الخاص بمدام سمية صاحبة التنتق لتسرد علينا اخفاقاتها ومخاوفها باعتبارها مسيحية تعيتنر لوحدها.

هناك أيضا منتهد للطبيب يوسف وهوي يلتهم إفطار الصباح في الحي التنعبي وحوله العنترات، وهو منتهد مرتبط بمحاولة خروج يوسف عن المألوف، أو العرف، إذ نجد أن الأب يطلب منه أن يكون ابن ناس أو ابن ذرات ويعدد له في حالة تحذير الكيفية التنكلية لذلك. من ربط خيط الحذاء إلن طريقة الجلوس، لكن المتنها المقصود لا يخدم الفيلم كنيرا فمع حال التناقض الداخلي التي يعينتها يوسف يصبح هذا الموقف تتمة لهذا التناقض.

إن الخوف يمكن أن يكون من الدجاج المريض، ويمكن أن يكون من بوابات البوليس الكنيرة، ويمكن أن يكون من داخل الفرد عندما يصارح نفسه

ويواجهها علئ المكنتوف ويمكن أن يكون من قوة التعبير والكلام في مقابل الفيلم الصامت. إن ليلن ترعب من يعرفها تريد دائما أن ترتدي قناعا من الماكياج، وهي عندما تتحدت مع يوسف من خلال البرنامج الليلي، تتعرف علئ صوته بعد ذلك وهو ما يقود إلن تعارف حقيقي، لا يوصله الفيلم إلن غايته.

أما يوسف فهويعرض نفسه ويعرض حالته. إنه يسكن تقريبا في سيارته التي ينتقل بها لا يعرف الاستقرار وربما خوفا من هذا الاستقرار. كما أنه يجد نفسه خارج حديقة الأسماك ولا يستطيع الدخول إليها. والحديقة هنا أو الجنينة يمكن اعتبارها جوهر الفيلم لارتباطها بالعنوان لكنها ليست كذلك لأن التواصل الرمزي لم يأت مقترنا بطبيعة السمك أو بطبيعة الحديقة، بل بجغرافيات الحديقة نفسها. إنها تنتمل عددا من المنحنيات والالتواءات والزوايا التي يمكن أن نجد لها تنبيها في أي مكان أخر يحتوي علئ نفس الجغرافيا المكانية إنها تتنكل حالة اختباء عن الآخرين. فهذه الجنينة المقصودة هي المتاهة التي تسمح بالاختفاء وعدم الظهور إلن الطن. إنها تساعد أيضا علئ ممارسة اللقاءات السرية ويتمنل ذلك في اللقاءات العاطفية بين التنباب والفتيات، وهناك من له هواية المراقبة وتسمح له جنينة الأسماك بذلك.

لا يتسطيع يوسف الولوج إلن حديقة

السمك لأنه لا يريد أن يكون مكشوفا للمراقبين، رغم انه يقوم بفعل سري وخاص وعليه أن يخرج بسرعة حتئ لا ينكشف أمره مثلما انكثف أمر السمك عندما تحطم الحوض الزجاجي.

هناك ه لمب أخر قريب من ذلك، تتابع ليلن في منتهد مصطنع ألعاب السيرك المخيفة تنكلا وخصوصا عندما يتعامل

المروض مع الأسد ويعمل علئ اسقاطه أرضا تم النوم بجانبه. إنه تحطيم لحاجز الخوف ودخول في محاولة جديدة لترويضه. لكنه يبقن مجرد تنكل خارجي ليس إلا. في الفيلم فيلم أخر أبيض وأسود إنها قصة خرافية عن تردد فتاة بالبوح بما يجب أن تقوله فتضيع منها الفرصة ويختار الشريط أن يعرف كل ذلك بطريقة السينما الصامتة القديمة، مع

اضافة جمل الحوار مكتوبة.

لا نستطيع أن نجد علاقة مباشرة بين القصة المذكورة وجوهر موضوع الفيلم إذا كان هناك مضمون فعلي واضح لكنها مجرد تحية للسينما الصامتة وخصوصا

وأن حركة الممنلين قد جات لتكون مصاحبة ومتوازنة لسرعة الفيلم القديم الصامت. كما أن التعبير هنا قد توافق مع فرض الصمت أو قمع حرية التعبير

لاشك أن هناك بعض الاضافات التي تخدم الايقاع العام للفيلم والحوار العام المسيطر عليه لكنها أحيانا ليست أساسية وغير قابلة للتفسير المنطقي الواضح.

وبالطبع يؤثر الفيلم بما فيه من أجواء وليس دائما بالحدث مهما كان فيه من الاصطناع والذي لا يجد قبولا عند بعض الجمهور.

نعم هناك أماكن ضعف واضحة في الشريط وهناك فتور أحيانا، بسبب الدوران في دائرة مغلقة وهناك أحاديث جانبية وهامشية لكن كل ذلك يشكل ايقاعا دراميا وموسيقيا ليشمل الأغاني المباشرة أحيانا وخصوصا أغنية (الحياة لعبة) وهو ما نجح الفيلم في تقديمه.

لم يبرز في الفيلم إلا الممثلة هند صبري في دور ليلن وأحيانا جميل راتب في دور آلأب المريض. أما عمرو واكد فالدور غير مناسب له رغم أن المخرج يستعمل الممثلين مثل قطع الديكور والكاسب منهم هو من يدخل جنينة الأسماك فعليا ولا يهمه أي شي آخر.

.

ليست هناك تعليقات: