العودة إلى النهاية مرة أخرى
يمكننا القول بوجود عودة إلى أشرطة (رعاة البقر) المعروفة باسم أشرطة الغرب الأمريكي؟ هذه مسألة اعتادت عليها صناعة السينما، عندما تعيد الاهتمام بين الحين والآخر بنوع معين -حسب نظرية الأنواع- وتغفل عن نوع آخر، وذلك بحسب احتياجات المتفرج، والظروف والأجواء الاجتماعية والنفسية التي تسمح بحضور نوع واختفاء آخر.
أحياناً لا يعدو الأمر إلا أن يكون تغييراً في موضوعات وأشكال الأشرطة، بحيث لا يمل المشاهد مما يقدم له، ويبقى دائماً متشوقاً لما هو غير معتاد أو مألوف.
أشرطة كثيرة:
لقد سبق لنا أن تحدثنا في هذه الزاوية عن شريط سابق وهو (الساعة 3:10 إلى يووما) لمخرجه جيمس مانغون، ونتناول اليوم شريطاً آخر وهو: (قتل جيسي جيمس بواسطة الجبان روبرت فورد)، وبالطبع سوف نلحظ طول عنوان الشريط، وذلك تمييزاً له عن باقي الأشرطة التي تناولت شخصية "جيسي جيمس) وعددها كبير نسبياً، ربما تتجاوز العشرة أشرطة، نذكر منها الشريط الأول المهم: "جيسي جيمس - 1939" لمخرجه هنري كينج، وقد ظهرت الشخصية بعد الكساد العالمي وكأنها (روبن هود) تسرق من الأغنياء لتعطي الفقراء.
هناك أيضاً شريط آخر وهو جانبي بالنسبة للشخصية الرئيسة، وعنوانه: (عودة فرانك جيمس) عام 1996 لمخرجه مزيتز لانغ.
أيضاً أنتج شريط بعنوان (امرأة جيسي جيمس) عام 1954 لمخرجه دون باري.. ولقد تحولت هذه الشخصية إلى أسطورة عندما أثبتت أشرطة حول علاقتها بابنه فرانكشتين مثلاً وعلاقة الابن بعصابات الغرب الأخرى.. من آخر الأشرطة التي تعرضت لهذه الشخصية (القصة الحقيقية لجيسي جيمس) 1957 للمخرج نيكولاس ري تأثر بالشريط السابق (عودة جيسي جيمس - 1950) للمخرج آرتر هيلتون.
ومما ينبغي قوله إن من أهم الأشرطة في هذا السياق، ذلك الشريط الذي أخرجه "آنج لي" بعنوان (راكب مع الشيطان) عام 1999.
هذا الشريط الأخير 2006 جاء مختلفاً وبعنوان طويل نسبياً، حيث ينتقل التركيز إلى القاتل وليس القتيل، وتعتمد القصة على الحدث الرئيس فيها وهو اغتيال جيسي جيمس بواسطة روبرت فورد.
ولكن قبل كل ذلك، من هو جيسي جيمس ومن هو روبرت فورد؟
الأول هو أحد الخارجين عن القانون وُلد عام 1847 وشارك في الحرب الأهلية، ثم أسس عصابة للسرقة تضم إخوته وأقرباءه، وقد شاعت عملياته لسرقة المصارف والقطارات في أمريكا حتى صار أسطورة، وقد أعلن عن جائزة كبيرة لقتله أو اعتقاله، مما أغرى أحد أفراد عصابته (روبرت فورد) بأن يقتله من الخلف لكي يتحصل على الجائزة بمشاركة أخيه وهو عضو العصابة أيضاً، ولكن الثاني (روبرت فورد) قتل أيضاً عن طريق أحد المتحمسين لجيسي الأسطورة، ولا يزال بعض الأفراد في ولايته (ميسوري) التي وَلد فيها يعتبرونه بطلًا لا يجوز وضعه ضمن قائمة الخارجين عن القانون، لأنه كان يسرق من الأغنياء فقط، كما يشاع وليس حقيقة..
مهما يكن الأمر، فإن الرأي العام الأمريكي على مستوى استقبال الجمهور لمثل هذه الشخصيات، يتعامل مع هؤلاء باعتبارهم نماذج عليا، بل هم أحياناً أبطال، ينظر إليهم بعين الإعجاب، ولا خير في أن يكونوا أشراراً أو خارجين عن القانون، حيث يعد الخروج عن القانون أحياناً بطولة.. ولذلك صارت شخصية (جيسي جيمس) من ضمن الميتولوجية الشعبية الأمريكية التي تتداخل فيها الحقيقة مع الأسطورة.
بدايات أولى:
لا يركز الشريط، رغم أن طوله يصل إلى (150) دقيقة، على البدايات الأولى لما قام به جيسي وعصابته من أعمال السرقة، ولكن يبدأ مع الأسابيع الأخيرة لهذه الشخصية (حوالي الأربعة أشهر الأخيرة من حياته)، أي في عام 1881 وقد بلغ من العمر 34 عاماً.. أما أخوه فرانك فقد بلغ 47 عاماً، ولم يتبق لهما إلا عملية سرقة واحدة يخططان لها، ثم يتركا هذه المهنة التي جلبت لهما المتاعب والشقاء، خصوصاً وأن عدداً من أشقاء جيسي قد قتلوا أثناء تنفيذ بعض عمليات السرقة، وأعلن عن جائزة كبيرة لمن يقبض على جيسي حياً أو ميتاً، بالإضافة إلى نقص كبير أصاب العصابة في أولئك المحترفين الذين كانوا سبباً في نجاح الكثير من السرقات.
يصور الشريط منذ البداية سرقة القطار، ولكن بحضور شخصية جديدة مترددة وهي (روبرت) وهو شاب يانع، يعمل أخوه تشاري ضمن أفراد العصابة، وبسبب إعجاب روبرت فورد بشخصية جيسي من خلال ما يسمع عنه وما قرأه من قصص ربما تبالغ في عبقرية هذا الخارج عن القانون، اندفع ليكون أحد أفراد العصابة، ولقد قبل جيسي بذلك، رغم إحساسه بأن هذا الشاب اليافع هو مجرد لعبة مسلية ومتوهم يقوده الإعجاب الخارجي، ولذلك يقابله قائلاً: "هل تريد أن تكون مثلي أو تريد أن تكون أنا"..
أثناء عودة جيسي باسم مستعار إلى بيته وأسرته تبدأ الحكاية فعلياً، ويكتشف روبرت أن نموذجه الأعلى ليس كما يتصور، وأن النظرة الرومانسية الحالمة قد سقطت أمام الاختبارات الواقعية.. إن جيسي مجرد قاطع طريق ولص، مستعد لقتل أي شخص يشك فيه، وهو لا يأمن لأي شخص مهما كان نوعه، وأن البطولة الوهمية التي ترتبط به ما هي إلا سراب، وبذلك يصبح التفكير في خيانته أمراً واقعاً، لاسيما وأن هناك جائزة كبيرة تنتظر من يقبض عليه أو يقتله.
لعل حادثة القطار والسرقة بالإكراه والاعتداء على أحد المرافقين للشحنة المالية، كانت سبباً في تغيير وجهة نظر روبرت تجاه جيسي جيمس، ولكن حدث ذلك بالتدريج، فقد صار هذا العضو الجديد مقرباً، لأنه يقدم خدمات التابع للمتبوع، إلى أن وصلت الأمور إلى ذروتها، عندما قتل روبرت النموذج الذي كان خاضعاً له بمساعدة من شقيقه.
شخصية القاتل:
في الأشرطة السابقة كان التركيز على هذا الخارج عن القانون، ولذلك كانت الأشرطة المنتجة حول شخصية (جيسي جيمس) أقرب إلى كلاسيكيات أشرطة الغرب لمخرجه (جون سترجيس) وكذلك شريط (حبيبتي كلمنتين) لمخرجه (جون فورد) وشريط (الخارج عن القانون) لمخرجه (جويس ويلز).
أما الشريط الجديد فإنه يهتم كثيراً بالشخصية المقابلة، شخصية القاتل، وذلك استناداً على رواية للكاتب (رون هانسون) نشرت عام 1983، وتجعلنا شخصية القاتل نتذكر بعض الشخصيات الأخرى المعروفة باغتيالها لبعض الزعامات، مثل قاتل غاندي وقاتل ابراهام لينكولن وقاتل جون كيندي، وقاتل المطرب (جون لينين)، وهي شخصيات ليست بالضرورة كارهة وحاقدة، بل ربما تكون معجبة بنموذجها الأعلى إلى درجة عالية، لكن الصورة تهتز بالنسبة إليها فتتحول إلى ردة فعل عكسية.
في الشريط بعض التفاصيل الأخرى، مثل العلاقة بين أحد أفراد العصابة وزوجة العم والخلافات الجزئية بين روبرت وباقي الأفراد، وربما كان السرد الكثير من الإطالة خصوصاً وأن الإيقاع بطيء جداً، تختفي فيه الحركة السريعة، ولا نكاد نسمع صوت الرصاص إلا نادراً، وهذه النزعة التأملية انعكست بشكل جيد على آراء الممثلين خصوصا الممثل (براد بيت) الذي كان مناسباً للدور، حتى إنك تنسى في بعض الأحيان أنك أمام نجم سينمائي اسمه (براد بيت)، وهذا ينطبق أيضاً على الممثل (كيزي إنليك) في دور القاتل روبرت والممثل سام روكويل في دور الأخ تشارلي.
ومن الملاحظات التي يمكن أن تتصل باختيار شخصيات الشريط اختفاء دور المرأة، حتى إن زوجة جيسي لا تظهر إلا في مشهدين فقط، وهو أمر له علاقة بتعدد أماكن التصوير، وانتقال المطارد جيسي من مكان إلى آخر، بعيداً عن مكان أسرته بمدينة "ميسوري" لأنه شخصية مختفية دائماً حاملة لإسم مزوّر.
لم ينته الشريط بموت المطارد زعيم العصابة، رغم أن جيسي جيمسكان يتوقع موته في أية لحظة، ولربما أتاح للأخوين "بوب وتشارلي" أن يقتلاه، بعد أن سلم لهما مسدسه ولم يفتعل أية مواجهة معهما، وهنا يمكننا القول بأن الاغتيال قد جاء من الخلف ليتحقق المعنى الذي ذهب إليه عنوان الشريط، باستخدام لقب الجبان، وإلحاقه بالقاتل.
عملية انتقام:
بعد مرور وقت قصير على عملية القتل، يتوجه أحد الأفراد إلى حيث يتواجد القاتل ويرديه قتيلاً على مرآى ومسمع من الجميع، ولا أحد يتدخل لتقديم المساعدة.
ومن جانب آخر لايهتم الشريط بقضية الجائزة الماليه كثيراً، ولا يراهن عليها باعتبارها الدافع الرئيس للقتل ، ويحاول أن يسير بأحداث الشريط نحو تنامي العلاقة بين الثنائي المتمثل في "الحقيقة والنموذج أو الواقع والأسطورة" كما قلنا فإن النزعة التأملية الفكرية قد قادت الشريط بعيداً عما يمكن أن يفصح عنه شريط من نوعية أشرطة الغرب أو أشر طة المغامرات، فقد صعدت الدراما بأسئلتها عالياً، بحثاً عما هو مطلق وقدري لا يمكن الانفكاك منه أو الانفصال عنه، وهذا أيضاً ما حدث في الشريط الأول للمخرج وقد كان بعنوان "الساطور 2000" وهو ـ تقريباً ـ يصور نفس الموضوع ولكن من زاوية أخرى تقوم على علاقة بين القتيل والقاتل أو العلاقة بين البطل النموذج والشخصية التي تتصف بالجبن والخيانة وهي صورة أخرى لشخصية يهودا الاسنريوطي في مواجهة جانبية لشخصية المسيح.. كما بدت في العلاقة بين جيسي وروبرت.
يبدو هذا الشريط وكأنه محمّل بالايحاء واللامباشرة مضامين أكثر مما تتوفر في أحداثه الفعلية، وهو أمر لا نجده إلا في الأشرطة الناجمة التي تسعى لبلوغ مراتب لايبد أنها مهيأة لها للوهلة الأولى وعلى عاتق المتفرج تقع مسؤولية البحث عن الجديد والمختلف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق