الجريمة داخل السينما وخارجها
المخرج سعد هنداوي، هو أحد المخرجين الذين يتم الرهان عليهم كثيرا عند
الحديث عن التطور المحتمل في السينما المصرية.
وسواء تحقق هذا التطور أو لم يتحقق يظل الأمل في وجود بعض الأسماء اللامعة
قائما، ولاسيما في مجال الإخراج السينمائية ولا ننفي بالطبع أن هناك بعض
الأسماء التي نجحت فى أكثر من موضع.
ولكن عقبات الإنتاج تبقى هي المشكلة الأساسية ولاسيما في السنوات الأخيرة،
فمن الصعوبة بمكان أن يقدم أيّ مخرج ما يحلم به فعليا.
حيث أن دائرة الإنتاج تفرض عليه ظروف عمل غير متوقعة، وأحيانا تقتضي
المتطلبات التجارية السير في دائرة أساسها العمل والتواجد والحضور
السينمائي بأية طريقة من الطرق وهذه الظاهرة ملازمة للسينما المصرية منذ سنوات.
لقد قدم هذا المخرج هنداوي عددا من الأفلام القصيرة الناجحة منها: زيارة في
الخريف 1995 ويوم الأحد العادي 1996 والمشهد الأخير 1998 وكان أول أفلامه
الروائية "حالة حب – 2004" ثم "ألوان السما السبعة" 2008.
في هذا الفيلم "السفاح – 2010" يقدم المخرج فيلمه الثالث، وهو فيلم يأتي
مختلفا عن الأفلام السابقة من حيث النوعية، لأن الشخصية الرئيسية فيه سفاح
ارتكب عدة جرائم قتل متتالية، وتقول البيانات بأن القصة لها أصل واقعي قريب.
والشخصية أقرب الى الحقيقة، تناولتها الصحف والمجلات في حينها بالتحليل
والعرض وصولا الى تنفيذ حكم الإعدام في هذا السفاح في نهاية القصة الحقيقية
والقصة السينمائية على السواء.
* فيلم ولكن
وبالطبع يمكننا أن ندخل الفيلم ضمن سياقات الأفلام التجارية، في محاولة
لكسب الجمهور عن طريق تقديم بعض القصص الغربية نسبيا، ولاسيما وأن مثل هذه
الشخصيات الشاذة تستهوي الجمهور بسبب غرابتها.
وهناك تجارب كثيرة في السينما المصرية. سبق لها أن تناولت بعض القصص
الواقعية ومن ذلك مثلا أفلام: "ريا وسكينة" و "الوحش" و "اللص والكلاب" و
"إبراهيم الأبيض" وغيرها والتي ربما تكون جيدة.
وبالطبع يختلف التعامل مع شخصية الفيلم الرئيسية من فيلم الى آخر، بحسب
نوعية الشخصية، وهكذا سنجد أن الدافع هو الفقر في فيلمي صلاح أبو سيف "ريا
وسكينة" و"الوحش" بينما تدمج الاعتبارات الثقافية والطبقية في أفلام أخرى
من خلال رحلة الوصول الى أعلى الطبقات الاجتماعية ماليا وبصرف النظر عن
الطريقة.
والواقع أن طبيعة المجرم قد تعاملت معها السينما المصرية ظاهريا فقط، وفي
أغلب الأحيان يتم التركيز على الجوانب الاجتماعية، مثل طلاق الوالدين
بالنسبة للابن أو الفقر الشديد.
وأحيانا يشار الى بعض العقد النفسية البسيطة مثل الخيانة الزوجية أو
المعاملة السيئة أو الإهانة المباشرة، كما في فيلم "هارب من الايام" على
سبيل المثال.
* دافع مهمّ
إن الدافع يبقى هو المهم، ولذلك نجحت أفلام وفشلت أخرى، وسوف نجد مثلا في
فيلم "شيء من الخوف" الكثير من الدلالات التي تعتمد على تجميع عدد من
الدوافع والحوافز المحركة للشخصيات ربما كان في هذه المقدمة بعض الإطالة
غير الضرورية، إذ نحن نجد أنفسنا أمام فيلم لا يختلف كثيرا عن سابق
الأفلام. لأنه يدور في نفس الإطار من التبريرات الاجتماعية والنفسية.
والمشكلة دائما ليست في تقديم شخصية ذات طابع فردي، ولكن أن يفوز المجتمع
مثل هذه الشخصية وغيرها وباستمرار، وهذه مسألة لم يؤكد عليها الفيلم كثيرا
رغم وجود خلفيات كثيرة ومقدمات أساسية لها علاقة بحرب الخليج والصراع
الطائفي في لبنان وإشارات أخرى لمواطن الفساد في مصر وبلاد أخرى تعيش نفس
الظروف.
يبدأ الفيلم من النهائية تقريبا، أو ما قبل النهاية بقليل، عندما يرتكب
"السفاح مراد" مذبحة في حق عائلة "زوج وزوجة وابن" بغرض الحصول على المال،
ولقد اختار عائلة رجل الأعمال صفوت لتكون أقرب الى الضربة الأخيرة.
ولقد صورت هذه المذبحة بافتراض شديد، لأن "مراد" قد قتل كل ما صادفه أثناء
خروجه من شقة العائلة المغدورة، من الجيران الى عامل العمارة وكل من يلتقي
به بالصدفة ويعتبره مصدر خطر.
من جانب آخر أختار سيناريو الفيلم أن يقتل السفاح أيضا عدد من الأبرياء
وبدون تردد في مراحل عدة، بالإضافة الى عدد من تجار السلاح، ممن أدرك مدى
خطورتهم. لكنه يتوقف في تجربة واحدة لأسباب غير واضحة.
لم يقنعنا السيناريو بها ففي الوقت الذي نتصور فيه بأن ممارسة القتل مهنة
يمكن أن يعاد النظر فيها، نجد مراد في صورة سفاح متجدد من أجل الحصول على
المال.
يعود الفيلم بإحداثه عن طريق لقطات" الفلاش باك" الى الخلف.
ما قبل المذبحة بسنوات طويلة، الى الطفولة، عندما كان مراد صبيا حائرا بين
الأم والأب المطلقين ومثل العادة تبحث الأم عن شاب أصغر منها لكي تتزوجه
وتتخلى عن ابنها. أما الأب "كامل" فهو رجل غني ولكنه غير مسرف ويصرف
باقتصاد على ابنه.
يتراوح الفيلم في تفسيره لأسباب رغبة الابن مراد في القتل بين الجانبين
الاجتماعى والنفسي، وهو يدعي بأن رغبته في السرقة ليس لها أي هدف إلا المتعة.
وكذلك خلف حالة من الإزعاج للآخرين. وقد قدم الفيلم مشهدا يدل على ذلك،
عندما سرق مراد قطعة ذهبية وأراد ضابط الشرطة أن يبقيها معه وان يحفظ
القضية، ولسبب أو لآخر ظهر هذا الضابط في نهاية الفيلم.
وي مواجهة مع مراد المحكوم عليه بالإعدام، ليستلم منه نفس القطعة الذهبية،
والأمر هنا لا يفهم منه إلا الناحية الفنية فقط، حيث يتم ربط تسلسل الأحداث
بطريقة معينة، ليس لها دلالة على فحوى القصة الرئيسية.
* مجرد فتاة
يتذكر مراد أحيانا بعض تفاصيل حياته، وفي أحيان أخرى يكتب الى عمته في
العراق كي يخبرها ببعض التفاصيل الأخرى وخصوصا ماله علاقة بالزوجة التي
تعرف عليها وهي "ريما"، حيث يعمل زوجها الأول في الخارج لسنوات عديدة.
وهي، مثل العادة تعاني من الوحدة مع ابنها الصغير، وتجد نفسها بسهولة في
علاقة عاطفية مع رجل آخر "مراد".
والحقيقة أن شخصية ريما "قامت بدورها نيكول سابا" غير واضحة المعالم، من
حيث المظهر الخارجي ومن حيث تركيبتها النفسية.
فهي تطرح نفسها في البداية باعتبارها عشيقة، لكنها لا تحافظ على السرية
المطلوبة لمثل هذه التصرفات، وخصوصا أمام ابنها الصغير.
وفي بعض الأحيان نجدها مجرد فتاة من فتيات الملاهي في سلوكها أمام الآخرين
ولعل أضعف ما فى دورها فقدانها للخلفية الاجتماعية، حيث لا يوجد لها أب أو
أم ولا زوج حاضر، ولقد تركها السيناريو مجرد نموذج يتصرف بدون حدود محدودة.
ولكن مع نهاية الأحداث وعودة الزوج من الخارج، تحصل ريما على الطلاق وتترك
ابنها، وفي نفس الوقت تنجب من مراد فتاة بعد أن تتزوج به.
لقد بدا الفيلم غير تقليدي في سرده وربما حالفه النجاح قليلا، إلا أن
التركيز كان واضحا على شخصية مراد وتصرفاته الثانوية والرئيسية، فلا توجد
شخصية مقابلة له إلا في حدود ضيقة. وعلى سبيل المثال يمثل مراد الطرف الأسوأ.
ولا نجد له بطلا مضادا يطارده أو يقتفي أثره، والأغرب أن البوليس لم يقترب
منه أبدا، رغم الجرائم الكثيرة التي ارتكبها. لقد عمل سيناريو الفيلم على
تتبع التفاصيل من خلال وجهة نظر السفاح مراد فقط.
وربما حاول هذا السيناريو أن يجعله ضحية اجتماعية في بعض الأحيان ولكن طابع
الإخراج كان محايدا الى حد كبير، وهناك إضافة جاءت عرضا، وتتمثل في اختيار
الممثل هاني سلامة لدور السفاح مراد.
وهو دور غير مناسب له على الإطلاق، فهو من ناحية شكلية ضعيف البنية صغير
الحجم، كما أن الجانب التعبيرى لديه ضعيف جدا.
وهكذا جاءت أدوار هذا الممثل ضعيفة في المجمل، ومن الصعب الاقتناع به إلا
فى حدود معينة، وكما قلنا فإن هذا الجانب السلبي قد تحول الى فعل ايجابي
بالنسبة لهذا الدور – السفاح، حيث ظلت مسافة واضحة بين الدور والممثل ولم
ينتقل الإعجاب له الى درجة عالية بالنسبة للجمهور.
يحتوى الفيلم على فراغات كثيرة، مرت من خلال تفاصيل الفيلم، حيث لا نجد الا
موسيقى متكررة ومشاهد صامتة متتالية تحاول أن تصف لنا بعض الأحداث.
* وضوح شديد
نعم، لا توجد في الفيلم تلك الجاذبية المتميزة، ونحن لا نستطيع أن نتحدث في
هذا الجانب على عنصر التمثيل فقط فهناك بعض الاختيارات الجيدة، مثل سوسن
بدر في دور الأم ونبيل حلفاوي في دور عالم الذرة، وربما انعام القريتلي
وأيضا نيكول سابا في دور ريما البطلة الرئيسية.
وبوضح شديد سوف نجد خالد الصاوي فى دور اللبنانى "أبو رعد" رغم أن دوره جانبي.
إن الجاذبية مفقودة، بسبب طريقة السرد التي تم اختيارها وبسبب عدم وجود
ترابط واضح في الأحداث وكذلك بسبب الانتقال من مكان الى آخر بدون فاعلية
تذكر، حيث كان المكان ميتا، على الرغم من تنوعه وتعدده.
يكفي على سبيل المثال أن بطل الفيلم قد عمل فى العراق عندما سافر بقصد
زيارة عمته ،وبالطبع كان عمله أقرب الى الطبيعة العسكرية، ويبدو أنه قد
شارك في حرب ليس له بها أية علاقة.
هذا السفاح مراد نراه أيضا ينتقل الى بيروت ليعمل قاتلا مأجور أو بالفعل،
إذ يقتل عددا أمن الأفراد ومن بينهم زميله "أبو رعد" أو هكذا يتوهم.
ومن ناحية عملية لم نشاهد العراق أو بيروت، رغم أن العمل الخارجي في
المناطق المؤثرة والساخنة قد ساعدت على تكوين هذا السفاح.
يمكن للجمهور أن يفهم المعنى المباشر لهذا السفاح، حيث يرى أمامه قاتل
يتلذذ بالقتل وممارسته، وربما حاول أن يجد تبريرا لحالة القتل أو تفسيرا
لها عندما جعل القتل في المرة الأولى مقدمة لعمليات قتل أسهل.
ولكن وفوق ذلك، فإن إشارة السياسية تبدو واهنة، لأن الساحات المرتكبة تساعد
على إعادة تأسيس القتلة، كما حدث في العراق أثناء الحرب مع إيران، وما حدث
أيضا في بيروت في مراحل كثيرة وفي حروب طائفية بلا جدوى.
* الداخل والخارج
يبقى الفيلم محصورا في تفسيراته النفسية الاجتماعية، ولا يندفع نحو دراسة
الخلفية السياسية التي يقدّمها باحتشام شديد. ولهذا ظلت الأحداث تدور في
دائرة مغلقة، وخصوصا وأن السفاح هنا هو ابن الطبقة الغنية وليس من الفئات
الفقيرة كما هي العادة.
هناك نقد الى الخارج على حساب الداخل، بل إن شخصية عالم الذرة التي تحركت
في نهاية الأحداث، إنما جاءت بوحي من التأثيرات السياسية الخارجية.
ورغم أن الجزئيات المعروضة غير مقنعة، إلا أن الحس الوطنى المدفوع بعدم
الرغبة في بيع معلومات حول القنبلة الذرية قد جعلت السفاح ينتقل الى موقع
آخر ويلغي فكرة القتل.
لكن هذا التغيير محدود، فقد سارت الشخصية نحو حتفها النهائي عندما يتم
القبض عليها، قبل أن تأتي لحظة التطهير مباشرة.
من الصعب تقبّل فكرة الحصول على معلومات حول الذرة بالتهديد، بل تقبل وجود
هذه المعلومات أصلا، لأن الناتج لم يتحقق ويبدو أن السيناريو قد أضاف هذه
القصة الفرعية لغرض إيقاف مسلسل التقل المستمر.
مثل الكثير من الأفلام التي تتناول سيرة شخصية معينة عادية، هناك فراغات
كثيرة، ومشاهد باردة تصاحبها موسيقى عادية وتفريعات بعضها مقبول وأكثرها
غير مقنع حسب المنطق الداخلي للفيلم.
أظن أن الفيلم لم ينجح في كسب الجمهور، لعل السبب في ذلك يعود الى طبيعة
شخصية السفاح نفسها، وأيضا لأن السيناريو بدا أجنبيا.
ربما الأهم من كل ذلك أن الممثل الرئيسي لم يستطع أن يكون في مستوى
الشخصية، فـأسهم في إضعاف الفيلم من حيث يدري أو لا يدري.