عودة الى مدرسة فنية اسمها الموجة الفرنسية الجديدة
في مرحلة معينة من المراحل التاريخية، ظهرت العديد من الموجات السينمائية، وقد أسماها بعض النقاد مدارس سينمائية أو مدارس جمالية وأحيانا نظريات كبرى أو صغرى، بل ربما رأى نقاد آخرون بأنها اتجاهات جمالية فنية تختلف كثيرا عن التطور التقني الذي سيطر على تطور السينما منذ ولادتها.
إذا رجعنا الى البدايات الأولى للسينما الصامتة، سوف نجد مدرسة كبيرة مثل التعبيرية الألمانية، وهي اختيار فكري له أسسه الفكرية والفلسفية، بل إن التعبيرية اتجاه عام يمس الأدب والثقافة وله ملامحه الفلسفية المتعارضة مع اتجاهات مغايرة فى الفلسفة.
هناك أيضا الشعرية الفرنسية والتي ولدت مع السينما الناطقة في فرنسا، كما أن هناك اتجاهات أخرى لها علاقة بالسينما التسجيلية، ولعل السينما الأمريكية قد شكلت قالبا له أشكال مختلفة، وأسهمت في تشكيل اتجاهات متباينة، حتى لو لم يصنفها أهل النقد ضمن مدرسة معيّنة دون غيرها، هناك أيضا بالإضافة الى المدرسة الأمريكية، المدرسة الروسية والتي وضعت الأساس الفكري لمفهوم المونتاج وأشكاله وتنويعاته وكذلك مفاهيم أخرى مثل الكاميرا العين وغير ذلك من التصورات التي استمدت نقاط انطلاقها من غريفت الامريكي وايزنشتاين الروسي وابيل غانس الفرنسي وغيرهم كثر ...
إلا أن مفهوم المدرسة أو الموجة قد تحقق فعليا بعد الحرب العالمية الثانية ولاسيما مع الواقعية الجديدة في ايطاليا، بداية من عام 1944، ثم الموجة الجديدة في فرنسا بداية من عام 1998 والسينما الحرة في بريطانيا وكذلك السينما الجديدة في البرازيل، وبعض التنويعات الأخرى والتي ظهرت في أوروبا الشرقية وبلاد اسكندنافيا وسينمات معاصرة في أمريكا والمكسيك والدنمارك وغيرها.
في هذه العقود الأخيرة، ومع ما يعرف باختفاء الاتجاهات الفكرية السياسية أو غياب الايدولوجيا، تبدو الساحة السينمائية وكأنها خالية من المدارس السينمائية، وبالتالي فقد فتحت الأبواب أمام التطورات التقنية بشكل أوسع، وهذه التطورات تشمل تطور الآلة وتطور أساليب السرد والمعالجات الدرامية، رغم أن الظواهر الفكرية تتحرك باستمرار بشكل فرديّ بحيث لا نستطيع أن نطلق عليها اسم مدرسة أو اتجاه، وبالتالي فكأن هذه المصطلحات قد صارت جزءا من تاريخ السينما، مثلما نجد أن المذاهب الأدبية هي جزء من تاريخ الأدب والفن.
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن أهم مدرستين في السينما قد شملهما الاتساع وجودة التنظير والتصنيف هما: أولا مدرسة الواقعية الجديدة في ايطاليا، ويلي ذلك الموجة الجديدة في فرنسا.
هذا الكتاب الصادر عن سلسلة الفن السابع السورية، يدور حول الموجة الجديدة الفرنسية، وهو كتاب مترجم عن الفرنسية صدر بنفس السنوات لمؤلفه ميشيل ماري. أما المترجم فهو زياد خاشوق والذي سبق له أن ترجم بعض الكتب من نفس السلسلة.
ظهر من البداية وبوضوح أن الكتاب يتضمن جوانب تعريفية بهذه المدرسة مع تحليل بعض الظواهر المرتبطة بها ولاسيما المقدمات التي أدت الى بروز هذه المدرسة وتناول أهم الأفلام التي أكدت على اختياراتها وكذلك التطرق الى أهم الأسماء التي شاركت في التأسيس لهذا الاتجاه من بداياته الأولى عام 1959 والى عام 1969 تقريبا.
أي أن هذه الموجة قد استمرت لعقد من السنوات وأنتجت ما يزيد عن مائة فيلم، يمكن أن يقال عنها إنها قد استوفت بشكل أو بآخر شروط هذه الاتجاه المعروف الى الآن باسم الموجة الفرنسية الجديدة.
بالطبع ليس هذا الكتاب الأول، فقذ ذكر المؤلف بأن هناك كتبا أخرى فرنسية تناولت هذه الموجة، وهي كثيرة مازالت تصدر الى الآن، ذلك أن السينما الفرنسية، وخصوصا في سنوات ضعفها لا تجد أمامها إلا الموجة الجديدة مجالا للبحث والدراسة، لأنها عن طريق هذه المدرسة اشتهرت السينما الفرنسية في الخارج.
وفي كتب التنظير النقدي السينمائي العامي. والأهم من ذلك الأثر الذي تركته هذه المدرسة على مختلف الأجيال داخل فرنسا وخارجها.
بعد المقدمة يتكون الكتاب من عدة فصول، وهي فصول تراتبية متدرجة، من البدايات الأولى الى تسمية المصطلح وإنتاج الأفلام وحضور السمات الخاصة لهذه المدرسة ثم تنوعها الى حين اختفائها بالتدريج.
يقول المؤلف بأن تحرّر السينما من دائرة التجارة وارتباطها بوزارة الثقافة كان من أهم البواعث التي أثّرت في مجريات الموجة الجديدة، ولكن ذلك مجرد شكل خارجي، لا ينفر أبدا أن محاولة الثورة على القديم هو الباعث الرئيسي لهذا الاتجاه الجديد.
يضع المؤلف نقاطا واضحة لكي يستوفي المعايير الخاصة بأي موجة أو مدرسة سينمائية، ومن أهم هذه المعايير والتي تنطبق على أيّ مذهب:
كيان نقدي وبرنامج جمالي وبيان يصرح بذلك ومجموعة أعمال فعلية ووسيلة نشر مختصة وإستراتيجية للترويج وزعيم لهذه الحركة ومنظر لها وأيضا وجود من ينافسها أو يعترض عليها بشكل منظم.
يردّ مؤلف الكتاب على كل ذلك بتسمية واضحة لبرنامج هذه المدرسة ويختصرها في الآتي:
- من تحصيل الحاصل قولنا إن جميع هذه المعايير كافة أي يندر وجوده عمليا. أما إذا اجتمعت فإن ذلك دليل على مثانة وتماسك المدرسة المعنية ومن وجهة النظر هذه ننوي البرهان على أن الموجة الجديدة هي إحدى المدارس الأكثر رسوخا والأكثر تماسكا في تاريخ السينما".
إن البدايات الأولى لهذه المدرسة جاءت مع عدد من العوامل ومنها مقال الكسندرا ستروك "الكاميرا القلم" وإنشاء "نادي الفيلم الملعون" تم تنظيرات اندريه بازان في سنوات مثالية "1948 – 1949 – 1950".
أما المجلة المعبّرة عن الاتجاه فقد كانت "دفاتر السينما" العدد الأول 1951. ثم جاء بيان فرانسو تروفو "اتجاه ما في السينما الفرنسية" عام 1954، وبلا شك فإن تأثيرات السينما الأمريكية واضحة في هذه المدرسة ولاسيما أفلام المخرج هيتشكوك يقول الكتاب بأن الأفلام الفرنسية كانت ناجحة تجاريا قبل ظهور الموجة الفرنسية.
ولكن رغم ذلك فإن هناك احتجاج من بعض المخرجين الشباب على ما يعرف بالتراث الراقي "الأفلام المقتبسة عن الأدب بصفة خاصة". ولعل النقطة الأهم هي الدعوة الواضحة نحو وجود المخرج المؤلف الذي يكتب السيناريو يتولى بنفسه العمل في الفيلم اعتمادا على فكرة أن الكاميرا هي القلم، ولهذا السبب تولى النقاد أنفسهم الدخول في مجال الإخراج، ومن هؤلاء كلود شابرول وترفو وغودار وايريك رومير وجاك روزييه وجان روش وغيرهم.
ومن الأفكار الشيقة التي يطرحها مؤلف الكتاب وجود مجموعة معارضة لهذه المدرسة تتزعمها مجلة "بوزتيف" الفرنسية، وظهور عشرات الكتب التي تقف ضد هذه الموجة، وبل إن الكتب المضادة مازالت تصدر الى الآن.
جاء الفصل الأول من الكتاب بعنوان "شعار صحفي وجيل جديد". أما الفصل الثاني فقد جاء عنوانه" مفهوم نقدي". وفي الفصل الثالث دراسة حول طريقة الإنتاج والتوزيع. ويتطرق الفصل الرابع الى الممارسة التقنية وفق نظريتها الجمالية. الفصل الخامس جاء بعنوان "موضوعات وأجساد جديدة"، والفصل السادس تطرق الى تأثيرات الموجة الجديدة ومدى تأثرها الخارجى.
وكما يقول المترجم فإنه يضيف فصلا يحتوي على عرض وتلخيص لأهمّ الأفلام التي اشتهرت بأنها معبّرة عن الموجة الجديدة ومن ذلك: فيلم "الرمق الأخير" – إنتاج عام 1960 لمخرجه جان لوك غودار وفيلم "400 ضربة" لفرنسوا تروفو إنتاج 1960 وفيلم" مصعد الى المقصلة" لمخرجه لويس مال إنتاج 1958 وفيلم "وخلق الله المرآة" لمخرجه روجيه فاديم إنتاج عام 1956 وفيلم" أبناء العم" لمخرجه كلود شابرول إنتاج 1959 وفيلم" سيرج الجميل" لمخرجه كلود شابرون إنتاج عام 1959 وفيلم "وداعا يافيللين" لمخرجه جاك روزييه إنتاج عام 1960.وفيلم "كيلو من 5 الى 7" لمخرجته انيس فاردا إنتاج 1962 وفيلم" انا أسود" لمخرجه جون روش إنتاج 1958 وفيلم"المرأة التي تجمع" لمخرجه ايريك رومير إنتاج 1967 وفيلم "فهرنهايت 451" لمخرجه فرنسوا تروفو وفيلم" بيرو المجنون" لمخرجه جان لوك غودار إنتاج عام 1965.
في الفصل الرابع، وهو من أفضل فصول الكتاب يختصر الكاتب جماليات الموجة الجديدة في عدد من العناصر وهي أن يكون المخرج هو كاتب السيناريو وأن يتجه الفيلم نحو الارتجال في الحوار والتمثيل واختيار المقاطع والمشاهد. كما يفضل أن يكون الديكور طبيعيا، بعيدا عن استوديو وأن يقل عدد الفريق بقدر الإمكان، وأن يكون الصوت قد تم تسجيله مباشرة، مع عدم استخدام إضاءة صناعية من العيار الكبير.
كما أن الممثلين يتم اختيارهم من غير المحترفين، ومن جانب آخر تسير أفلام الموجة الجديدة نحو إلغاء القيود الفاصلة بين سينما الاحتراف وسينما الهواة والابتعاد عن النموذج التجاري وربما أيضا الربط بين الخيال والتوثيق، ولقد نجح الكتاب في معالجة كل نقطة على حدة، حيث أن هذه التنظيرات ليس لها فعالية على أرض الواقع، لأن الأفلام جاءت بعكس ذلك جزئيا على الأقل وليس كليا.
هناك جوانب لم يحاول الكتاب إثارتها ومن ذلك تأثر الموجة الجديدة البالغ بالواقعية الايطالية الجديدة، رغم أن الإشارة الى ذلك قد تمت، ولكن فضل الكاتب أن يدعم تيار الموجة الجديدة باعتباره تيارا مستقلا أسسه عدد من النقاد الفرنسيين بطريقة بعيدا عن التأثر الواضح، وهذا ما يقال أيضا عن تأثير السينما الأمريكية، حيث تعدّى التأثير مجرد التطرق الى بعض أفلام هيتشكوك، لأن الواقعية الأمريكية كانت أكثر فعالية، وهو أمر حاولت التنظيرات السينمائية الفرنسية الابتعاد عنه.
أما موضوعات الموجة الجديدة فهي نقطة ضعف هذه المدرسة، ولاسيما أن الموضوع ظل في الظل أمام الاهتمام بالشكل الفني، مع عدم الاكتراث بالجمهور بعكس الأفلام الأمريكية أو أفلام الواقعية الايطالية.
إنه ولاشك كتاب جيّد، وهو من أفضل الكتب العربية المترجمة بحثا في الموجة الجديدة الفرنسية، كما أنه كتب بلغة واضحة المعاني، لا تشعر أنها مترجمة عدا استخدام بعض الكلمات العربية غير المعبرة، مثل القول بالسيروي، نسبة الى السيرة، وفي جميع الأحوال يبقى هذا الإصدار من أفضل كتب الفن السابع الاخيرة.