الخميس، 25 يونيو 2009

صخب الخارج وهمس الداخل في "ليالي رودانتي"








عندما تتشابه الصور وتتكرر الشخصيات


مثلما تحدثنا كثيرا عن بعض الثنائيات في السينما وذكرنا أفلاما مثل "بعد

الغروب وقبل الشروق وهارفي الفرصة الاخيرة" وغير ذلك من الأفلام التي

أعتمدت على قصص واقعية فعلية أو على قصص متخيلة يقودها بطلان هما في الغالب

رجل وإمرأة، فإن الحديث يمكن أن يستمر ايضا بنفس الطريقة في الاقتراب من

الموضوعات التي تتناولها السينما وتعمل على تغيير ما في نفس الانسان

فتساعده على اكتشاف ذاته، حتى يمكننا القول بأن هذه الموضوعات قد صارت

مستهلكة من فرط تكرارها، ولكن هذه هي السينما المؤهلة لمعالجة أي موضوع من

زوايا عدة والقادرة على سرد الحكاية وإبراز الفكرة بعدة أساليب وطرق، لا

يمكنها أن تتوقف حتى اذا كان الشكل الخارجي يعتمد على فكرة الثنائيات وحدها.

أحداث متوقعة

هذا الفيلم الذي جاء بعنوان: "ليال في رودانتي" انتاج أواخر 2008 هو من هذه

النوعية، وبالتالي يمكن للمشاهد أن يقول بأنه قد شاهد أجزاء من الفيلم من

قبل، أو أنه قد عرف بعض الشخصيات، أو توقع ما يمكن أن يحدث فيه ولعلنا اذا

ذكرنا أفلاما مثل "جسور ماديسون أو كراسة الملاحظات أو القصة الغريبة للسيد

بنغامين" وغير ذلك من الأفلام سوف تلتصق بالذاكرة صورة تلك المرأة الأم

التي تروي بطريقة أو بأخرى قصة وقعت لها، تكشف فيها عن علاقة عاطفية عصفت

بكيانها وغيرت من مسار حياتها، وهي تعترف بذلك عبر الرسائل المكتوبة لتكشف

عن أشياء خبيئة ما كان لها أن تحدث لولا هذه التجربة العاطفية السريعة

والمؤثرة.

صندوق رسائل

من ضمن مشاهد هذا الفيلم الأخيرة، تخرج الأم صندوقا مزخرفا تضع فيه الرسائل

العاطفية التي تصلها من ذلك الرجل الذي مر في حياتها واختفى، وتسلمها الى

ابنتها بطريقة أو بأخرى، مع سرد لبعض وقائع القصة العاطفية وذكرياتها، ومن

جانب آخر فإن الرجل العاشق، قد جمع ايضا الرسائل الواردة إليه في صندوق

قديم، ثم بعد موته يتولى ابنه تسليم الصندوق الى المرأة التي كان ينوي

زيارتها من جديد لولا الموت المفاجىء.

ان الأفلام الحديثة تتمسك ببعض الصور القديمة التي افرزتها السينما

الرومانسية القديمة" لما فيها من تعبير رومانسي، ربما تفتقده المتغيرات

الجديدة، لذلك الرسائل المكتوبة هي المعبرة عن حالات الحب، والاحتفاظ بهذه

الرسائل في صناديق صغيرة، ومزخرفة هو من الدلالات المؤكدة على هذه العاطفة

فرسائل الحب هي صورة قديمة تمت استضافتها في فيلم عصري ومعاصر، يستخدم فيه

الافراد الهواتف النقالة ويرسلون به الرسائل السريعة، فضلا عن استخدام شبكة

الانترنت، وقد استخدم ابطال الفيلم هذه الادوات داخل الفيلم في اتصالاتهم

المختلفة، إلا حين يأتى التعبير العاطفي وتبادل الكلمات الوجدانية، فإن ذلك

كله يتم إغفاله أو التغافل عنه، لمصلحة كتابة الرسائل البريدية، والرد

عليها وتجميعها باعتبارها تعبيرا ماديا وعاطفيا في نفس الوقت.

نزوع رومانسي

هذه هي الدلالة الأولى التي اصطنعها سيناريو الفيلم لتأكيد نزوعه

الرومانسي، فالاجهزة الحديثة يبدو أنها لا تتوافق مع تبادل العواطف، ولذلك

جاءت كتابة الرسائل الورقية دلالة مستوردة من الماضي ومن أدبيات الماضي

ايضا، ان هذا الفيلم "ليال في رودانتي" مقتبس عن رواية بنفس العنوان، حققت

نجاحا تجاريا كبيرا وقفد كتبها "نيكولاس سباركس" مؤلف رواية "كراسة

الملاحظات" والتي تحولت الى فيلم ايضا.

ومن هنا يأتي بعض التشابه بين الروايتين في مسائل جانبية وليست أساسية، بل

تشابه مع روايات أخرى مثل "يعيش لكى يتذكر ورسائل في قارورة"، هناك دلالة

أخرى لها علاقة بالاعتبارات الرومانسية التقليدية، حيث تتطلب الرومانسية

سيطرة فكرة العزلة وفي مكان له علاقة بالطبيعة، وقد بدت الطبيعة بارزة في

الفيلم، فهي ليست مجرد خلفية، لكنها باعث ومحرك للاحداث، لأنها تدفع

الأفراد نحو الممارسة الفعلية للحياة والطبيعة ثائرة وهادئة في نفس الوقت.

كما إن الطبيعة هنا هي جمع للبحر من ناحية وبعض مظاهر الطبيعة الأخرى،

ونقصد بها الاعصار أو الزوابع المائية العالية التي هددت الفندق الصغير في

ليلة يتيمة، لكنها لم تستمر طويلا، فكأن الزوبعة لها هدف درامي ليس إلا.

دلالة رمزية

إن المكان ايضا له دلالة رومانسية، استحضر من الأدبيات القديمة، وهو فندق

معزول يشرف على البحر مباشرة ومبني بطريقة غريبة، لأنه ليس بناية اسمنتية

حديثة بل بناية خشبية تقوم على أعمدة خشبية ايضا، وبالتالى فإن الفيلم قد

هرب من الحياة العصرية بكل ما فيها من منشآت ليذهب بعيدا الى قرية رودانتى

في مواجهة للبحر والرمال والاشجار المتناثرة، فضلا عن البنايات الصغيرة

المجاورة التى لم تتوسع الكاميرا في استعراضها.

في بداية الفيلم نجد أمامنا الأم أدريان وهي تعد اولادها للسفر مع ابيهما

في نزهة عطلة الأسبوع. الأم مطلقة منذ سبعة أشهر فقط، والأب يعمل على قضاء

بعض الوقت مع أولاده. الطفل مارك الصغير والمتعلق بأمه لا يرغب في الذهاب،

ولكنه يقبل بناء على إلحاح أمه. أما اماندا فهى طفلة مراهقة، لا تتقبل حديث

أمها وتتحدى الجميع بوضع وشم على بطنها، وهى تميل الى والدها أكثر كما يظهر

في بداية الفيلم. كما ان مارك الطفل يعانى من مشكلة في التنفس ويحتاج الى

العلاج المستمر.

قرية معزولة

ستنتقل الأم فى المقابل الى شمال كارولينا، الى قرية معزولة تدعى رودانتي،

ولا يوجد مبرر مقنع لوجودها فى هذا المكان، حيث اختار الفيلم أن تقوم

ادريان بتدبير شؤون الفندق بدل صديقتها "جين" والتى تسافر ايضا لقضاء

العطلة الاسبوعية خارج الفندق الذى تمتلكه بالوراثة منذ زمن طويل، وبعض

المشاهد تصور جين وهى تهاتف صديقتها لتوضح لها طريقة ترتيب وادارة شؤون

الاكل والاقامة، والأمر لا يستحق عناء كبير لأن الفندق به شخص واحد فقط

طيلة عطلة الاجازة، وربما نفهم أن بدايات العواصف قد بدأت تضرب المدينة

فهناك خطورة بالفندق أو أن الغرض هو وجود شخصين فقط فى مكان معزول، كما

تتطلب ذلك الاحداث المصطنعة وطريقة تطورها.

ان الفيلم فى هذا الجانب مرتبك نسبيا وهو لا يقف على أرضية واضحة، ومقدمته

المتعثرة هذه لا تستطيع أن تنقذه مما هو قادم من أحداث.

فى جانب آخر هناك شخص مقابل يظهر بطريقة شبه متوازية وهو "بول" القادم عبر

مسافات طويلة الى هذه المدينة "رودانتى" بعد أن باع منزله وكأنه لا يفكر في

العودة، بل هو قادم الى مكان عابر، ينطلق بعده الى مكان آخر أبعد، من جانب

آخر نجد الأم ادريان مجروحة بسبب طلاقها من زوجها جاك والذى خانها مع فتاة

أصغر منها وكان ذلك سببا فى الانفصال. أما بول فهو طبيب جراح كان سببا فى

موت إمرأة اثناء عملية الجراحة الفاشلة التى قام بها، وكانت مجرد عملية

تجميل فى الوجه.

ولقد اقام عليه الزوج دعوى قضائية يطالبه فيها بالتعويض ويتهمه بالاهمال

والتقصير.

والأهم أن لبول ابنا يعمل طبيبا ايضا مع ابيه "جاك" لم يعجبه سلوك والده

وخصوصا طريقة الابلاغ بموت المريضة عندما طلب من الممرضة أن تنقل خبر

الوفاة الى الزوج فى الخارج وهو ينتظر.

أزمة فردية

إن الأبن ينتقل الى جنوب امريكا اللاتينية "الاوكوادور" ليعمل فى مدواة

المرضى فى عمل تطوعى ربما لكى يبتعد عن طريق والده الاحترافى فى ممارسة

مهنة الطب، بأسلوب يخلو من العاطفة حيث يعتبر الطب مجرد مهنة آلية، مهما

كانت نتائجها.

ان كل فرد يحمل مشكلته معه، مشكلة داخلية، الطبيب بول جاء بناءا على طلب

الزوج الذى يسكن فى هذه المناطق لكى يتحدث معه، رغم انه لا يعرف ما سيقوله

عمليا، أما ادريان فقد طلبت وقتا للتفكير فى طلب زوجها السابق للعودة الى

حياتهما المشتركة، ومن الواضح أن ابنتها المراهقة تسعى لذلك وتقف الى جانب

والدها ضد رغبة الأم، ومبرر انتقالها ضعيف لأنها ترفض العودة اصلا.

ربما يكون باقى القصة معروفا. فوجود شخصيتين "رجل وإمرأة" في مكان منعزل

سيؤدى الى ايقاظ المشاعر الميتة، ولاسيما وان بول قد ماتت زوجته منذ سنوات

وهو لا يعرف ماذا يريد أو يفعل، وكذلك ادريان والتى تبدو حائرة ولا تعرف

الطريق الى القرار السليم.

زوبعة عاطفية

اختار الفيلم التركيز على الزوبعة التى تسبق البركان طريقة لاشعال المشاعرة

فبعد أن بدأت موجة الاعصار تهاجم البيت، وتسللت المياه الى الداخل وتم

اغلاق كل الابواب والشبابيك وتوقف مولد الكهرباء عن العمل وساد الظلام، مع

ارتفاع مشاعر الخوف من أن يستمر الاعصار الى ما لا نهاية. كما تقول بذلك

بعض التلميحات، بعد ذلك مباشرة اشتعلت المشاعر الداخلية بين بول وادريان

بشكل حاد، بحيث غابت فكرة الرومانسية المطروحة والتى حاول الفيلم التأكيد

عليها، وصار اندفاع الحدث منوط فقط بالرغبة الجنسية والتي يمكنها أن تكلف

التخفيف من حدة التوتر وتعيد الأمور الى نصابها وتلغي حالة الغضب.

بصرف النظر عن أن تكون هذه اللحظة المختارة عاطفية أو جنسية أو وجدانية قد

سارت بشكل طبيعى داخل سياق الفيلم، وخصوصا وأن كل شخصية قد استمرت في

التفكير بمشكلاتها الخاصة ولم تتنصل منها أو تؤجلها.

لقد ادخلت معالجة الفيلم ادريان باعتبارها طرفا مساعدا فى حل مشكلة بول،

فبعد التوافق العاطفى المشترك والمشاركة فى حفل الابتهاج بانتمهاء الاعصار

وتلاشى الخوف منه من قبل سكان المنطقة، بعد كل ذلك، يصبح الحوار مع زوج

المرأة الضحية ومع ابنها مسألة ضرورية، ويعتبر الفيلم أن الاعتذار قضية

هامة بالنسبة للطبيب، لأنه قام بكل واجباته ويدلل على موت الضحية بقوله أن

الحادثة تقع مرة في كل 50 ألف حالة، ثم تدفع ادريان باتجاه المشاركة

الوجدانية، ويظهر الحوار بين هذه الشخصيات في ثلاثة مشاهد تنتهى فيما يشبه

المصالحة ويبرز الممثل "سكوت غلين" في دور زوج المرأة الضحية ويكاد يسحب

البساط من الممثلين الآخرين.

لوحات جميلة


لم تستطع الكاميرا المحايدة أن تعطى للفيلم جاذبية خاصة، رغم استعراض بعض

اللوحات الجميلة الطبيعية، كما لم يستطع الممثل ريتشارد غير أن يكون مقنعا

في دور بول وهو أمر ينطبق بشكل محدود على الممثلة "دايان لين"، فلم نشهد أى

توافق وانسجام ثنائي بينهما وربما لم تساعد خطوط الفيلم الضيقة على فهم

ابعاد كل شخصية على حدة، وهو أمر ساعد على الرفع من مسألة الميلودراما،

فصار الفيلم أقرب الى البكائية التي تستهدف التأثير العاطفى على المتفرج.

يفترق بول على ادريان، فيمضى الى ابنه في الاكوادور ويعمل معه طبيبا يساعد

الفقراء وفي الاماكن التى تكثر فيها الأمراض الخطيرة، فيقدم نفسه بالتالى

قربانا من أجل الآخرين، فى تضحية كاملة بالنفس وبصورة عكسية لشخصيته

الأولى، إنه ايضا يراسل ادريان فيجمع رسائلها وتجمع رسائله، وهي تخبر

ابنتها بقصتها العاطفية، بعد أن قررت عدم العودة الى زوجها السابق، وربما

تستمر في ممارسة مهنة فن الرسم والتصميم القديمة.

لقد لملمت كل شخصية ما بعثرته الحياة واعادت تكوين نفسها من جديد، بعد

الاصابة ببعض الشروخ المؤقتة، ورغم أن الفيلم ينتهي< بموت الطبيب بول في

فيضانات مائية، إلا أن الدعوة الى الحياة تبقى قائمة رغم ذلك فالاسطورة

الكامنة يمكنها أن تخرج الى الوجود، كما خرجت الجياد البرية على الشاطىء في

آخر الفيلم.

ربما كان هذا الفيلم مليئا بالثغرات، وأظن ان ذلك يعود الى الاخراج

والتنفيذ الفني، فلم يستطع المخرج المسرحي التلفزى "جورج وولف" أن يقدم

عمليا فيلما يعكس الطموح الذي يمكن فقط استنتاجه من بعيد.