الاقتراب من حافة الرغبة
لست ممن يهتمون كثيرا بالأقوال أو الحكم أو الكلمات المأثورة التى تسبق عرض الأفلام، والتى يختارها مخرج الفيلم على الأرجح، لتكون مدخلا لأحداث الفيلم وربما شرحا لها أو تلخيصا للفكرة المطروحة أو على الأقل مقدمة تتواصل مع النهاية.
ان الأمر على أهميته يبدو وكأنه لا يضيف جديدا، مهما كانت بلاغة الحكم أو دلالاتها، ومهما كانت درجة القيمة الثقافية لتلك المختارات من الأبيات الشعرية أو جوامع كلمات الصوفية. وسوف نجد فى أفلام أجنبية عديدة حوارات منقولة عن شخصيات شكسبيرية وأحيانا مقولات فلسفية لأعمدة الفلسفة فى الفكر الأغريقي أو الفكر الأوروبي الحديث. ولكن كل ذلك لا يعنى الكثير أمام تفاصيل الفيلم وموضوعه الرئيسي ومقولاته ومشاغله الفنية والتى قد تذهب بعيدا عن القول المبدئى وتتوجه نحو اختيارات أخرى.
فى السينما العربية الكثير من الأفلام تبدأ بمقولة مختارة، أغلبها من نوع الأفلام التى لها طموح أوسع ويمكن أن نذكر فيلم لألوان السما السبعة الذى بدأ بكلمات للشيخ جلال الدين الرومى وكذلك فيلم (القبطان) الذى بدأ بكلمة للصوفى النفري، وأقرب الأفلام العربية المومياء التى أختار أن يبدأ بمختارات من كتاب الموتى الفرعونى، وأظن أن بعض أفلام الناصر خمير من تونس قد انشغلت بذلك أيضا ولاسيما فى فيلم (طوق الحمامة المفقود) أو فيلم (بابا عزيز).
وفى جميع الأحوال ومهما كانت الدلالة حاضرة والإيحاء واضح، فإن مثل هذه المختارات لا تجد الصدى عن الجمهور، وفى الغالب لا يتم الانتباه إليها، وعلينا بالطبع أن ننهي الفيلم باعتبارنا مشاهدين، حتى يتم بلوغ المعنى المستهدف فى النهاية وأحيانا يكون المعنى فى دائرة الاحتمال فقط وليس الضرورة.
فى هذا الفيلم (طبخة فوزية) لمخرجه مجدة محمد على شىء من كل ذلك، فقد بدأ الفيلم بشعر غنائى كتبه فؤاد قاعور، هو أقرب التقديم المبدئى، وتقول الكلمات: -
العشق زين... بس الهموم سباقة.
والشوف حديد... بس الغيوم خناقة.
والانتظار للوعد نار حراقة.
وبمقدار اقتراب هذا الشعر من الناس البسطاء ومتاعبهم وأحلامهم يغطى هذا الشعر حالة الشعور بالإحباط والآمال المجهضة، وهذا الأمر الذى يقع بين قطبين متجاذبين ومتنافرين هو الاختيار الذى تلازم مع المخرج فى أكثر من فيلم له، ولاسيما فيلمه الشهير (يا دنيا غرامى) 1998، فمع مقدار الاندفاع نحو الحياة والتعلق بها والكفاح اليومى الخانق، هناك الانتكاسات المتتالية والظروف الصعبة والخيبات الحياتية الشديدة القسوة. فى إشارة واضحة الى تقبل المعاناة تلو الأخرى وبمواساة الآخرين واجتماعهم وتشجيعهم ودفعهم لبعضهم نحو المزيد من الاحتمال والخروج من الشرنقة الصعبة التى يعيشونها لأسباب كثيرة ذات طبيعة اجتماعية وربما سياسية أيضا.
سوف نجد فى هذا الفيلم (إنتاج 2009) عددا من الشرائح الاجتماعية أو ربما الشخصيات المتناثرة والتى يربطها احيانا حي هامشي وسكن متواضع وحياة قاسية، لا تكاد تحتمل، ورغم ذلك فهى محتملة، لأن كل شخص يقف الى جانب الآخر، وبالطوق الجماعى وحده يتم التغلب على المعاناة.
اما العنصر الدرامى (الشخصية) التى تجمع فعليا هذا العدد من البسطاء حولها، فهى (فوزية) إمرأة ذات شخصية قوية، لكنها تحتاج الى الآخرين وهذه نقطة ضعفها ومصدر قوتها أيضا، إنها تطلب الطلاق تباعا من أزواجها فى مشهد كوميدى قدمه الفيلم منذ البداية، ولأسباب تبدو بسيطة شكلا، وفعليا تمس هذه الأسباب كيانها الفردى وتهزه، وبالتالى فقد صار لفوزية أربع زيجات، انتهت جميعا بالطلاق. لكن فى المجتمع الصغير (الشعبى) لا يعنى الطلاق الانفصال التام والنهائى خالد واقع الى اللقاء الجماعى تبدو واضحة، ولاسيما أن هناك أبناء من أولئك الأزواج يعيشون جميعا مع الأم ولا يطالب الآباء بهؤلاء الأبناء بحكم صغر سنهم أولا ولأن لديهم مؤوى مع أمهم ثانيا وثالثا لأن المجتمع الذى تم التركيز عليه فى السيناريو نسائى فى أساسه، يتحرك وفق معايير أنثوية، بل يتم استبعاد الرجال من الناحية الفعلية، لأن فوزية تعمل وتصر على العمل، فهى تعد الروائح النسائية وتقوم بالتجميل أيضا، وهى تملك وهو الأهم، قدرة خاصة على إعداد خلطة من الأكل له مذاق متميز ونكهة تجعل الآخرين يقبلون عليه، وهى تقوم ببيع هذه الأكلات وتصرف على بيتها الصغير، بدون الحاجة الى الرجل ماديا.
فعليا يتم التخلص من كل الرجال (بالطلاق)، فمهمة الرجل انتهت تقريبا بعد عملية الإنجاب التى تحتاجها فوزية وكذلك باقى النساء.
من ناحية أخرى وكما تطلب فوزية الطلاق تبادر بطلب الزواج، وهى تعرض على كل أزواجها السابقين أمر الزواج، وهنا يقوم السيناريو بتصحيح المعادلة المعروفة بإرجاع طبيعة الأشياء الى مجتمع الأم وليس مجتمع الرجل، فالمرأة تعرض الزواج وتطلب الطلاق هناك شخصية أخرى فى الفيلم قريبة من فوزية وهى نوسة، لكن حظها مع الرجال قليل، إنها تسعى الى طلبهم كما تفعل فوزية، وبسبب عدم أهمية الرجل عمليا يمكن أن يصبح عامل مشترك بين النساء. إنه أقرب الى ذكر النحل وباقى الحشرات والحيوانات، رغم أن الإطار يقدم أحيانا على أنه بحث عن الحنان والعاطفة وهو أمر لا غبار عليه وصحيح، وهذه هى نقطة الضعف التى يتسلل منها الرجل فى الغالب. غير أن الجانب الجنسي يبدو متداخلا ولا يمكن فصله.
إن فوزية لديها أربعة أزواج سابقين، وهم يترددون عليها، كأصدقاء، ربما أسبوعيا تجمعهم الأكلة الشهيرة التى تعدها وتتفتت فيها ويجمعهم التقارب الاجتماعى أيضا، وقد اختار الفيلم مشهد للدلالة على ذلك، ونقصد بذلك المشهد الذى يجمع الناس فى إفطار رمضاني (موائد الرحمن). كما أن الفيلم يركز على الحشد فى معظمهم لقطاته ويعطى مساحة للقطات العامة، كما فى المقدمة التى استعرضت المنازل المتواضعة والتى لم نرها بعد ذلك.
هؤلاء الأزواج يتعاملون مع الزوجة السابقة وكأنها زوجة مستمرة وتقبل فوزية بكل ذلك وتجبر زوجها الجديد (حودة) على القبول بالأمر الواقع وكائنى بفوزية تسترد حق النساء فى الزواج الجماعى، رغم إنها قانونيا واجتماعيا ليست كذلك.
الأزواج كما قلنا ضعفاء ماديا، احدهم يترك ابنه الكسيح ويهمله ويجرى وراء الخمر والآخر لا نراه يبالى بابنته فى أي مشهد، بل نجد الفتاة الصغيرة هى التى تدافع عن أبيها: أما الثالث فيعمل فى مهنة إطفاء الحرائق والمعنى هنا له علاقة بالحرفة الصعبة التى يمارسها الرجل بالضرورة، وله دلالة جنسية أيضا لأنه يقوم بإطفاء حرائق جسدية يبرز هاجسها بين الحين والآخر.
ان الحمام الخاص الذى تحلم به فوزية يتم هدمه بواسطة السلطة الرسمية، ولقد أعيد بناء الحمام بواسطة الأزواج جميعا، الأزواج السابقين، والزوج الجديد الفعلى، وهنا تبدو العلاقة واضحة بين الجسد والماء والغطاء الخارجي الذى يمنع الآخرين من التلصص. إن الأزواج يحرصون على بناء الحمام الخاص، لأن الحمام فى الحقيقة لمصلحتهم أولا وأخيرا، وخصوصا الزوج الأخير الذى لا يريد أن تكشف زوجته عن جسدها للآخرين.
فى أكثر من مشهد يظهر الهاجس الجنسي واضحا. لكن الأحداث تخفف منه اجتماعيا، وفى مشهد يعبر عن صورة أنثوية واضحة، تطلب نوسة من فوزية أن تتشارك معها فى زوجها بالزواج منه وهنا يستمر الطلب من قبل المرأة، فهى دائما التى تعرض الزواج وتبادر به وحتى فى هذا الجانب نجد الرجل سلبيا لأنه لا يتقدم الى الزواج دائما يقبل به على أى حال. إن الأنثى هى المحركة للأحداث.
والحقيقة أن طلب نوسة ومحاولتها جذب حودة إليها كان ينبغي أن يتم مع حودة نفسه لأنه هو المعنى بالأمر، أمر العلاقة الجنسية أو الزواج، ولكن نجد نوسة هنا توجه الطلب الى فوزية لأنها القائم بأمر البيت والمسؤولية على شؤونه، فهى رب الاسرة وكأننا فى مجتمع أممومى افتراضى.
هناك شخصيات نسائية أخرى مكملة، مثل (وداد) التى تستعد لشراء قبر خاص بها وتذهب الى زيارته على سبيل التجربة، والمرأة هنا راقصة سابقة، تعود بذكرياتها الى الرقص (قامت بدورها نجو فؤاد) وهى مريضة بالسرطان وتنتظر الموت فى أى لحظة، وقد ماتت بطريقة هادئة تتناسب مع طبيعة شخصيتها الحالمة والمتطلعة الى الحياة حتى آخر لحظة، فى إشارة الى علاقتها البسيطة مع البقال.
اما حودة النموذج التى تعر الى الموت (رجل) فهو شبه مغامر وحالم ويرتبط بالسينما (الأبيض والأسود) وهو سباك إلا انه يستخدم الدراجة النارية وله مغامرات كثيرة، ولذلك تتطلع إليه وتحلم به فوزية بعد موته كثيرا. وبالنسبة للفتاة نوسة تراه فارسا لأحلامها، وربما كان بالنسبة إليها مجرد رجل تحتاج إليه، وبالفعل تم إعلان زواج كل من سيد ونوسة. ولكن الموت – الحاضر بقوة فى هذا الفيلم – يسرق من البسطاء السعادة بشكل فجائى.
يقدم الفيلم مشهد موت سيد بطريقة جيدة، ففى ليلة عرسه، نراه يتطلع من أعلى على الجمهور – جمهور الفرح – وكأنه زعيم سياسي، بل يلوح لهذا الجمهور، وتستمر الكاميرا فى استعراضه من تحت للإيحاء بهذه الزعامة فى وهم مبدئي فقط، لأن هذا التصعيد الى أعلى يقابله موت وسقوط الى أسفل، فقد إصابته رصاصة طائشة من أطلاقات السلاح المستخدم فى الفرح، وتلقى الجميع كل ذلك بالعمل الجماعى، فى عملية دفن بلا جنازة بسبب ضعف الحالة الاقتصادية.
من الشخصيات الهامشية أخت (حودة) والتى تعمل بمستشفى الأمراض العقلية، غير أنها أقرب الى النزيلة بسبب حادثة حرق قديمة لبيت الأسرة – قامت بالدور هالة صدقى – وهى تدعم الحضور النسائي الطاغي والنكهة الأنثوية للفيلم.
هناك أيضا شخصية الأم (عايدة عبد العزيز) وهى متضررة من الرجل، فقد قام أحدهم بالتغرير بها وسرقت كل ممتلكاتها والفيلم هنا لا يشير الى علاقة بين الأم وذلك اللص. لكنه يدعم هذا الاتجاه، ويدعم أيضا اتجاه آخر وهو سطو الرجل على عرق المرأة والاستفادة منها، لكننا لا نريد أن تمضى فى هذا التفسير، لأن الأم يقدمها الفيلم وكأنها بخيلة وحافز لفوزية للعمل المستقل.
الموت والحياة صورتان لعملة واحدة ولذلك كانت النهاية بموت الطفل الكسيح بسبب الكرسي المتحرك الذى تحصل عليه متأخرا وانهيار عالم فوزية ومن معها. إلا أن هذا العالم سرعان ما يعود مجددا ويختار الفيلم بالتعبير عن هذه الحياة بالضحكات الجماعية الكثيرة وإنهاء بعض المشاهد بطريقة كوميدية. كما يستخدم شريط الصوت بطريقة جيدة، فيما يتعلق بالاغانى المختارة لام كلثوم وعبد الحليم وغيره، ولعل زواج نوسة فى آخر الفيلم إشارة الى استمرارية الحياة وفق احتياجات المرأة، ومع أن النهائيات كثيرة، إلا أن النهاية المفقودة فعليا تتمثل فى طلب فوزية للطلاق من حودة وطلب الزواج من شخص آخر ومن جديد!
سيناريو ناجح للكاتبة هناء عطية، رغم الاتجاه النسوى الطاغى على الاحداث.
ربما تعنى خلطة فوزية ما هو أكثر من الأكلة الشهية، ذلك أنها خلطة الحياة التى تعيش بها. بقسوة وببساطة وبطريقة يصعب تصورها، خلطة تجعل من هؤلاء البسطاء عناصر تدور فى عجلة الحياة بكل عوامل الشر والخير الكامنة فيهم، ولعل ما يحسب للفيلم أنه يطرح النماذج بدون تلوين ويتركها صفحة بيضاء حتى النهاية بدون أحكام نهائية ومسبقة.
بعد عدة تجارب سينمائية يسير المخرج مجدى محمد على نفس الاختيارات، وبحسب طبيعة كل عمل، من يا دنيا يا غرامى الى البطل، الى أسرار البنات الى هذا الفيلم، ومما لا شك فيه انه أتاح لبعض الممثلين فرصة الحضور الجيد ولاسيما بالنسبة للممثلة الهام شاهين وغادة عبد الرازق ونجوى فؤاد وكذلك فتحة عبد الوهاب رغم صغر سنه مقارنة بالزوجة فوزية، وإذا كان هناك بعض التصنع فى شخصية سيد (قام بها عزت أبو عوف) الا أن باقى معظم الشخصيات ظهرت طبيعية للغاية.. رغم أن بعضها غير محركة للأحداث، ومن الصعب ضبط خارطة لكل الشخصيات لأن الفيلم يقوم على تعدد النماذج وتنوعها ومشاركتها جميعا فى رسم مجتمع صغير يتحرك على الهامش.
من المشاهد الدالة فى الفيلم وقوف فوزية أمام شجرة شبه جرداء والشكوى من الحياة التى سرقت منها ابنها المقعد فى حادث سيارة بعد لحظات من السكر عاشها الصبيان أثناء الانشغال الجميع فى فرح الفتاة نوسة، وهذا المشهد وربما غيره من المشاهد يخلع عن المرأة فكرة الخنوع والاستسلام ويدفع بها نحو التعلق أكثر بالحياة من خلال حضور الأبناء ومواجهة الموت والوقوف على عتبات الرغبة، ليس هناك استجداء وضعف بقدر ما يتوفر الاندفاع للعيش فى حياة متكاملة، يشكل الرجل عناصرها غير المتكاملة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق