الرحلة فى فيلم (افاتار)
تداخل وتشابك بين الحضارات والثقافات
من أعتبر أن فيلم (افاتار) نقطة حاسمة فى تاريخ السينما، ربما كان محقا فى تقديره ذلك أن الفيلم يمثل علامة فارقة ونقلة نوعية على مستوى التعامل مع السينما.
ليس من حيث استخدام الأبعاد الثلاثية فحسب، وليس على مستوى تصنيع الشخصيات الافتراضية التى تعتمد على التمثيل الحقيقى، لكنها تتجاوز ذلك الى مراحل أخرى، تكاد تختفى فيها شخصية الممثل كما نعرفه فى السابق وتحل بدله صورة أخرى.ليس هذا فحسب، لأن الخلفية المكانية المستخدمة كانت جديدة من نوعها، حتى يقال بأن كل لقطة احتاجت الى 47 دقيقة من العمل، ولعل المشاهد التى تصور الحياة على سطح كوكب باندورا توضع ذلك، من حيث استخدام الطبيعة والحشرات والحيوانات والأدوات، ولم يركز الفيلم على وظيفة المساكن التى يسكنها أهل باندورا، لكنه استخدم الغابة والأشجار بديلا. فى اقتراب من الطبيعة وبعيدا عن التعقيد.
أيضا هناك الطيور الكبيرة، مثل الطائرات، التى استخدمت فى الانتقال والحرب، وهى أقرب الى طائر الرخ الاسطورى أو البراق كما هو حاضر فى الميثولوجيا الدينية.
1 ) لاعتبارات كثيرة، لابد من وضع هذا الفيلم فى سياقه بصرف النظر عن ميزانيته الكبيرة وكذلك عوائده المالية الأكبر فى تاريخ السينما.
ولكن، ومثل الكثير من الأفلام يتداخل افاتار فى موضوعه فى أفلام أخرى، ويعيد صياغة بعض التصورات التى سبق للجمهور متابعتها، فهو فيلم ليس بالجديد فى موضوعه كليا، وهو يبسير على نسق الأفلام التى جاءت بعد 11 – 9 من حيث طرحها لفكرة التعامل مع الثقافات الأخرى، وهو أمر لوحظ بوضوح فى أفلام مثل: الاصطدام – الزائر – غران تورنيو وغير ذلك من الأفلام.
أيضا ومن جانب آخر يقترب الفيلم من البحث فى الحضارات القديمة، وهو اتجاه تولد أيضا بحكم العلاقة المتفاعلة بين الانتربولوجيا والسينما، كما فى فيلم أبوكاليبتو لميل جيبسون والعالم الجديد ليترانس ماليك. لكن افاتار لا يتوجه نحو ماضى الحضارات، إنه يسير نحو المستقبل 2250، وفى الحقيقة نجده يستفيد من الماضى البعيد ليصور المستقبل، فعندما نتابع أمامنا مجتمع كوكب باندورا المتخيل فكأننا نعيد صياغة حضارة المجتمعات البدائية، مجتمع الإنكا مثلا فى امريكا القديمة وربما أحيانا مجتمعات بدائية افريقية أخرى.
إن زمن الفيلم مستقبلي، ربما لأن التقنية العلمية ستتطور أكثر فى المستقبل، بحيث يمكن للطائرات المتطورة أن تصل الى الأقمار البعيدة وهى فى شكل مركبات حربية متطورة. كما أن استخدام فكرة الاستنساخ واستخدام جسد آخر مختلف لشخص معين، من الأفكار الافتراضية. وهى فكرة أساسية يقوم عليها بناء القصة.
اما المحرك الرئيسي للأحداث، فهو ذلك المعدن الثمين (الافتراضي) ويدعى معدن "اووتانيوك". إنه الحافز لدى بعض سكان الأرض للغزو والقتال، ولا يوضح الفيلم أهمية هذا المعدن. لكنه يستقر فى أرض باندورا التى تبعد عدة سنوات ضوئية عن كوكب الرض.
2 ) فى البداية يقدم الفيلم أطروحته الأولى، ونقصد بذلك التمهيد للرحلة، وتوضيح بعض الشخصيات المتواجدة على المركبة الفضائية، والأهم بالطبع شخصية (جاك سالى) وهو مجرد شخصية بديلة. لأخيه الذى مات منذ أشهر، وبحكم تدربه لفترة معينة فى المجال العسكرى، فقد قدم نفسه بديلا لأخيه، وبالتالى نجده يلقى اعتراضا من الجميع، ولاسيما وأنه مشلول أو عاجز وهو يستخدم الكرسى المتحرك فى التنقل.
لكن سرعان ما يتجدد الاقتناع به، عن طريق (غراس) المسؤولة المباشرة عن التحول فى الجسد، حيث يتم استخدام آلة خاصة مزودة بأجهزة متصلة بالدماغ.
هناك ايضا صديق له يدعى (نورم) وهناك ترودى المساعدة.
فى جانب آخر هناك مدير البرنامج باركر والقائد العسكرى للرحلة كونونيل كوانتش من الصعب الوصول الى رأى محدد حول اختيار شخص عاجز ليقوم بمهمة كبيرة، تتمثل فى أن يصبح أحد أفراد قبيلة (النافي) انه افاتار جديد يحاول أن يندمج مع مجتمع النافى، حيث سيكون شكله قريبا منهم، وبالتالى يمكن الوثوق به وفى مرحلة معينة يمكنه أن يشرح لهم الرسالة التى يحملها معه، وبسبب اندماجه فى مجتمعهم، يمكن الوثوق بكلامه والذى يخدم فكرة الحصول على المعدن الثمين.
إن الشخصية العاجزة تتكرر كثيرا فى السينما الأمريكية، وهو عجز الأشكال، لأنه يقترب أحيانا من الفشل الظاهرى فى الحياة.
أكثر كمن بطل فى السينما الأمريكية يكون عاجزا أحيانا أو به إعاقة، لكنه يصبح أحد الأبطال بالدوافع الداخلية والمعنوية وفى الفيلم الشهير (فورست غامب) شىء من ذلك، كذلك فى أفلام أخرى مثل "مولود فى الرابع من شهر يوليو" والأهم ان الشخصيات تبدو فى البداية عاجزة وغير مبالية، لكنها تصير أبطالا وتنجح فى المهام الموكولة لها فى غير توقع.
3 ) إن إظهار التناقض حالة من حالات البطولة فى السينما الأمريكية، وحتى المدعو سوبر مان نجد له وجه مختلفا، لأنه مجرد شخصية بسيطة ومرتبكة ويلبس نظارة ويتحاشى الدخول فى أي مشكلة ويعيش بعيدا عن المصاعب، لكنه يتحول الى سوبر ما نفى لحظة معينة. انه انتقال من مرحلة اللابطولة الى البطولة غير المتوقعة لا أدرى الى مدى نجح الفيلم فى ذلك، وفى اختيار شخصية الأخ البديل، إننا فى مشاهد اضافية أخرى نراه يجرى الافاتار الجديد (جاك سالى) فى الفضاء الخارجى تعبيرا عن الفرحة بعودة قوة الساقين، والشروع فى المهمة الجديدة. إنها حالة انتقال من الى وباعتبار الحكاية التى يعتمد عليها الفيلم بسيطة، فهى تقوم على بنية رئيسية ثنائية وهى بنية التقابل بين الحير والشر، فهناك خط فاصل بين الجانبين: الجانب الأول يمثل الخير وهى قبيلة النافى التى تعيش فى انسجام وتكافل مع ما حولها، ثم الجانب الثانى وهو الشر وتمثله القوة العسكرية بقيادة الكولونيل كوانتش ومن معه، وهو جانب يمثل أيضا سكان الأرض الفعليين فى مواجهة عالم افتراضى آخر.
عندما يصل جاك الى سطح القمر باندورا يدخل فى صراع مع عدد من الحيوانات الغريبة والتى تبدو متطورة آليا فى التصنيع لتجمع بين الذئاب والكلاب، ثم يدخل فى صراع آخر مع حيوانات كبيرة. إنه يستقبل بالمواجهة لأنه لا يعرف كيف يتعامل مع هذه الكائنات، وقد نقل معه فكرة الصراع مع الحيوانات وقتلها من سكان الأرض.
والواقع أن أهل باندورا لا يدخلون فى معارك مع هذه الكائنات، لأن لهم أساليبهم المختلفة فى العيش، بل إن فكرة الصراع أو المواجهة مختفية عندهم إلا عند الضرورة، وبالتالى فإنهم يستخدمون القوس والسهم المسموم للصيد ثم للدفاع عن النفس فى مرحلة لاحقة.
4 ) إن الشر واضح، والخير أكثر وضوحا فى هذا الفيلم. بل الشر هنا مطلق وكذلك الخير، ولكن من المهم الدفع ببعض الأفراد الى الجهة المضادة لتعديل الكفة، كفة الصراع فى النهاية يصل جاك الى قبيلة النافى، عن طريق الفتاة (نيترى) التى يتعرف عليها، بل تنقذه بواسطة قوسها والسهم. كل ذلك والطائرة العمودية التى قامت بإلقائه فى الغابة تبحث عنه، لكنها لا نجده، وخصوصا بعد أن رمى بنفسه فى أحد مساقط المياه العالية هروبا من الوحش، إنه استقبال سلبي يتحول الى ايجابي تنمو علاقة الحب الجديدة وتبدو طبيعية ويتم التعارف بين جاك والقبيلة التى تعرف انه من سكن الأرض وأنه قادم للتعلم والمعرفة، وبالتالى يصبح جاك أحد أفراد القبيلة بمباركة الأب والأم ويتدرب من الفتاة (نيتري)
هناك شجرة أجاد الفيلم فى ابتكار تصويرها، وهى شجرة الأسرار، إنها تحمل كل الأسرار والذكريات والمعارف القديمة. إنها ذاكرة القبيلة وتحتها يوجد المعدن الثمين المطلوب تبدو مهمة جاك أن يبلغ أهل باندورا بإخلاء المكان، لأن القصف سوف يوجه الى شجرة الأسرار وما حولها، لعلهم يقنعهم بذلك، ولكنه يتحول من فريق الشر الى فريق الخير، ويصبح فعليا أحد أفراد قبيلة النافى ويتبعه فى ذلك بعض الأفراد منى غراس (سيغورنى ويفر) وترودى المساعدة وصديقه نورم يوضح الفيلم بأن عملية التحول من شخصية الى أخرى مسألة مهمة، ولكن لا توجد بالفيلم مناقشات علمية حول هذا الموضوع، إذ يكتفى الفيلم باختيار آلة أقرب الى التابوت ليوضح فيها جاك، ثم بعد فترة يتحرك جسد الافاتار بهيئة مختلفة ولسنا ندرى لماذا كانت الآلة مثل التابوت الذى يكشف عن موت شخصية وبعث أخرى لتحل محلها وكأننا أمام ملخص، يعمل على إنقاذ حضارة الآلة والتدمير والشجع، والادعاء بالتفوق، إنقاذها من السقوط التام وجعلها متوازنة، تعترف بحضارة الآخرين وثقافتهم. إن حضارة النافي بإمكانها علاج العجز البدنى بل وأكثر من ذلك يصل الفيلم الى قمته بقرار جاك الانفصال عن المارينز والالتحاق بشعب النافى ليكون أحد أفراده، ولقد أجاد الفيلم تصوير عمليات الاندماج والانسجام بين الطيور الكبيرة ومن يركبها عندما جعل احتكاك الشعر فى مجاله لحظة تداخل وتقارب بين الحيوانات والبشر.
وهكذا يبدو الانتقال من ثقافة الى أخرى، محاولة رد اعتبار لمن يقف وراء الغزو العسكرى وهذه مسألة لا تظهر على الشاشة، لأن شن الحرب قضية سياسية أولا ثم عسكرية ثانيا.
5 ) يذكرنا هذا بفيلم آخر وهو الراقص مع الذئاب، مع الاختلاف وربما بأفلام أخرى قريبة من هذا المعنى، عندما يحدث التواصل بين الحضارة الحديثة والحضارة البدائية، وعندما يكون الادعاء الاستعمارى الظاهرى هو العمل على إدخال البدائيين الى الحضارة الحديثة وفى الواقع لا يكون الهدف إلا استغلال ما فى راضيهم من معادن مثل البترول وغيره، فضلا عن غلبه نزعة الاستعلاء، وهذا ما أوضحه الفيلم بشكل بسيط، ربما آثار حفيظة اليمين فى امريكا ، فتعرض افاتار الى انتقدات كثيرة لم تمنع نجاحه التجارى بحكم موضوعه وجمالياته وإعلاء جانب المتخيل فيه.
فى الواقع الفائز فى نهاية الفيلم هو جاك وهو من نفس هذه الحضارة التقنية الحديثة، حضارة الأرض، ورغم أنه كان أقرب الى العميل السري فى البداية والمطلوب منه تنفيذ عملية معينة، إلا أنه فى النهاية قد اختار طريقا مختلفا.
لم يتضح التمثيل فى هذا الفيلم، لأن الشخصيات مجرد أدوات لخدمة القصة والموضوع، ومن الطبيعى أن تكون المؤثرات البصرية هى أساس الفيلم، فلا عن التصوير ولذلك نال (افاتار) أوسكار أفضل تصوير وأوسكار أفضل مؤثرات وأوسكار أفضل إخراج فني.
أظن أن المخرج الكندى (جيمس كاميرون) قد حقق إضافة متميزة على صعيد السينما، وبالطبع هناك من رأى بأن فيلمه السابق (تيتانك) أفضل، وذلك بحكم الطابع الإنساني للفيلم وصراع الأفراد مع الأقدار والاقتراب من المأساة البشرية بعكس الفيلم الحالى "افاتار" الذى يراهن على ابداع الصورة الجميلة أولا وأخيرا.
ويبدو أن هذه المرحلة ستكون مرتبطة إنتاجيا، بأفلام معينة، تسير على نفس الشاكلة. ولكن هذا الإنتاج يخص أمريكا وحدها، لأن باقى العالم له إنتاجه المختلف والذى يتواصل مع السينما كما نعرفها ببعدها الواقعى والسياسي وهو إنتاج يستمد قوته من اقترابه م الإنسان، وهذا ما يكفل له النجاح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق