رحلة صاخبة نحو الغرب
لسنا ندرى سببا واضحا لاهتمام سينما هوليوود بفكرة تدمير الأرض والفناء، لكنها فكرة تتكرر دائما، فأكثر من فيلم حاول أن يصور الأرض بعد دمار شامل أصيبت به فقضى على أكثر السكان واختفت البناءات والمصانع وكل ما شيده الإنسان وما أنجزه، ولم يبق الا القليل من الحضارة البشرية التى يفتخر بها الإنسان عبر التقدم المادي والتقني الذى يعتقد بانه بلغ شأوا عاليا لم يصل إليه من قبل.
ليس هناك من سبب إلا المخاوف من هذه التقنية نفسها والتى يمكنها أن تخرج عن السيطرة فيحدث التدمير والانهيار.
هناك ولا شك نوازع داخلية وخيالات وأوهام، وكلها جاءت بسبب القدرة النووية الهائلة والتى تبدو وكأنها الخطر المحدق القادم فى أي لحظة.
هناك أسباب نفسية تشكل بعدا مهما فى اختيار نوعية هذه الموضوعات وبعضها يسير فى اتجاه دينى، كما فى الأفلام التى تشير الى يوم القيامة والذى تظهر بوادره الأولى مع وجود الحيوانات الفخمة التى تهدد البشر بالفناء والكرة الأرضية بالدمار كما فى (حرب الكواكب)، وقديما كان هناك فيلم بعنوان (آخر رجل فى العالم) وأشهر الأفلام لعلها (ماكس المجنون – 2) للمخرج جورج ميلر (1981) وآخر هذه الأفلام (الطريق – 2009) للمخرج جون هلكوت إن القائمة تطول، ومازال الموضوع يتسلل بين الحين والآخر وبطرق مختلفة فنحن دائما أمام كوارث كبيرة يصاب فيها سكان الأرض بما يشبه الفناء التام فتتغير الحياة ويفتقد القانون وتعود طبيعة الحية الى بدايتها الأولى الموحشة.
لا نريد أن نذهب بعيدا فى ربط هذه النوعية من الموضوعات بالطبيعة التشاؤمية للفكر الغربي، فأصحاب الفلسفة والدراسات الفكرية والأدبية يميلون الى هذا التفسير، ولعل وجود انتاجات تعبر عن ذلك قد زاد من حدة هذه الموضوعات وخصوصا بعد تجربة الحرب العالمية الأولى والثانية فى أوروبا تحديدا، ثم قصف هيروشيما بالقنبلة الذرية، ومن يومها والكرة الأرضية تقف على على حافة الخطر، كما صورت ذلك بعض أفلام السينما والتى ربما كانت مبالغة بحكم طبيعة الفنون نفسها.
الفيلم الجديد للممثل دينترل واشنطون 2010 والمخرجين الأخوين (الفرد والبرت هافس) هو من هذه النوعية المذكورة. إنه فيلم يحمل اسم (كتاب ايلى) ولا ضرورة فى البحث عن معنى للاسم، ذلك انه مجرد اسم من الأسماء، حيث لم يشاء صناع الفيلم أن يذهبوا بعيدا فى توليد الأبعاد الكامنة وراء الاختيارات الشكلية وتم الاكتفاء بالظاهر فقط.
والحقيقة أن مشكلة الفيلم الحقيقية إنما تعود الى نوعية الاختيار هذه، ففى كثير من الأحيان نشعر باعتبارنا متفرجين، بأننا أمام فيلم يطرح قضية فكرية معينة، ربما تكون دينية او لها علاقة بالدين وتأثيره على البشر وقضية الحاجة إليه وربما العودة الى جذوره الأساسية.
وفى أحيان أخرى يشعر المتفرج بانه أمام فيلم من أفلام الحركة، حيث مشاهد القتل المتكررة بأنواع مختلفة من الأسلحة، ويكفى أن بطل الفيلم (ايلى) يتمكن من قتل العشرات فى كل موقعة يدخلها، دون أن يطاله رصاص الخصوم، بل نجده يستخدم فنون القتال المختلفة من المسدس الى القوس والسهم الى السيف.
بين هذا وذاك يمضى الفيلم، مثقلا ببعض التصورات الفكرية الدينية حينا ومتحررا من كل شىء فى أحيان أخرى.
سوف نجد فى فيلم (كتاب ايلى) بعض الجوانب المشتركة فى أفلام العصابات، وربما أقترب قليلا فى بعض مشاهده من أفلام الكابوى، الشارع الرئيسي فى قلب المدينة. البار أو الملهى أو الفندق الذى يتحكم فيه شخص هو على الأرجح زعيم العصابة. المرأة الضعيفة التى تتحمل الألم من أجل ابنتها. الفتاة التى لا تجد أمامها إلا التعاون مع البطل. وقبل كل ذلك البطل الغريب الوحيد القادم الى المدينة ليستقر بها مؤقتا، ويدفع حضوره الأحداث نحو التعقيد والتشابك والصراع الى النهاية.
من جانب آخر اختار الفيلم أن يكون زمنه عام 2043 وبعد انفجارات نووية لم تترك شيئا عدا القليل من البشر والمعدات والمبانى، وصار الأكل مفقودا يتصارع عليه الجميع، ويحكى ايلى بان الأكل فى السابق كان كثيرا، يرمى فى الشارع، ولكن بعد الحرب الكبيرة صار ناقصا، حتى أنه فى أول الفيلم نرى قطة صغيرة مصابة بالهزال، تمضى نحو الجثث الملقاة على الأرض، ولكن ايلى يعالجها بسهم فيصيبها لتصبح بعد ذلك وجبة له.
أما الماء فهو يباع بالمقايضة ويبحث ايلى عنه ويبيع أدواته من أجل الحصول على القليل منه. وتقوده الفتاة (سولارا) الى مكان خاص لا يعرفه إلا العدد القليل، حيث يستقر الماء فى أحواض ومصدره عيون مائية ردمت تحت الأنقاض.
جاء الفيلم مائلا الى اللون البني، وكأن المشاهد محترقة بأشعة الشمس، ولقد جاء فى الفيلم على لسان ايلى بأن فجوة فى السماء فتحت، وتسللت منها بعد الحرب النووية أشعة الشمس الحارقة، فلجأ الناس الى الاختباء لمدة طويلة، حتى انحسرت حرارة الشمس وما هذا اللون السائد فى الفيلم إلا دلالة على شىء من هذه الحرارة اللافحة. أعتمد الفيلم على الخلفيات الغريبة بحكم طبيعة الخراب المسيطر على المكان، فالمبانى مهدمة ونرى انفاضها فى أكثر الأحيان وبعض الأماكن الخاصة تستخدم مأوى للمتشريدن بعد تدميرها مثل المحطات النووية والمنازل مهجورة من سكانها، ومن الطبيعى أن نرى الملابس غريبة أيضا، بعيدة عن النظافة والأناقة، فكل الشخصيات لا تغير ملابسها طوال الفيلم عدا القليل.
لقد أضفى الطابع الغرائيبي فى التصوير على الفيلم أجواء خانقة، واستخدمت المشاهد البطيئة أحيانا لزيادة جرعة الغموض والدهشة وليس للمبررات درامية واضحة.
سنرى فى الفيلم عالما يمكن أن نسميه عالم ما بعد الاحتراق، ولقد نجح الفيلم فى ذلك فهل نجح أيضا فى اختيار موضوعه وشخصياته؟
أبلى رجل فى منتصف العمر أو يزيد (يقوم بدوره دينزل واشنطون) عاش طوال (30) سنة وهو يسير على قدميه باحثا على جهة الغرب. لا ندرى ما هو هذا الغرب؟
وهل هو يسير نحوه فعليا؟ لكنه يقول بانه ينوى الوصول الى الغرب ويصله فعلا، وعلى مشارفه يستقر بمدينة صغيرة، تسيطر عليها عصابة لها زعيم يعى "كارينغي" وهو يمثل الشرير التقليدى فى الأفلام، فهو يخضع الأم كلوديا الى سيطرته، ويستخدم الابنة (سولارا) والتى تعيش معه لخدمة الزبائن فى الفندق والملهى، وبالطبع ومثل العادة يعجب زعيم العصابة بمهارات ايلى القتالية فقد قتل العديد من الرجال فى معركة واحدة ويرسل إليه الفتاة سولارا للحصول منه على معلومات معينة حول كتاب يتم البحث عنه.
هكذا تتكون المعادلة التقليدية، أحد الأفراد يحمل معه كتابا مهما وفى المقابل هناك طرف معارض يسعى للحصول على الكتاب.
سوف نكتشف بأن الكتاب هو الإنجيل، وان الدمار الذى حدث بسبب الحرب الكبيرة قد أضاع نسخ الإنجيل، وبالتالى صار الحصول على الكتاب المقدس أمرا صعبا.
إن أكثر الأفراد من الجيل الذى عاش زمن ما قبل الحرب المدمرة وزمن ما بعد هذه الحرب، يعلمون الكثير عن الانجيل ولكن هناك جيل أصغر سنا لا يكاد يعرف شيئا عنه، ويكشف الفيلم على أن (سولارا) قد استغربت من ايلى عندما أرسلت إليه لتبقى معه ليلا وتحاول كشف أسراره ذلك التصرف غير المعتاد، كما فى قراءة آيات الشكر على الطعام وترديد مصطلح آمين فى النهاية وهى المكملة التى أكملها كارينغي عندما نست أن تذكرها.
إن ايلى يحمل رسالة، ويقول بأن هناك رؤى وأصوات داخلية طلبت منه أن يصل بالانجيل الى الكاتراز وهو المكان المخصص لتجميع كل بقايا الحضارة التى تم تدميرها فى محاولة لإعادة إحياء القديم من جديد، ولاسيما اللوحات والتماثيل والكتب المهمة وعلى رأس ذلك كتاب الانجيل المفقود فهل الدين سببا أن دوار للحرب!
وبالفعل يصل ايلى بعد رحلة طويلة الى المكان الذى يريد، بمساعدة من سولارا، وبعد أن تم قتل معظم الأشرار الذين وقفوا أمام رحلته المقدسة ويتم تسليم نسخة من انجيل الملك جيمس الى لومرادو على شاطىء المحيط "يقوم بدوره (مالكولم ماكدويل). غير أن التسليم ليس ماديا. لأن النسخة الأصلية استطاع كارينغى زعيم العصابة أن يستولى عليها بعد تهديد للفتاة وسولارا وتدمير كل شىء فى منزل العجوزين (جورج ومارتا) وهما من أكلى لحوم البشر، تعبيرا عن الحالة السيئة التى وصلت إليها الأوضاع على الأرض على الأرض الجرداء.
يحصل كارينغى على نسخة الكتاب المقدس بعد أن يفقد جماعته ويصاب فى ساقية والهدف أن يتمكن بواسطة الانجيل من السيطرة على المدينة، كما يقول، فى إشارة الى استخدام الدين من إخضاع الناس والسيطرة عليهم فالانجيل مصدر قوة مادية بالنسبة أليه.
لكن النسخة التى تحصل عليها كانت مكتوبة بلغة برايل للعميان، ولا تستطيع كلوديا العمياء أن تتعرف عليها أو لا تريد ذلك، حيث يضيع الهدف المادى بانهيار عالم كارينغى بكل ما فيه من شرور ومفاسد.
فى الجهة الأخرى نرى فى المشاهد الأخيرة (ايلى) وقد تحول الى منقذ، واقرب الى الشخص الذاهب فى رحلة حج الى المكان المقدس، فقد لبس ملابس بيضاء وحلق شعره وانطلق يقرأ من الذاكرة الانجيل من أول كلمة الى آخر كلمة ويتولى من يستمع إليه التسجيل حرف بحرف.
ربما كان الفيلم من أفلام الطريق، وربما كان من الأفلام ذات الصبغة الدينية، وهى السلسلة التى بدأت فى العقود الأخيرة بفيلم الأم المسيح 2004 وفيلم تعويدة اميلى روز 2005، ولكن هذه القصة لم تكن إلا مدخلا لفيلم من أفلام الحركة والمغامرة ولم يتم ترسيخ الفكرة الدينية وظلت مجرد شكلا ظاهريا فقط.
سوف يجد الجمهور هذا الفيلم صعبا الى حد معين، فالأحداث لا يصرح بها بوضوح، وعلى سبيل المثال لا يظهر الفيلم أن ايلى كان رجلا أعمى، يسير بقوة باقى حواسه ويقرأ الانجيل بطريقة برايل ولا نكاد نجد الا مشهدا واحدا دالا وهو يتضح عندما يسمع ايلى صوت الطائر من خلال الأرض ويصيبه بسهم اعتمادا على الصوت وليس الرؤية. كما انه يحمل معه جهاز (أي بود) للاستماع طوال الوقت.
يبدو الممثل (دينزل واشنطون) مقنعا الى حد ما فى دور يعتمد على الكلام القليل والتعبيرات الدفينة، مع الإشارة الى أندور مختلف ومتميز فى حد ذاته، وأن باقى الممثلين قد ظلوا مجرد هوامش سكنت فى الظل لتظهر دورا واحدا لامعا فى فيلم قاتم وشاحب وحائر نحو أي وجهه يمكن أن يسير بعد 30 عاما من الطواف الموضوع بقوة القدر وحدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق