الزمن يعود إلى الوراء في "عقارب الساعة
تنتقل الأساطير القديمة من بلد الى آخر، مثلما تنتقل الخرافات أيضا، فقد كشف كتاب "الغصن الذهبي" عن حضور الأساطير الواحدة وتكررها في أكثر من مكان في العالم، فنحن إزاء قصة أسطورية من أمريكا الجنوبية نعلم بأنها لها التفاصيل في افريقيا مثلا، كيف حدث ذلك؟ . الإجابة تقول بأن تلك الأساطير أو الحكايات ما هي إلا ديانات قديمة، حملها الإنسان معه وهو يرحل من مكان الى آخر، كاشفا أمامه كل العالم، ولذلك يقال بأن الإنسان قديما قد عرف وكشف معظم المجاهل والأماكن، فانتقلت الحضارات والقصص والديانات ولم يحدث هذا التلاقح والتشابك في القرون الأخيرة فقط، بل حدث نفس الأمر منذ الآف السنين.
إن ذلك ينطبق على أسطورة "فاوست" الشهيرة في الثقافة الانجلوساكسونية وقد استخدمها الكثير من الأدباء ولكنها ارتبطت بالأديب الالماني "جوته"، وعن طريقها عرفت العلاقة المتشابكة المتداخلة بين الخير والشر، أي بين الإنسان والشيطان، ولكن لا يسير الأمر دائما على هذا النحو، فقد يتحوّل الكائن البشري الى أسطورة الشر الأوحد، لأنه يبحث عما يميّزه عن باقي البشر ممن يعيشون حوله، وهو مستعد لبيع نفسه الى الشيطان في سيبل أن يعدو هو ويسقط غيره.
هذه العلاقة الباحثة عن التفوق والنبوغ وأحيانا النبوغ وأحيانا هي من تجليات هذه الأسطورة، والتي ربما لا تكون أوروبية كما يظن البعض، بل هي أقرب الى المنبت الشرقي، حتى ولو حاولت الثقافة الألمانية أن تصنع لها شأنا سوداويا متميزا مرتبطا بتلك التعبيرية التي قاربت التعامل مع الرواج والأشباح والأوهام وتجسدت في الدب والرواية والشعر وفي السينما على وجه التحديد.
مثل هذا الحديث جرّه عرض فيلم جديد بعنوان"عقارب الساعة" وهو فيلم من إنتاج 2010، ويعدّ أول فيلم روائى طويل من قطر، أنتج تكاملا مع الاحتفال بالدوحة عاصمة للثقافة العربية، وقد عرض بمهرجان دمشق السينمائي 2010 لأول مرة في عرض خارجي، كما أنه عُرض عرضا خاصا بمهرجان أبو ظبي لسنة 2010.
وهذا الإنتاج هو جزء من حرية في الإنتاج السينمائي تشهدها منطقة الخليج بصفة عامة، فقد ظهرت بسبب هذا النشاط المصاحب لموجة انتشار للمهرجانات السينمائية، قفزة في الإنتاج ولاسيما إنتاج الأفلام القصيرة في الإمارات وكذلك السعودية وأحيانا البحرين، مع ركود واضح فى الكويت واليمن وعمان، ولا شك أن السينما من الفنون الجديدة التي لم تعرفها المنطقة عدا العراق، ويبدو أن نشاط إنتاج الأفلام القصيرة بأنواعه المختلفة سوف يشهد تقدّما واضحا، يمتد أحيانا الى إنتاج الأفلام الخاصة بالتحريك والتي تعرف باسم "الرسوم المتحركة".
أما الأفلام الروائية الطويلة فالإنتاج سينمائيا قليل وربما نادر، وسوف تستمر هذه القاعدة لزمن ما، لأن المنطقة بشكل عام لا تستجيب بسهولة لمثل هذه النوعية من الأفلام، وخصوصا وأن الابتعاد عن التعامل مع المشكلة الإنسانية يظل هو الموضوع السائد كما في الإمارات والبحرين وأيضا قطر.
إن معظم الأفلام التي تنتج في هذه المنطقة لا تخوض في جوهر مشكلة الإنسان ولا تتطرق الى القضايا الحيوية ولاسيما الاجتماعية منها، بل تحاول الابتعاد بقدر الإمكان عن تصوير مشكلة الفرد وعلاقاته المتشابكة بكل آفاقها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وسوف نجد أن ذلك ينطبق أيضا على ما يسمى بالدراما الخليجية، وهو مصطلح تركيبي لا يقوم على فعالية حقيقية، بسبب فقر الموضوعات والنظرة الاجتماعية اللامعة والمحايدة لطبيعة الحياة المعاشة في منطقة الخليج العربي.
بكل تأكيد يمكن استثناء العراق، صاحب التجربة السينمائية المحدودة في السابق والتي بدأت تنتعش مع مرور الزمن، ولاسيما وأن الأسئلة صارت تطرح دراميا وسينمائيا من جميع الأوجه والمدخل والخلفيات.
نعود الى الفيلم القطري "عقارب الساعة"،حيث نجده أيضا مثل باقي الأفلام الخليجية "توب الشمس"،" حكاية بحرانية" لا يقترب من المشكلات الاجتماعية كما هو متوقع من أول فيلم قطري، بل يسعى الفيلم للاقتراب من الخيال، ولا يعدّ ذلك نقيصة في الفيلم، ولكن جرت العادة أن تعالج قضايا المجتمع بصفة رئيسية وأولى، قبل التعامل مع الأفلام الفانتازية.
قصة الفيلم مقدمة تتناول فكرة عقارب الساعة، ويقصد بذلك العودة الى الوراء أو إمكانية إعادة عقارب الساعة الى الخلف، حيث نجد رجلا مسنا يعمل في حقل الساعات، وهو يعود بالذاكرة بينما الخلفية التي ينتمي إليها هي المدينة المعاصرة بمبانيها وشوارعها الحديثة وسياراتها المسرعة.
وسط هذا البناء الحديث يمكن العودة الى القديم من خلال الذاكرة، وهكذا يعود سعد بذاكراته الى الماضي فيتذكر قصة والده عتيق، وسوف نجد أن عتيق هذا أسود اللون، يعمل على تربية ولد صغير ليس ابنه، بعد أن حطمت الأمواج القارب الذي يحمل الجميع، وهو يعمل في مجال إصلاح الساعات.
ومما يتذكره سعد أن عتيق هذا -لاحظ الاسم المعبّر عن التراث القديم- قد حاول أن يظهر بمظهر الشخص المتميز، لغرض خدمة ابنه بالتبنى سعد، ولهذا عقد مع الجن – ليس الشيطان – اتفاقا يقضي بتعلم أسرار فن "الضجري"، وهو فن غنائي قديم يعتمد على الآهات والتنوع في الغناء داخل جماعة الرجال، مع الضرب على الطبول بشكل متناوب، ولقد ارتبط بحياة السمر، وبلغ درجة عالية من الإتقان الساحر، حتى أن العقل البشرى قد ربطه بعالم آخر وهو عالم الدن، وكأننا هنا نتحدث عن وادى عبقر المتخيل الذي تصوره الشعراء منبعا للشعر المؤثر في الجمهور ومستقرا للقصائد الكبيرة التي لا يأتي بها لا فحول الشعراء من لهم علاقة بهذا الوادي.
ان غناء "الغجري" هو صورة من ذلك، هو غناء يأتي مع آخر الليل وربما يقترب من هبة الصباح الأولى وكأن طلعته تتقارب مع الفجر، وبالتالي يحتاج هذا الغناء الى صورة غرائيبية تبرر استيعابه، فهو ليس من بنات عبقرية الإنسان ولكنه يأتي مع الجن فقط، ولهذا تفسر الأسطورة الكيفية التي نشأ بها الفن.
يعقد عتيق تحالفا مع الجن "عدسان" بأن يعلمه غناء الغجري كأنه الوحي. ولقد أجاد الفيلم وضع الخلفية لكل الأحداث، المباني القديمة والملابس وخصوصا جودة تصوير "زوبعة البحر"، ولكنه قدّم الجن في الصورة الشعبية المتعارف عليها، واستخدم "الغرافيك" من أجل إظهار بشاعة وجه الجن، بعيون براقة لامعة وملامح غير واضحة، مع تلاعب فني بالصورة يركز على بشاعة الجن، وكانت هذه المشاهد من أضعف حلقات الفيلم لقد نقل عتيق فن الغجري الى ابنه بالتبني سعد، وصار سعد من أبرز شخصيات الحي، فهو يأتي في الوقت المناسب ليلبي رغبات الجمهور المستمع إليه وينجح في ذلك دائما.
هناك شخصيات كثيرة في الفيلم ولكنها تدور فى إطار علاقة عتيق بالجن، لأن النتيجة كانت سلبية في عمومها، بعض الإفراد يقتلون من حين الى آخر ولا يعرف الجاني، وتطال التهم عتيق، لأنه كان السبب الرئيسي في إحضار الجن الى الحي ومكوثهم فيه والتعدي على أفراده.
من جانب آخر يتعلق الابن سعد بفتاة جنية، تخرج من الشاطىء، ويحكم هذه العلاقة العاطفية تعمل الفتاة على تخليص الحي من الجن، ولاسيما وقد عرف سعد بأن أباه عتيق قد حمل على كتفه أختاما تدل على سيطرة الجن على الجسد، وتقدم الفتاة الجنية الدواء الذي يمسح هذه الأختام، فيتم بالتالي عتق الجسد وتحريره من سيطرة الجن.
هناك إطالة بسيطة ومشاهد ربما تكون زائدة، ولكن لأن المشاهد ذات أبعاد جمالية، فهي بذلك مقبولة في وضعها السينمائي، وبشكل عام يبدو أن ميزانية الفيلم كبيرة، ولهذا تمت الاستعانة بإطارات فنية من دول متقدمة سينمائية، مثل ايران وغيرها.
رغم النجاح في تصوير الكثير من المشاهد والنجاح أيضا في إدارة الممثلين، إلا أن الوقوع في دائرة الخيال وعدم الخروج منها نهائيا، قد أربك نسبيا سياق الفيلم، بسب عدم وجود نظرة خارجية واضحة، والسبب تداخل الواقع بالأسطورة، ذلك أن الجن وبنظرة منطقية غير موجود، والأحداث والوقائع ينبغي تفسيرها اجتماعيا وإبداعيا ولا تفسر بنظرة غيبية، والإبداع الفني له علاقة بالأفراد مباشرة وحركية المجتمع وعلاقته بالطبيعة ونوع الحياة نفسها، ولا نجد مبررا للوقوف مع فكرة تصدير الجن لهذا النوع من الفن الغامض والساحر، والذي لا نراه عبقريا كما أظهره الفيلم.
مرة أخرى ليس هناك مبرر العنوان الفيلم، وكذلك تبدو المقدمة خارجية وفكرة عقارب الساعة التي تتحرك للخلف لمجرد سرد الحكاية ليس لها تبرير واضح، لأن المقدمة ظلت خارجية وليس لها علاقة بجوهر الفيلم.
وفي هذا الصدد نتذكر فيلم"الحكاية الغريبة للسيد فرانكلين" حيث صارت الساعة التي ترجع للخلف مدخلا لحكاية أخرى قوامها البداية من الرجل الكبير والتدرج الى الرجل الصغير.
إن مقدمة فيلم"عقارب الساعة" ليس لها ما يبررها، كذلك أقترب الفيلم كثيرا من صناعة الخرافة وظلت المعاني البشرية فيه ضعيفة واختفت بالتالي كل الخلفيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وظل الفيلم معلقا في الهواء، حتى النهاية والتي عدنا فيها الى الرجل الهرم وهو نفسه شخصية سعد بعد ان صار عجوزا له حكاية يحكيها للجمهور.
إنها حكاية بسيطة خالية من المعاني البشرية، ولهذا السبب وحده نجدها تختلف عن التركيبة الفلسفية لرواية مثل"فاوست" وربما احتاجت الأسطورة القطرية الى كاتب يكتبها بعد أن قدّم خلفية المريحني جهدا يحسب له بانتظار الأفلام القادمة لهذا المخرج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق