لأمد قصير شعرنا بأن هناك علاقة ما بين شخصية (راندى) في فيلم (المصارع) والممثل الذي قام بالدور (ميكي رورك).
ميكي رورك ممثل يمكن لمشاهد أن ينساه ويتغاضى عن ذكره فهو لم يقدم طوال حياته السينمائية أفلاما مهمة، رغم أنه قد بدأ مبكرا عام 1999 بفيلم ستيفن سبيلبرج ( 1991 ) وهو المولود عام 1950 وصاحب عشرات الأشرطة التي يغلب عليها طابع الحركة وحتى في هدا المجال لم يكن فمثلا بارزا وهو وقد بلغ الان خريف العمرو لا نجد في مجمل حياته الفنية أفلاما لها قيمة فنية كبيرة مثلما لم يجد المصارع (راندى) في آخر أيامه من يقف معه، انه يبقى خاسرا حتئ ولو كسب نتائج معظم المباريات.
لكن ميكي روركي وبعد سنوات من العمل، يجد من يقدم إليه هذا الدور لينقذه وهو لم يكن مظلوما كما يشير بعض النقاد لكنه فعليا ليس لديه أدوار ذات قيمة تؤهله للاقتراب من الجوائز العالمية.
فى مهرجان فينيسا 2008 تحصل فيلم المصارع علئ الجائزة الذهبية، وكاد الممثل ميكي رورك أن يتحصل علئ جائزة أفضل ولكن القواعد والاجراءات الخاصة بالمهرجان لا تسمح بذلك، ليتحصل بعدها علئ جائزة القولدن جلوب للتمثيل وفي ذلك كل الكفاية.
ربما أجمل ما في فيلم (المصارع) أن المشاهد لا يتوقع أن يكون الفيلم بهذا المستوى، ربما بسبب الاسم والعنوان، وربما لأن عالم المصارعة لا يسمح بوجود أفلام، عدا تلك التي تقترب من الحركة والاثارة، رغم أن السينما قد نجحت في تقديم أفلام جيدة بخصوص لعبة الملاكمة مثل الثور الهائج وروكي بأجز ائه المختلفة ولكن المصارعة اقترنت فقط بالأعمال السطحية وباستخدام المصارعين نجوما في أفلام التشويق والاثارة.
يبدأ الفيلم بظهور بعض القصاصات من الصحف والمجلات والتي تظهر بطولات المصارع (راندى) أو (رام روبنسون) ثم بعد عشرين سنة نجد هذا المصارع وهو يستعد لمباراة جديدة. ولكن في ملعب محلي صغير، فقد تراجع اسمه ورغم ذلك مازال داخل حلبة المصارعة.
ومن خلال الصوت نسمع بعض الكحات المتوالية الدالة على مرض المصارع
كمايكشف الفيلم عن وجه داخلي يحمله هؤلاء المصارعين فهم أصدقاء وراء الكواليس وفي الواقع وهم أعداء وخصوم اشداء أمام الجمهور وعلى حلبة المصارعة، وسوف نرى راندي يعبر عن ذلك بعلاقاته الجيدة مع المصارعين الأصغر سنا منه بما فيهم خصومه
هناك تظاهر وخداع خارجي تمليه الظروف الخارجية فقط، ومن ذلك منلا استخدام راندي لسكين صغير يربطه بمعصمه، ثم يجرح جبهته لإسالة الدماء بقصد اثارة الجمهور والذي يجب أن يشاهد منظر الدم لأنه يعبر عن اقصى حالات العنف
يصور الفيلم أيضا الصعوبات التي يجدها راندي وقد بلغ خريف العمر فهو لا يتحصل إلا علئ أجر زهيد من المصارعة وقد أجبر علئ المبيت في سيارته بعد أن طرده صاحب البيت لأنه لم يدفع الايجار.
لا يسقط الفيلم كنيرا في الجانب الميلودرامي، فهو يحافظ علئ توازن مدهش بفضل القدرة علئ التحكم في سياقات الفيلم المختلفة وحصر المشاهد فى اقل نطاق ممكن
هناك وجهان لهذا المصارع الوجه الناجح (راندي) والوجه الفا شل دانزسكي وبقدر نجاحه في المصارعة يجد نفسه في الخارج رجلا محطما وفاشلا فهو قد هجر ابنته (ستيفاني) وتركها صغيرة، وهو ليس لديه إلآ بعض الأصدقاء. كما أنه يرتاد ملهى ليليا، ترقص به فتاة متوسطة العمر (كاسيدي) تقوم بدورها الممنلة (ماريزا توس) هي أيضا تستعرض جسدها للجمهور كما يفعل راندي. ورغم ذلك فهي أم لطفل صغير تربيه. وهي تحكم نفسها بمجموعة قوانين تضبط حياتها العملية فهي (راقصة تعري) لكنها تنظر إلى هذا الأمر علئ أنه مجرد عمل فقط. كما أنها تقوم بمهمة مجالسة الزبائن في الملهى الليلي، وهي بذلك تبيع الوهم والخداع للآخرين منلقا يفعل راندي، عندما يصطنع الاثارة علئ الحلبة لايهام الجمهور بالخطورة، بينما يبقى الصراع في أصله أقرب إلى الصنعة الاحترافية. إنها مباراة في ممارسة المهنة وفى التمثيل
هناك أوجه شبه بين شخصية راندي وشخصية كاسيدي، ولقد ركز السيناريو علئ ذلك فبالاضافة إلى أن كليهما يستعرض جسده ويتلاعب بالجمهور بالاثارة،هناك أيضا أوجه شبه في الحياة. لأن لكل منهما حياته الاجتماعية المفصولة تماما عن طبيعة
المهنة التي يعمل بها. فهما من الواقع (رانزسكي في مواجهة بام).
يستخدم راندي الحقنة لتسكين الأوجاع ويلجأ إلى التدريب العنيف للحفاظ علئ رشاقته لتحقيق قدر من النجاح الشكلي أمام الجمهور.
كما أنه يعمل في حمل الصناديق داخل المحلات التجارية في الصباح والحقيقة لم يهتم الفيلم كثيرا بالمشهد الخاص بذلك، وبدا وكأن عمله من النوع البسيط وخصوصا وأن الصناديق صغيرة كما ظهرت علئ الشاشة وكان يمكن أن يكون العمل أكثر صعوبة.
سوف نجد أن السيناريو يختار له عملا بسيطا أيضا عندما يجعله عاملا
في محل للوجبات السريعة بعد أن ترك المصارعة. ولكن المهم بالنسبة للفيلم هو التعامل مع الناس.
هناك استعداد لمباراة متميزة مع المصارع (دايلان) حيت للمصارعين الحق في استخدام أنواع مختلفة من الأسلحة الصغيرة، منل الدبابيس والمسامير الصغيرة والأسلاك الشائكة.
وبطريقة ذكية تنتقل مشاهد الفيلم بين أحدات المصارعة فعليا، والمشاهد الموالية والتي يتم فيها استخراج القطع المعدنية من جسد المصارع راندي بادارة من الطبيب الخاص.
تكون هذه المباراة والتي كسبها راندي هى الفاصلة، فقد تهاوى المصارع علئ الأرض بعد أن خرج الجميع. وفي الصباح وجد نفسه في المستشفئ ليكتشف بأنه قد تعرض لأزمة قلبية حادة.
في الفيلم رشاقة من نوع متميز، والمشاهد محسوبة بدقة بحيت لا يشعر المتابع بالسأم من الفيلم والكاميرا تتعامل مع الأحدات بطريقة بسيطة ومعبرة ولا تقتنص إلا ما تحتاج إليه فعليا. فمثلا هناك مشهد قصير فيه سخرية من الراقصة كاسيدي ومن عمرها فهي الأكبر سنا بين الراقصات، والمشهد يبدو خارجيا لكنه يخدم السياق. لأن السخرية
تكاد تطال راندي نفسه باعتباره يعمل خارج عمره علئ نفس الخط مع الراقصة وهو يدافع عنها وعن نفسه
المرحلة التا نية من الفيلم تبدأ عندما يهجر راندي المصارعة لأنه مهدد بالموت وربما احتاج إلى عملية جراحية في أية لحظة.
هذا الموقف جعل المصارع ينتقل من مكانه الطبيعي الذي عاش فيه معظم حياته والذي يعرفه جيدا فهو عالمه الصغير، جعله ينتقل إلى عالم أخر وهو الحياة الواقعية الطبيعية والتي يبدو
فيها فاشلا إلى أقصى حد.
لقد حاول الاقتراب من ابنته في البداية فطردته، وحاول للمرة الثانية وبمساعدة الراقصة كاسيدي، ومع تقديم بعض الهدايا المناسبة، وبالفعل نجح في تحقيق خطوة أولى، لكنه لم يستطع أن يستمر ذلك انه في الوقت الذي حدد فيه موعدا ثانيا للقاء مع ابنته عاش تجربة أخرى مع وفاقه من المصارعين، فهو لا يستطيع مغادرة هذه اللعبة فيبدأ بحضورها متسليا
ومتفرجا ثم متعاطيا لبعض المخدرات ثم في لهو مع احدى المعجبات به، يفقد موعده
مع ابنته. بسبب ذلك انقطعت الصلة تماما مع الابنة التي رأت فيه أبا فاشلا لا يمكن اصلاحه وهي بسببه ربما قررت هجر كل الرجال. لتعيش مع صديقة لها بعيدة عن ماضي طفولتها والذي لا تذكر شيئا منه فيما يظهر.
أيضا عندما حاول راندي الاقتراب من كاسيدي نجده يبتعد عنها فرغم التشابه الظاهري بينهما إلا انهما مختلفان فعليا. فهي (الراقصة) ناجحة في حياتها الظاهرية والداخلية أو تحاول أن تكون كذلك بينما هو المصارع لا يمكنه النجاح إلا علئ المسرح (مسرح حلبة المصارعة فقط).
في مشهد متميز يدعو الاب ابنته للخروج في نزهة في مكان ذكريات قديمة تم يرقصان سويا رقصة الاقتراب، ونلحظ هنا أن راندي يحاول أن يكون تلقائيا وطبيعيا، لكنه لا يستطيع. هناك قوة معينة تسحبه إلى عالم المصارعة بكل ما فيها من خطورة واستعراض وجمهور يتفاعل معه ويجعله مركز الاهتمام.
في هذا الاطار يبدو ميكي روركي ملائمأ للدور من الناحية الجسدية
حيت نجد جسده متناسقا وشعره منسدلا علئ كتفيه.
وهو يجمع بين العمر المتوسط والشعور الداخلي بامكانية الاستمرار في العمل بميدان المصارعة.
ولهذا يجد نفسه عندما هجر اللعبة، غريبا عن الأمكنة التي يزورها ويتعامل معها. فهو يعمل في محل لبيع الأكل الجاهز. ويعاني فية الأمرين لأنه لا أحد ينظر إليه أو يبالي به. هو مجرد نكرة وأحيانا محل تعليقات ساخرة.نعم لا توجد تعبيرات في الوجه واضحة، لكن حشرجة الصوت وآلنظرات الخجولة جعلت الشخصية ضعيفة، رغم أنها شكليا ليست كذلك.
اختار كاتب السيناريو (روبرت سيجال) أن تكون لحظة النهاية متميزة وفعليا تبدأ عندما وجد (راندي) أمامه احدى الزبائن في المحل وهي تطلب طلبا صعبا ولا يرضيها شيء ومع البطءوالتأني والايقاع الهادئ يتحول قرار الرجوع للمصارعة إلى حالة غضب، ترتبط بالدم الذي سبق وان شاهدناه في المصارعة فقط. إذ يهوي راندي بقبضته علئ ألة فرم اللحم ويترك الدماء تسيل .. بينما تتساقط محتويات المحل أثناء خروجه وكأن جسده الذي يحمله معه لا يمكن تدجينه.
يقرر راندي العودة إلى المصارعة ا ن الحلبة اقرب ما تكون الى النداهة التى تشدة اليها
انه معزول وحيد ليس أمامه إلا أن يسترجع صخب الجمهور وانفعالاته. إن الحياة التقليدية العادية ليست لأمثاله
لذلك نجده يستعد لمواجهة الخصم الذي انتظره طويلا.
لقد كان من المفترض أن يلتقي به فعليا، علئ أن تكون هي المباراة الختامية. ايتولا هو الخصم ومثل العادة هناك صداقة بين الخصمين، ورغم محاولة الفتاة كاسيدي الاقتراب منه مجددا والاعتذار له إلا أنه يمضي نحو غايته الأخيرة، وهو لذلك يلقي خطبه علئ الحلبة، مثلما يفعل أكثر المصارعين حاليا، وكأنها خطبة التوديع فهو قد مسك الشمعة من جهين مشتعلتين وقد آن له أن يحترف. ويصبح راندي بذلك بطلا ولا بطل في نفس الوقت.
يخرج راندي عن قواعد اللعبة ويدرك الخصم بأن ذلك يحدث بقصد فالمصارع يهدف إلى انهاء حياته والتعجيل بذلك وفي لقطة النهاية نراه يستخدم طريقته المعتادة في القفز من أعلى الحلبة لكي يقضي علئ خصمه، وفي الحقيقة هو يحطم قلبه الضعيف والذي لا يمكنه احتمال حيوية الجسد.
لا شك أن هناك اعتبارات أخرى لها علاقة بنجاح الفيلم ومن ذلك استخدام الموسيقئ واستخدام الصمت أحيانا. كما أن هناك عددا من الأ غنيات المصاحبة للأحداث. وهي أغنيات اكسبت الفيلم بعض الشاعرية وخصوصا الأغنية الأخيرة والتي جاءت في نهاية الفيلم وهي بعنوان (المصارع).
لم يقدم المخرج (دارين ارنو فسكي) في السابق إلا ثلاثة أفلام وهي النبع 2006 قداس من أجل حلم 2000 وفيلم بعنوان (بي) 1998 ولعل أشهر أفلامه هو النبع ورغم هذه التجربة الفقيرة فإن فيلم المصارع يشعرك بأن المخرج قد استمد تجربته من مخرجين سابقين أمثال سكور سينزي وستانلىر كو بيرك وتيرانس ماليك وغيرهم.
من هفوات الفيلم وهده لاعتبارات خاصة فقط، استخدامه لعبة فيديو لدلا له علئ الصراع بين الأمريكي والعراقي في البداية، ثم استخدامه لها في النهاية حيث يشير كل مصارع الى دولة معينة ويحمل علما لها
وبصرف النظر عمن ينتصر فى النهاية فان هدا التصور الشكلى المباشر قد سار خارج سيلق الفيلم باعتباره
معاناة انسانية عامة ليس لها مرجعية سياسية ولا تحدها جغرافيا ولا تقف وراءها أية ملامح تدل على اغراض سياسية مبيتة أو غير مبيتة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق