الصراع من اجل السيطرة
من ضمن الروايات الحديثة التي صدرت مؤخرا للروائى البرتغالي
"جوزيه ساراماغو" رواية لم تترجم بعد الى العربية، بعنوان "الموت في
اجازة"، وفيها يتخيل الكاتب صورة مستقبلية افتراضية تقوم على تصور معين
قوامه أن يأخذ الموت اجازة فلا يعمل لوقت معين، وبدلك البشر سوف تطول
أعمار البشر و تستمرحياتهم .
فهل هذا يعني في جميع الأحوال تقديم اضافة ايجابية للحياة أم أن المسألة
سوف تكون مصدر شر وصراع سلبي بين الناس. إنها صورة متخيلة، ربما تكون أقرب
الى الكابوس، حيث سيحتشد البشر فى مكان ضيق لا يتسع لهم، وسيكون ذلك باعثا
على الألم وليس الفرح.
سياق افتراضي: -
أن الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو" يعمل في سياق افتراضي دائما، أو على
الأقل في أغلب الأحوال. ثم يصيغ موضوعه وفق هذا السبياق الافتراضي، وفي
معظم الروايات، يعود الى الحالة الأولى التي انطلق منها، وبالتالي يحدث
التعديل المطلوب لذلك الاهتزاز الجديد ويستيقظ الانسان من كابوسه المركب
على حالة لم تشرع في انطلاقتها بعد
.
في هذا الفيلم "العمى" انتاج 2008 صورة من ذلك، فهو مقتبس عن رواية لنفس
الكاتب "جوزيه ساراماغو" صدرت عام 1995، وقد اعتبرت من أفضل روايات
الكاتب، حتى ان التعريف الرسمي به عند منحه لجائزة نوبل للأدب عام 1998 قد
وضع في الاعتبار صدور هذه الرواية، بالاضافة الى روايات أخرى مثل: الخطيئة
الأولى. عام موت ريكاردوس. كل الأسماء. انجيل يسوع. الذكريات الصغيرة –
حصار لشبونه. الطواف الحجري.
وبالطبع لم يتم اقتباس رواياته للسينما، إلا مع هذه الرواية "العمى" وذلك
لاعتبارات كثيرة، أهمها عدم موافقته الاساسية، وثانيا صعوبة نقل عالم هذا
الكاتب الى السينما، إذ تظل أعماله الأدبية جذابة بسبب لغتها الخاصة
وطريقة الصياغة والبنية السردية التي تمزج بين الوصف والحكي بطريقة
مفتوحة، تغلب عليها البساطة، رغم غرابة الموضوع احيانا.
استقرار نسبي: -
أما عن هذا الاختيار وأسبابه، فيعودان الى أن الكاتب يعيش مستقرا في
البرتغال، وهي دولة أوروبية، يمكن اعتبارها معزولة عن أوروبا، مقارنة
بغيرها من الدول، ولهذا كان هذا الاتجاه التأملي المتخيل، الذى يكشف عن
متابعه من بعيد لما يحدث في العالم المتقدم، وبقدر ما توجد خطوات دالة على
تداخل البرتغال مع التقدم العلمي باعتبارها دولة أوروبية، توجد ايضا خطوات
واضحة تكشف عن ابتعاد البرتغال عن الحضارة الأوروبية الحديثة، ومن هنا
جاءت هذه النزعة الانتقادية، وفى جميع الأحوال يمكن رد كل ذلك الى نزعة
فردية خاصة بالمؤلف دون غيره، لكن نوعية الحياة وطبيعة التعامل معها تدلنا
على خصائص عامة لا يمكن اسقاطها أو الحد منها.
خيوط أساسية:-
اذا عدنا الى الفيلم "العمى" وجدناه يلتقط الخيوط الاساسية للرواية
ولاسيمكا فى المقدمة أو المدخل، وهو طويل نسبيا، حيث تقودنا الاحداث الى
عدد من الشخصيات، يصابون بالعمى تدريجيا. كل شخصية تقودنا الى شخصية أخرى.
وهذا يعني أن مرض العمى ينتقل بالعدوى
في البداية تصاب شخصية معينة "يابانى" بالعمى وهي تقود السيارة الصغيرة فى
قلب المدينة المزدحم، ويساعده الناس من حوله، وهم فى حالة استغراب، ويتطوع
احدهم لقيادة سيارتها وايصاله الى منزله، ونفهم من الحوار بين الشخصيتين
أن الأعمى يرى الأشياء بيضاء لا تخلو من وهج، وهى الصورة التي أوضحها
الفيلم ايضا، وهذا يسير وفق القاعدة المعكوسة للعمى الحقيقي، حيث يظهر كل
شىء أسود.
بين السواد والبياض ليست هناك فروقات كبيرة، إلا إذا تصورنا أن العمى
الأبيض هو حالة مؤقتة، ليست لها خلفية عضوية ، ولكنها مجرد حالة نفسية،
وهو أمر كشف عنه الأطباء، ولاسيما الطبيب "يورك" عندما عالج المريض الأول
ثم تكرر ظهور المرض مع الأم وابنها والمرأة فى الفندق، ثم سارق السيارة
الدى ظهر في البداية. وهكذا تكثر الشخصيات، الى ان يتم اعلان حالة
الطوارىء العامة
.
مدينة متخيلة: -
إن المدينة بلا اسم، وهي مدينة عالمية، يمكن أن تكون سان فرانسيسكو او
مونتريال أو طوكيو، أو هي خليط من كل هذه المدن جميعا، ومثلما كانت الفكرة
افتراضية، كذلك هي المدينة.
إن الشخصيات ايضا بلا أسماء، وأحيانا بلا مهمة واضحة، لكنها متعددة وأغلبها
من طبقة بورجوازية، كما يدل على ذلك السكن وأحيانا نوعية الملابس، مع وجود
شخصيات أخرى شبه هامشية.
أهم شخصية هي الطبيب، والذي قام بدوره مارك رفالو، ثم زوجة الطبيب وقد قامت
بدورها الممثلة "جوليان مور".
البداية الفعلية للفيلم تظهر مع عمل الحكومة على جمع هؤلاء المصابين بالعمى
ووضعهم في ملجأ خاص أقرب الى السجن أو الحجر الصحي، في محاولة لايقاف تسرب
العدوى. وهنا تظهر شخصية الزوجة "جوليان" والتي تصر على مصاحبة زوجها الى
المركز الصحي، رغم أنها ليست عمياء ولم تنتقل إليها العدوى بعد، وازاء
اصرارها على المصاحبة، يسمح لها بذلك، وخصوصا وأنها قد أعتبرت نفسها عمياء
أو تظاهرت بذلك.
البداية الثانية للفيلم يمكن التقاطها مع وجود عدد من الاشخاص في الملجء
الصحى تقودهم الزوجة الى عنابرهم وتساعدهم ويسيرون في طابور واحد لمعرفة
الممرات وباقي التفاصيل.
جرح نازف: -
أول اشتباك حقيقي بين هؤلاء المرضى يبدأ بين الفتاة التى شاهدناها في
الفندق "فتاة الهوى" وتقوم بدورها "إليك براغا"، مع سارق السيارات وهو
نفسه كاتب السيناريو "دون مالكير" حيث يتحرش الأخير بها. ولذلك ترفعه بشدة
على قدمه ليصطدم بقطعة حديدية ويصاب بنزيف دموي ، لا تجدي معه محاولات
الطبيب وزوجته في العلاج البدائي وليصبح دون أول مريض حقيقي داخل المركز
الصحي مما يقوده الى الموت تخلصا من الألم.
تخترع "جوليان" فكرة الخيوط لتستعملها مع العميان في معرفة المسالك
والممرات ويصبح الفيلم بعد ذلك ومجرد تداخل وتشاحن بين الشخصيات في هذا
العالم الجديد الذي انتقلوا إليه
توجد فى المركز الصحي ثلاثة عنابر ولا يتم الحديث إلا على العنبر الأول
والثالث، ولاسيما أن القادمين الجدد يتوافدون يوميا مع انتشار المرض
وسريانه بين الناس، وقد اظهر التلفزيون الوحيد في المركز الصحي بأن هناك
الكثير من المآسي تقع يوميا وأن اجراءات وزارة الصحة لا تفيد كثيرا في
الحد من انتشار الفوضى بعد أن صار الناس عميانا لا يتعرف أحدهم على الآخر.
لا شك أن هناك العديد من الافلام التي تفترض حدوث أمر خطير غير متوقع كأن
يصاب الناس بالعمى أو الخرس أو يصابون بمرض سريع الانتشار، وآخر الأفلام
كان بعنوان" أبناء الرجال" حيث يصاب الرجال بالعقم ولا توجد إلا امرأة
واحدة حامل يحاولون حمايتها قدر الامكان، ويالها من مصادفة فقد شاركت في
بطولة الفيلم الممثلة جوليان مور.
كابوس بشري:-
من الأفلام العربية المعروفة "النوم في العسل" حيث يصاب البطل بالعجز
الجنسي وهو أمر مؤقت إلا أنه يسبب في مشكلات تفاقم على مستوى الافراد،
وبصرف النظر عن المعاني التي ترتبط بكل ذلك، فإن المخاوف البشرية تبعث هذه
الكوابيس، حيث يفتقد الماء مثلا، أو يقل الأكل، وفي ذلك مقاربة لما سبق أن
أشرنا إليه بشأن أخذ الموت اجازة من العمل المستمر، وهذا كله يؤدي الى
تغيير في سنن الحياة العادية المتعارف عليها.
ان البياض الذي يظهر ويعبر عن العمى، يمكن اعتباره مجرد صورة لوضعية جديدة
ينتقل إليها الانسان. إنه فى الحقيقة يعود الى بدائيته ووجشيته، لمرجد أن
يوضع فى مكان يشتد فيه الصراع ويقوى، فلا مكان لكل معطيات الحضارة
وأدواتها واخلاقياتها.
هناك عدد من الحراس حوال المركز الصحي، لا يتعاملون مع المرضى، وفي أكثر من
مرة يتم قتل من يحاول الخروج أو الاقتراب. وهذا الضغط الخارجي المتمثل في
القوة الخارجية العمياء يدفع الى توتر داخلى يزداد كل يوم.
من ذلك مثلا أن أوجه التعاون قد تكون حاضرة بشكل ايجابي، وخصوصا بالنسبة
للجناج رقم "1" ولا حديث عن الجناح رقم "2". أما الجناح رقم "3" فقد
سيطرت عليه مجموعة من الاشرار وجدت طريقها نحو القوة بحصولها على مسدس
صالح للاستعمال و صارت الزعامة لعامل في ملهى سابق، يقومك بدروه الممثل
جيل جارسيا، ويساعده أعمى حقيقي وهو "موري شاكين".
بدائية أولى: -
أن الصراع يقوم على الطعام أولا وبالسيطرة على الوجبات الممنوحة، وهو أمر
له علاقة ببدائية الانسان التي تظهر عندما تجد طريقها الى ذلك.
هناك ايضا الصراع حول الجنس، فقد طالب رجال العنبر رقم "3" باستغلال نساء
العنبر رقم "1" رغم وجود الازواج، وقد حاول الفيلم في البداية أن يجعل
تطور الاحداث يقوم على حضور الزوجين، رجل وإمرأة، ولقد استجابت النساء
للطلب، لكي يتم توفير الطعام للجميع.
أي أن هذه البدائية الأولى قد اعادت معها استغلال جسد المراة، رغم أن
الفيلم يشير الى ذلك بمعنى مختلف آخر في بداية الفيلم وذلك استجابة
لمتطلبات العصر الحديث الذي يستغل المرأة ايضا.
في الفيلم تبدو الاجواء معتمة والسواد يسيطر على أسلوب التصوير مع حشر
الأجساد في أركان ضيقة وكثرة الاماكن القذرة، وسقوط الأفراد واختلاط
الشخصيات، وكل ذلك يعني أن الحضارة التى يفاخر بها الناس يمكن أن تنهار في
أية لحظة، وان الضوابط والاجراءات والقوانين، كلها يمكن أن تسقط وتنهار
ويعود الانسان الى طبيعته البدائية المتمثلة في الصراع فتترادع انسانية
البشر لمصلحة النزعة الحيوانية في السلوك.
اشارات دالة: -
يمكن أن تكون هناك اشارات نقترب فيها من بعض الافلام، كما في فيلم "سيد
الذباب" المقتبس عن رواية ايضا للكاتب وليام غولدنغ، وكذلك رواية
"الطاعون" للكاتب البيركامو، وخصوصا عندما نجد خذخ الشخصية النسائية التي
تقود المجموعة العمياء نحو علاج مشكلاتها ولانقاذها وبدافع التعلق بالزوج
وبسب سيطرة صفة الانسانية.
بالطبع نحن لا نعلم لماذا لم تصب الزوجة "جوليان" بالعمى طيلة الفيلم، ولا
نعلم لمذاا قررت أن تكون مضحية بحياتها من أجل الجميع، فهي تبقى الصورة
النموذجية التى تطرحها معالجة الفيلم، وهى الاضافة الخارجية التى تنجم فى
قيادة المجموعة المتمثلة فى العنبر رقم "1" الى طريق الأمان عن طريق كتب
النوازع الشريرة ومعالجة المواقف الصعبة بالمزيد من التعاون الانساني.
هناك شخصيات أخرى اضافية يركز عليها الفيلم، ومن ذلك مثلا الرجل الحكيم
"وانى غلوفر" الذى يملك راديو صغير نعرف من خلاله بان الأمور فى الخارج
تسير نحو الأسوأ، وان وزارة الصحة لم تستطع معالجة الموقف العام.
هناك ايضا الزوجة اليابانية التى تنتقم لنفسها وللجميع بحرق العنبر رقم "3"
بكل ما فيه مضحية بنفسها ايضا لمصلحة الجماعة.
اعتبارات مختلفة: -
نعم أن القوانين الصارمة تفتر قليلا داخل المركز الصحي، وخصوصا من جانبها
الاخلاقى حيث نجد أن الزوجة "جوليان" قد غفرت للزوج لجوءه الى الخيانة،
لأن هناك واقعا آخرا صعبا يفرض نفسه.
ان الزوجات ايضا يقدمن أنفسهن بموافقتهن، لأن الظروف تغيرت وهى ظروف تفرض
اعتبارات جديدة لم تكن قائمة فى السابق.
هناك ايضا عملية قتل تقوم بها زوجة الطبيب "جوليان" ضد زعيم الأشرار، ولا
تقاس بمنطق الجريمة، لأن لها أحكاما أخرى غير متعارف عليها. إنه منطق
البدائية القديمة الذي يسمح بكل ذلك، ولكن بمجرد الخروج من هذا المركز
الصحي، يتغير الأمر قليلا ونعود الى شكل آخر من أشكال الحضارة، وهو خروج
ارتبط بانتشار العمى بين الجميع في المدينة.
عندما تتجطم أبواب المركز الصحي الذي هو أقرب الى السجن في حقيقة الأمر،
يجد الجميع أمفسهم في الخارج، فقد نجح كل من تعاون واظهر الروح الجماعية
وسقط من رهن نفسه للانانية الفردية، ولقد نجح الفيلم في تصوير المشاهد
الخارجية للمدينة المنهارة، بكل ما فيها من كلاب وفئران وبشر يبحثون عن
لقمة العيش الصعبة.
ان هذه المشاهد هى أجمل ما في الفيلم، حيث تطرج اسئلة الشك نفسها كثيرا جول
الموضوع وطريقة معالجته، وحول سيطرة الرمز المباشر، واقتراب الفيلم من
حالة عدم الوضوح في أغلب الاحيان، فالفيلم يكاد يبدأ عندما ينتهي.
منطق داخلى
يبدو الفيلم فاقدا لمنطقه الداخلي، ولذلك لا يتم الانسجام الكامل معه، فنحن
نشعر بالحاجة الشديدة الى النهاية منذ أول الفيلم، بسبب التكرار في تقديم
وطرح المعاني، ولولا الصورة التي انسجمت مع حسن اختيار أماكن التصوير لصار
من الصعب تتبع أحداث الفيلم.
تحاول الزوجة ايضا ان تحضر بعض الأكل من أماكن خفية لا يدركها العميان
وينبىء سقوط المطر بانفراج الازمة، وعندما يصل الجميع الى منزل الطبيب
وزوجته يجدونه كما هو، حيث يتم الانتظار ولو الى حين في المنزل بصورته
المغايرة.
في هذه الاثناء تحدث معجزة ربما تكون متوقعة. ذلك أن أول من اصابه العمى
المؤقت قد استرد النظر، وهذا يعنى أن البقية سوف تلحق به وعلى هذا الأمل
ينتهى الفيلم، مع اشارة خاصة، تشير الى امكانية أن تصاب الزوجة المخلصة
بالعمى من جديد.
بقدر صعوبة الفيلم الظاهرة يبدو المعنى شديد الوضوح وربما كان شديد
المباشرة، وهذه من عوامل ضعف الفيلم الذي نراه فقط دون الدعوة الى امكانية
التفكير فيه.
رغم وجود بعض الممثلين المهمين، إلا أن الممثلة "جوليان مور" تبدو الأهم،
فقد ظهرت بسيطة طوال الفيلم في تعبيراتها ولم تجهد نفسها بطرق تعبيرية
مصطنعة أو فيها بعض المبالغة. لقد ظلت وحدها محافظة على ايقاع الفيلم
المتبدل.
رغم الرقة المسيطرة عليها إلا أنها كانت أفضل ما في الفيلم، ولا شك أن
دورها هو اضافة لادوار أخرى قامت بها مثل: نهاية المسألة – مانغوليا –
قوانين الجاذبية – الساعات – أرض الحرية – هانيبال – قطع صغيرة – الهارب.
أما المخرج "فرناندو ميرليس" فلم يكن في أحسن حالاته وتبقى بعض افلامه
السابقة هي الأهم، كما في "مدينة الرب" 2002 وكذلك فيلم "البستاني المقيم"
2005، وبحكم جنسية المخرج البرازيلية، شعرنا بأن الفيلم أقرب الى روايات
أمريكا اللاتينية ولاسيما أن الرمز في الفيلم يمكن أن يمتد الى قضية
الدكتاتورية والعلاقات بين الدول فيما تكشف عنه تلك القوى الكونية الجديدة
بكل ما فيها من متغيرات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق