الأربعاء، 6 مايو 2009

فيلم السهل المحترق ... ازمنة وامكنة متداخلة ومتباعدة





شخصيات تحترق من الداخل

بمجرد أن نجد اسم المخرج "جاليرمو ارياجا" على ملصق هذا

الفيلم، ستكون الاحالة مباشرةالى افلام أخرى، تعامل معها باعتباره كاتبا

للسيناريو، وهي أفلام قليلة، ولكن لها نكهة خاصة،استقبلت من قبل النقاد

بحفاوة كبيرة، وعرضت في معظم المهرجانات السينمائية، وتوقفأمامها الجمهور

حائرا، يقبل عليها حينا ويهجرها في أحيانا أخرى، بحسب المستوى والنوع

ودرجة الاستعداد للقبول بالتجديد والمغايرة والتلاعب بالشكل الغني بصوره

المتعددة.

ثلاث جنازات: -

لابد لنا أن نعود الى فيلم قديم نسبيا وهو "ثلاث جنازات لملكويدوس استرادا"

2005 والذياخرجه "تومي لي جونس". لقد كتب جاليرموارياجا سيناريو هذا

الفيلم، مستندا الى خطبيناساسين، أولهما الكتابة على المنطقة الحدودية

بين امريكا والمكسيك، بحيث يتم الانتقال الىدولتين مختلفتين، رغم تشابه

البيئة الصحراوية المشتركة على الحدود.

والخط الثاني، اعتماد هذا الكاتب المكسيكي على الشخصيات المتناثرة، أو

المنفصلة عنبعضها بشكل ظاهرى، والملتحمة مع بعضها ايضا وفق طبيعة جوهر

الموضوع وطبيعةالقصة المختارة.

سنرى هذا الكاتب، ومع نجاح فيلمه الأول دوليا، على مستوى كتابة السيناريو،

يعيد هذهالتجربة في أكثر من فيلم بعد ذلك، وربما بتفوق أفضل باهر.

عدة أفلام: -

اذا استبعدنا فيلم "امبيروس بيروس" سنجد أن فيلم "21 غرام" هو الأفضل

تعبيرا عن فكرةتشظي الشخصيات واستقدام المسارات المتوازية لقصص تبدو

احداثها متباعدة لكنها تؤدي الىبعضها البعض في النهاية، وذلك من خلال

ثلاث شخصيات رئيسية وهي "بول ومايكلوميتشل"‏.

فى فيلم آخر لنفس الكاتب، نال شهرة أوسع، وهو "بابل" ،2006 نجد نفس الطريقة

وقدتكررت، ولكن بالاعتماد على توزيع وتباعد الأمكنة، من المغرب الى

المكسيك الى اليابان

.

لا يعني ذلك بالطبع أن الأفلام من هذه النوعية قد تم حصرها في انتاج هذا

الكاتب، في أكثرالافلام التي تعتمد على تعدد الشخصيات وتباعدها أو

تداخلها! لكن "جاليرموارياجا" هو منأشهر كتاب هذه النوعية فى العقدين

الأخرين بالنسبة الى السينما غير الاوروبية، وربما ايضاالسينما غير

الامريكية، حيث فرضت طبيعة الاحداث المختارة بكل ما فيها من مناخات وأمكنة

متميزة لونا جديدا من السينما الهجينة أو السينما العالمية، رغم الاعتماد

على اللغة الانجليزيةفي أكثر الأحوال وعدم اهمال اللغات المحلية ايضا.

أول التجارب: -

الفيلم الجديد الذي كتبه هذا الكاتب "جاليرمو ارياجا" جاء بعنوان "السهل

المحترق" انتاج ‏‏2009، ولم يكتف الكاتب بكتابة السيناريو، بل أخرج الفيلم

أول تجربة اخراجية له.

اعتمد فيلم "السهل المحترق" على قصة قصيرة لكاتب مكسيكي وهو "جوان رولفو

1917 – ‏‏1986" والقصة هنا ذات طابع سردي تقليدي، متطورة في احداثها، لكنها

تحولت لدى كاتبالسيناريو الذي هو نفسه المخرج الى فيلم متداخل الاحداث

ومتعدد الشخصيات والأزمنةوالأمكنة.

يبدأ الفيلم بمشاهد أولى في مدينة أورجين في امريكا، حيث نجد شخصية نسائية

تدعى سيلفيا،تعمل مديرة لمطعم، حيث يظهر عليها النجاح في عملها من خلال

طريقة قيادتها للطاقم الذييعمل معها. غير أنها اغاني من أزمة داخلية،

انعكست على سلوكها، الذي يتسم باختيار العزلةوالوقوف طويلا في حيرة أمام

النافذة العليا، وربما التفكير في الانتحار، كما عكست ذلك مشاهدالوقوف

على الحافة الخطرة للبحر

خيوط القصة:-

هذه الشخصية هي أحد خيوط القصة، والتي يتركها الفيلم، بعد أن يوضح أنها

تحاول أن تنسىشيئا ما باندفاعها نحو العلاقات الجنسية المتعددة، والأقرب

انها تحاول تعذيب ذاتها بهذاالسلوك أو تعذيب النفس أو التكفير عن خطيئة

معينة أو خطأ ما طال حياتها السابقة.

يترك الفيلم هذه الشخصية "سيلفيا" ويركز على شخصية أخرى نسائية. إنها

الزوجة "جينا" ‏التي تعيش فى أطراف بلدة مكسيكية مع زوجها وابناءها

الأربعة. تقوم بدور هذه الزوجةالممثلة "كيم باسنجر" فى دور متميز لها

ولافت للنظر.

تعاني الزوجة حالة من الحرمان العاطفي والجنسي، بسبب واضح له علاقة بالزوج

أولا، ولذلكفهي تواعد عشيقا لها يدعى "نيك" وهو ايضا زوج وله عائلة

متوسطة العدد.

عربة قديمة:-

يركز الفيلم على المناخ الحار نسبيا المرتبط بالمنطقة الحدودية الجنوبية

"الامريكية المكسيكية" ‏وعلى الفراغ ايضا، حيث تفصل المساحات الشاسعة بين

المنازل، ولذلك تم اختيار "مقطورة" ‏قديمة باعتبارها المكان المناسب للقاء

العاشقين اللذين يخدع كل منهما عائلته، مع الاحتفاظبأكبر قدر من السرية

التامة.

الأبنة الكبرى للزوجة "جينا" تدعى ماريانا، إنها قد تجاوزت سن المراهقة

ولذلك تشعر بغرابةتصرفات أمها، حيث الاتصالات الهاتفية السرية، وكذلك

الخروج في أوقات كثيرة بسيارةالعائلة، وغيابها عن البيت استمرار.

كل ذلك يقود الابنة الى الشك في وجود علاقة بين امهاورجل آخر لا تعرفه في

البدية، وعندما تقودها دراجتها الى مكان لقاء العاشقين، تكتشف مكان

‏‏"المقطورة" أو العربة المهجورة في المكان المعزول عن مركز الحركة، إلا من

حركة بعضالطيور والحيوانات التي يركز عليها الفيلم بين الحين والآخر، حيث

حضور هذه الكائنات يزدادويقوى بمصاحبة حضور الشخصيات البشرية.

سرد متداخل

يترك الفيلم هذه الشخصية ليعود الى غيرها في عملية سردية متوازية لا تؤدي

الى نتيجةواضحة من البداية الى النهاية، لأن الفيلم لا يكترث كثيرا بتطور

الاحداث ولا يهتم بماسيحدث، بقدر اهتمامه بالكيفية وطريقة المعالجة، والى

أمد قصير لا يستطيع المتفرج أنيستوعب العلاقة بين الشخصيات، ولا يستطيع

أن يضعها في اطار متداخل ومنسجم، وتبقىحالة الغرابة هي السائدة، ولعل هذا

من الايجابيات التي يمكن أن ننسبها الى طريقة الكتابةأولا، ثم الى طريقفة

اخراج الفيلم ثانيا. لقد اختار الفيلم شكلا غير تقليدي لقصة تقليدية.

قصة:-

يترك الفيلم بمجرياته بعض الحيرة، عندما يتتبع خيطا آخر، يكاد يكون مختلفا

وهو يتعلق بفتاةصغيرة تدعى "ماريا" تعيش في السهل المنبسط مع أبيها، الذي

يعمل طيارا يقوم برشالمحاصيل الزراعية.

وبشكل غير منتظر، وأمام مرأى هذه الفتاة يتعرض الأب "سانياجو" الىحادثة

تحطم لطائرته العمودية، ويصاب أثر ذلك اصابات بالغة، ليدخل الى المستشفى،

ولا يجدصديقه المكسيكي "كارلوس" أمامه الا الانتقال بالفتاة الصغيرة، الى

أمريكا بحثا عن أمها.

تتكشف احداث الفيلم قليلا وبالتدريج البطيء عندما يصل "كارلوس" الى سيلفيا.

فتظنه مثلغيره من الرجال يحاول التودد غليها، فتعرض نفسها عليه، كما تفعل

دائما، لكنه يرفضويسرد عليها قصة الفتاة الصغيرة "ماريا" والتى هي ابنتها

وقد سبق أن تركتها بعد يومين منولادتها.

لقد احضر معه الفتاة الصغيرة بعد أن صارت بلا عائل، ولا تقبل الأم بذلك،

فقدقررت منذ سنوات هجر اسرتها وابنتها وزوجها، فهي لا تستحقها حسب رأيها

و لا تريد أنتكون أما.

لتبدأ رحلة حياة ربما مختلفة قليلا بالنسبة الى سيلفيا، فهي قد قررت أن

تعود الى شخصيتهاالأولى ماريانا، بل وتزور زوجها السابق.

أمكنة وأزمنة:-

هناك صعوبة، رغم هذه التوضيحات، في طريقة السرد، فنحن ازاء شخصيات لها

أمكنة مختلفةولها أزمنة مختلفة ايضا، كما أن الانتقال الدي يعتمد عليه

المخرج حر ولا يتوقف علىالتفسير أو الشرح أو ضرورة ايصال معنى محدود.

وهكذا سنجد في بداية الفيلم مشهد جنازة لكل من الأم والأب وقد احترقا في

العربة. انهما نفسالعاشقين الذي خان كل منهما أسرته، ولكن لا نعرف من هو

الفاعل الحقيقي بالتجديد

من هنا يجري التركيز على الفتاة ماريانا، والتى تكتشف خيانة أمها مع رجل

غريب، فتستخدمالغاز الخاص بتسخين الماء وتقطع الأنبوب، وتشعل النار في

العربة من تحتها وخارجها، فيمحاولة منها لادخال الفزع فى نفسية امها لا

غير.

لكن الأم لا تخرج من العربة المحترقة وكذلك عشيقها، حيث تسيطر عليها حالة

أخرى منالارتباط الجسدى، لا تستطيع حرارة اللهب أن تخرجهما منها.

والواقع أن الفيلم لا يركز على ادانة الزوجة، لأن زوجها عاجز ولا تجد لها

ملجأ إلا العشيق. ‏كما أن هناك حالة اندفاع لا تفسر، تسيطر على الأم، فلا

تتردد فى الحفاظ على استمراريةالعلاقة غير شرعية، رغم علمها بأن ابنتها

قد ادركت الحقيقة، وهو أمر تكرر مع الابنة مارياناوالتي ارتبطت بعلاقة

عاطفية وجسدية مع سانتياجو وهو ابن عشيق الأم.

فرغم التنافر بينالعائلتين بسبب واقعة الخيانة والموت، إلا أن الأبنة

تندفع فى علاقة مع الابن، فتكرر الحوادثفي دائرة واحدة، ولا اختلاف هنا

على أن عوامل الطبيعة تقوم بدورها الحقيقى، فنحن أمامالماء والأرض

والهواء والنار، وهى عناصر تفرض حضورها لما في الطبيعة البشرية مننقائص

لا تكملها إلا دورة هذه العناصر جمعيا.

سهل منبسط


هناك الأرض وهي سهل منبسط واضج ينكشف أمام الجميع، ثم في أكثر من مشهد يتم

البحثعن الماء، من قبل العاشقين، ومن قبل رب العائلة المخدوع ايضا.

أما الهواء فهو ساكن يأتي خلفية لما سيحدث، وهو خادم النار التي هبت فأحرقت

العربة وتكررذلك ايضا في حادث تحطم الطائرة، أمام مرأى الفتاة الصغيرة

ماريا. إن لحظات الصمتالطويلة وقلة الحوار واللقطات الجانبية تفرض حضور

الطبيعة. أما القصة فتبدو مجرد علاقاتمتداخلة لشخصيات يغلب عليها اليأس،

بسبب تورطها وسقوطها في شحنات عاطفية، أكثر ممايتحمله المكان نفسه، ولهذا

كان مصير الابنة سليفيا أقرب الى مصير الأم نفسها.

رغم كل ذلك، لا يكاد يشعر المتفرج بأن هناك تعقيد وتركيب مطصنع فى السرد

المتداخل،ذلك أن اختلاف الاجيال، يسمح بهذه الحدود الفاصلة بين الشخصيات،

والتي تعيش قريبة منبعضها، ورغم ذلك فإن مشاهد المدينة ربما تكون مقبولة

أكثر، من حيث الشكل الفني.

أماالحياة الحدودية ونوع الطبيعةالمكانالتى تجرى فيه الاحداث

فعليا، فهو سهل يتصفبالبساطة وربما يتضارب قليلا من نوعية الشكل التى

أعتمده المخرج وان كان الأمر يبدووكأنه ولوج الى عالم مختلف يسيطر على

الحياة الجديدة بكل تقلباتها وفي أماكن متباينةالمستوى الاجتماعى. رغم

ذلك فالتأثير الخارجي ضعيف.

محرك الفيلم: -

ان الشخصيات تترك من الداخل ولا تسحبها الأمكنة الخارجية أو تخضعها

المتغيرات لها. ‏ولهذا كان التمثيل هو المحرك للفيلم، وخصوصا بالنسبة لدور

سيلفيا، بعد ان قتلت أمها بدونقصد.

وقدمت نفسها قربانا للجميع وليس لشخص واحد، وهو الدور الذى قامت به الممثلة

تشاليز تيرون فى نقلة جديدة، تضاف الى أدوار أخرى مهمة سابقة فى أفلام

مثل: نوفمبرالجميل 2000 – مهمة ايطالية 2002 – رأس فى السماء 2—5 – فى

وادى الله 2007،ورغم ان هذه الممثلة قد قامت ب عدة أدوار أقرب الى

المغامرة مثل: الوجش 2003 – ‏هانلوك 2007.

إلا أنها تترك فى أدوارها بطريقة يغلب عليها الجدية، وقد ساعدتها فى ذلك

قامتها الممشوقة وقدرتها على اختزال عدة تعبيرات فى وقت واحد.

جاذبية خاصة

-

دور الأم "جينا" التى قامت به كيم باسنجر وهى شقراء، يفترض انها ليست

مكسيكية، بلأمريكية. كانت حلقة اتصال فى الحدود البرية الأمريكية

المكسيكية واداة من الروابط بينالثقافتين، ورغم ان لهذه الممثلة جاذبية

خاصة، إلا ان حضور الممثلة المكسيكية "جنيفرلورنس" كان أقوى.

فقد قامت بدور الأبنة "مارينا" التى تمثل حلقة وسطى بين الاجيال، وهي

الشخصية التي هربت من المناطق الحدودية لتعيش فى امريكا ولكن بشخصية

مختلفة اخترعتهاوهي سيلفيا في محاولة للانفصال الكامل عن ماضيها.

اما عن نهاية الفيلم، فيعتمد على الفتاة الصغيرة "ماري" وفي شريط سريع

تتذكر سيلفياالاحداث السابقة، لتصل الى المحطة النهائية التي يغلب عليها

التفاؤل، فالأب يمكن أن يتمعلاجه، والأم كادت تتخلص من الآمها السابقة،

ولتضع نهاية لحالة الهروب التى تسيطر عليها،والفتاة الصغيرة تنظر الى

الامام ولا تكاد تعرف شيئا عن الماضى، الماضي الذي لا يمكنالتعامل معه

إلا بالنسيان.

ليست هناك تعليقات: