بمجرد أن نجد اسم المخرج "جاليرمو ارياجا" على ملصق هذا
الفيلم، ستكون الاحالة مباشرة الى افلام أخرى، تعامل معها باعتباره كاتبا
للسيناريو، وهي أفلام قليلة، ولكن لها نكهة خاصة، استقبلت من قبل النقاد
بحفاوة كبيرة، وعرضت في معظم المهرجانات السينمائية، وتوقف أمامها الجمهور
حائرا، يقبل عليها حينا ويهجرها في أحيانا أخرى، بحسب المستوى والنوع
ودرجة الاستعداد للقبول بالتجديد والمغايرة والتلاعب بالشكل الغني بصوره
المتعددة.
ثلاث جنازات: -
لابد لنا أن نعود الى فيلم قديم نسبيا وهو "ثلاث جنازات لملكويدوس استرادا"
2005 والذي اخرجه "تومي لي جونس". لقد كتب جاليرموارياجا سيناريو هذا
الفيلم، مستندا الى خطبين اساسين، أولهما الكتابة على المنطقة الحدودية
بين امريكا والمكسيك، بحيث يتم الانتقال الى دولتين مختلفتين، رغم تشابه
البيئة الصحراوية المشتركة على الحدود.
والخط الثاني، اعتماد هذا الكاتب المكسيكي على الشخصيات المتناثرة، أو
المنفصلة عن بعضها بشكل ظاهرى، والملتحمة مع بعضها ايضا وفق طبيعة جوهر
الموضوع وطبيعة القصة المختارة.
سنرى هذا الكاتب، ومع نجاح فيلمه الأول دوليا، على مستوى كتابة السيناريو،
يعيد هذه التجربة في أكثر من فيلم بعد ذلك، وربما بتفوق أفضل باهر.
عدة أفلام: -
اذا استبعدنا فيلم "امبيروس بيروس" سنجد أن فيلم "21 غرام" هو الأفضل
تعبيرا عن فكرة تشظي الشخصيات واستقدام المسارات المتوازية لقصص تبدو
احداثها متباعدة لكنها تؤدي الى بعضها البعض في النهاية، وذلك من خلال
ثلاث شخصيات رئيسية وهي "بول ومايكل وميتشل".
فى فيلم آخر لنفس الكاتب، نال شهرة أوسع، وهو "بابل" ،2006 نجد نفس الطريقة
وقد تكررت، ولكن بالاعتماد على توزيع وتباعد الأمكنة، من المغرب الى
المكسيك الى اليابان
لا يعني ذلك بالطبع أن الأفلام من هذه النوعية قد تم حصرها في انتاج هذا
الكاتب، في أكثر الافلام التي تعتمد على تعدد الشخصيات وتباعدها أو
تداخلها! لكن "جاليرموارياجا" هو من أشهر كتاب هذه النوعية فى العقدين
الأخرين بالنسبة الى السينما غير الاوروبية، وربما ايضا السينما غير
الامريكية، حيث فرضت طبيعة الاحداث المختارة بكل ما فيها من مناخات وأمكنة
متميزة لونا جديدا من السينما الهجينة أو السينما العالمية، رغم الاعتماد
على اللغة الانجليزية في أكثر الأحوال وعدم اهمال اللغات المحلية ايضا.
أول التجارب: -
الفيلم الجديد الذي كتبه هذا الكاتب "جاليرمو ارياجا" جاء بعنوان "السهل
المحترق" انتاج 2009، ولم يكتف الكاتب بكتابة السيناريو، بل أخرج الفيلم
أول تجربة اخراجية له.
اعتمد فيلم "السهل المحترق" على قصة قصيرة لكاتب مكسيكي وهو "جوان رولفو
1917 – 1986" والقصة هنا ذات طابع سردي تقليدي، متطورة في احداثها، لكنها
تحولت لدى كاتب السيناريو الذي هو نفسه المخرج الى فيلم متداخل الاحداث
ومتعدد الشخصيات والأزمنة والأمكنة.
يبدأ الفيلم بمشاهد أولى في مدينة أورجين في امريكا، حيث نجد شخصية نسائية
تدعى سيلفيا، تعمل مديرة لمطعم، حيث يظهر عليها النجاح في عملها من خلال
طريقة قيادتها للطاقم الذي يعمل معها. غير أنها اغاني من أزمة داخلية،
انعكست على سلوكها، الذي يتسم باختيار العزلة والوقوف طويلا في حيرة أمام
النافذة العليا، وربما التفكير في الانتحار، كما عكست ذلك مشاهد الوقوف
على الحافة الخطرة للبحر
خيوط القصة:-
هذه الشخصية هي أحد خيوط القصة، والتي يتركها الفيلم، بعد أن يوضح أنها
تحاول أن تنسى شيئا ما باندفاعها نحو العلاقات الجنسية المتعددة، والأقرب
انها تحاول تعذيب ذاتها بهذا السلوك أو تعذيب النفس أو التكفير عن خطيئة
معينة أو خطأ ما طال حياتها السابقة.
يترك الفيلم هذه الشخصية "سيلفيا" ويركز على شخصية أخرى نسائية. إنها
الزوجة "جينا" التي تعيش فى أطراف بلدة مكسيكية مع زوجها وابناءها
الأربعة. تقوم بدور هذه الزوجة الممثلة "كيم باسنجر" فى دور متميز لها
ولافت للنظر.
تعاني الزوجة حالة من الحرمان العاطفي والجنسي، بسبب واضح له علاقة بالزوج
أولا، ولذلك فهي تواعد عشيقا لها يدعى "نيك" وهو ايضا زوج وله عائلة
متوسطة العدد.
عربة قديمة:-
يركز الفيلم على المناخ الحار نسبيا المرتبط بالمنطقة الحدودية الجنوبية
"الامريكية المكسيكية" وعلى الفراغ ايضا، حيث تفصل المساحات الشاسعة بين
المنازل، ولذلك تم اختيار "مقطورة" قديمة باعتبارها المكان المناسب للقاء
العاشقين اللذين يخدع كل منهما عائلته، مع الاحتفاظ بأكبر قدر من السرية
التامة.
الأبنة الكبرى للزوجة "جينا" تدعى ماريانا، إنها قد تجاوزت سن المراهقة
ولذلك تشعر بغرابة تصرفات أمها، حيث الاتصالات الهاتفية السرية، وكذلك
الخروج في أوقات كثيرة بسيارة العائلة، وغيابها عن البيت استمرار.
كل ذلك يقود الابنة الى الشك في وجود علاقة بين امها ورجل آخر لا تعرفه في
البدية، وعندما تقودها دراجتها الى مكان لقاء العاشقين، تكتشف مكان
"المقطورة" أو العربة المهجورة في المكان المعزول عن مركز الحركة، إلا من
حركة بعض الطيور والحيوانات التي يركز عليها الفيلم بين الحين والآخر، حيث
حضور هذه الكائنات يزداد ويقوى بمصاحبة حضور الشخصيات البشرية.
سرد متداخل
يترك الفيلم هذه الشخصية ليعود الى غيرها في عملية سردية متوازية لا تؤدي
الى نتيجة واضحة من البداية الى النهاية، لأن الفيلم لا يكترث كثيرا بتطور
الاحداث ولا يهتم بما سيحدث، بقدر اهتمامه بالكيفية وطريقة المعالجة، والى
أمد قصير لا يستطيع المتفرج أن يستوعب العلاقة بين الشخصيات، ولا يستطيع
أن يضعها في اطار متداخل ومنسجم، وتبقى حالة الغرابة هي السائدة، ولعل هذا
من الايجابيات التي يمكن أن ننسبها الى طريقة الكتابة أولا، ثم الى طريقفة
اخراج الفيلم ثانيا. لقد اختار الفيلم شكلا غير تقليدي لقصة تقليدية.
قصة:-
يترك الفيلم بمجرياته بعض الحيرة، عندما يتتبع خيطا آخر، يكاد يكون مختلفا
وهو يتعلق بفتاة صغيرة تدعى "ماريا" تعيش في السهل المنبسط مع أبيها، الذي
يعمل طيارا يقوم برش المحاصيل الزراعية.
وبشكل غير منتظر، وأمام مرأى هذه الفتاة يتعرض الأب "سانياجو" الى حادثة
تحطم لطائرته العمودية، ويصاب أثر ذلك اصابات بالغة، ليدخل الى المستشفى،
ولا يجد صديقه المكسيكي "كارلوس" أمامه الا الانتقال بالفتاة الصغيرة، الى
أمريكا بحثا عن أمها.
تتكشف احداث الفيلم قليلا وبالتدريج البطيء عندما يصل "كارلوس" الى سيلفيا.
فتظنه مثل غيره من الرجال يحاول التودد غليها، فتعرض نفسها عليه، كما تفعل
دائما، لكنه يرفض ويسرد عليها قصة الفتاة الصغيرة "ماريا" والتى هي ابنتها
وقد سبق أن تركتها بعد يومين من ولادتها.
لقد احضر معه الفتاة الصغيرة بعد أن صارت بلا عائل، ولا تقبل الأم بذلك،
فقد قررت منذ سنوات هجر اسرتها وابنتها وزوجها، فهي لا تستحقها حسب رأيها
و لا تريد أن تكون أما.
لتبدأ رحلة حياة ربما مختلفة قليلا بالنسبة الى سيلفيا، فهي قد قررت أن
تعود الى شخصيتها الأولى ماريانا، بل وتزور زوجها السابق.
أمكنة وأزمنة:-
هناك صعوبة، رغم هذه التوضيحات، في طريقة السرد، فنحن ازاء شخصيات لها
أمكنة مختلفة ولها أزمنة مختلفة ايضا، كما أن الانتقال الدي يعتمد عليه
المخرج حر ولا يتوقف على التفسير أو الشرح أو ضرورة ايصال معنى محدود.
وهكذا سنجد في بداية الفيلم مشهد جنازة لكل من الأم والأب وقد احترقا في
العربة. انهما نفس العاشقين الذي خان كل منهما أسرته، ولكن لا نعرف من هو
الفاعل الحقيقي بالتجديد
من هنا يجري التركيز على الفتاة ماريانا، والتى تكتشف خيانة أمها مع رجل
غريب، فتستخدم الغاز الخاص بتسخين الماء وتقطع الأنبوب، وتشعل النار في
العربة من تحتها وخارجها، في محاولة منها لادخال الفزع فى نفسية امها لا
غير.
لكن الأم لا تخرج من العربة المحترقة وكذلك عشيقها، حيث تسيطر عليها حالة
أخرى من الارتباط الجسدى، لا تستطيع حرارة اللهب أن تخرجهما منها.
والواقع أن الفيلم لا يركز على ادانة الزوجة، لأن زوجها عاجز ولا تجد لها
ملجأ إلا العشيق. كما أن هناك حالة اندفاع لا تفسر، تسيطر على الأم، فلا
تتردد فى الحفاظ على استمرارية العلاقة غير شرعية، رغم علمها بأن ابنتها
قد ادركت الحقيقة، وهو أمر تكرر مع الابنة ماريانا والتي ارتبطت بعلاقة
عاطفية وجسدية مع سانتياجو وهو ابن عشيق الأم.
فرغم التنافر بين العائلتين بسبب واقعة الخيانة والموت، إلا أن الأبنة
تندفع فى علاقة مع الابن، فتكرر الحوادث في دائرة واحدة، ولا اختلاف هنا
على أن عوامل الطبيعة تقوم بدورها الحقيقى، فنحن أمام الماء والأرض
والهواء والنار، وهى عناصر تفرض حضورها لما في الطبيعة البشرية من نقائص
لا تكملها إلا دورة هذه العناصر جمعيا.
سهل منبسط
هناك الأرض وهي سهل منبسط واضج ينكشف أمام الجميع، ثم في أكثر من مشهد يتم
البحث عن الماء، من قبل العاشقين، ومن قبل رب العائلة المخدوع ايضا.
أما الهواء فهو ساكن يأتي خلفية لما سيحدث، وهو خادم النار التي هبت فأحرقت
العربة وتكرر ذلك ايضا في حادث تحطم الطائرة، أمام مرأى الفتاة الصغيرة
ماريا. إن لحظات الصمت الطويلة وقلة الحوار واللقطات الجانبية تفرض حضور
الطبيعة. أما القصة فتبدو مجرد علاقات متداخلة لشخصيات يغلب عليها اليأس،
بسبب تورطها وسقوطها في شحنات عاطفية، أكثر مما يتحمله المكان نفسه، ولهذا
كان مصير الابنة سليفيا أقرب الى مصير الأم نفسها.
رغم كل ذلك، لا يكاد يشعر المتفرج بأن هناك تعقيد وتركيب مطصنع فى السرد
المتداخل، ذلك أن اختلاف الاجيال، يسمح بهذه الحدود الفاصلة بين الشخصيات،
والتي تعيش قريبة من بعضها، ورغم ذلك فإن مشاهد المدينة ربما تكون مقبولة
أكثر، من حيث الشكل الفني.
أما الحياة الحدودية ونوع الطبيعة – المكان – التى تجرى فيه الاحداث
فعليا، فهو سهل يتصف بالبساطة وربما يتضارب قليلا من نوعية الشكل التى
أعتمده المخرج وان كان الأمر يبدو وكأنه ولوج الى عالم مختلف يسيطر على
الحياة الجديدة بكل تقلباتها وفي أماكن متباينة المستوى الاجتماعى. رغم
ذلك فالتأثير الخارجي ضعيف.
محرك الفيلم: -
ان الشخصيات تترك من الداخل ولا تسحبها الأمكنة الخارجية أو تخضعها
المتغيرات لها. ولهذا كان التمثيل هو المحرك للفيلم، وخصوصا بالنسبة لدور
سيلفيا، بعد ان قتلت أمها بدون قصد.
وقدمت نفسها قربانا للجميع وليس لشخص واحد، وهو الدور الذى قامت به الممثلة
تشاليز تيرون فى نقلة جديدة، تضاف الى أدوار أخرى مهمة سابقة فى أفلام
مثل: نوفمبر الجميل 2000 – مهمة ايطالية 2002 – رأس فى السماء 2—5 – فى
وادى الله 2007، ورغم ان هذه الممثلة قد قامت ب عدة أدوار أقرب الى
المغامرة مثل: الوجش 2003 – هانلوك 2007.
إلا أنها تترك فى أدوارها بطريقة يغلب عليها الجدية، وقد ساعدتها فى ذلك
قامتها الممشوقة وقدرتها على اختزال عدة تعبيرات فى وقت واحد.
جاذبية خاصة
دور الأم "جينا" التى قامت به كيم باسنجر وهى شقراء، يفترض انها ليست
مكسيكية، بل أمريكية. كانت حلقة اتصال فى الحدود البرية الأمريكية
المكسيكية واداة من الروابط بين الثقافتين، ورغم ان لهذه الممثلة جاذبية
خاصة، إلا ان حضور الممثلة المكسيكية "جنيفر لورنس" كان أقوى.
فقد قامت بدور الأبنة "مارينا" التى تمثل حلقة وسطى بين الاجيال، وهي
الشخصية التي هربت من المناطق الحدودية لتعيش فى امريكا ولكن بشخصية
مختلفة اخترعتها وهي سيلفيا في محاولة للانفصال الكامل عن ماضيها.
اما عن نهاية الفيلم، فيعتمد على الفتاة الصغيرة "ماري" وفي شريط سريع
تتذكر سيلفيا الاحداث السابقة، لتصل الى المحطة النهائية التي يغلب عليها
التفاؤل، فالأب يمكن أن يتم علاجه، والأم كادت تتخلص من الآمها السابقة،
ولتضع نهاية لحالة الهروب التى تسيطر عليها، والفتاة الصغيرة تنظر الى
الامام ولا تكاد تعرف شيئا عن الماضى، الماضي الذي لا يمكن التعامل معه
إلا بالنسيان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق