الأحد، 27 ديسمبر 2009

مرثية للسينما فى عالم صاخب






اوغاد ومجهولون.. لبعض الأطراف وليس كلهم

لا تهم كثير تلك التقسيمات التى وضعها المخرج كونتين تارنتينو فى آخر أفلامه "أوغاد مجهولون"، فلقد سبق له أن فعل ذلك، ولاسيما فى فيلمه (قصص شعبية – 1994) فهناك دائما حكايات صغيرة داخل القصة الرئيسية، وبصرف النظر عن قيمة تلك الحكايات وصلاحيتها فى أن تكون منفصلة، فهى فى جميع الأحوال حكايات متداخلة، ويمكن ازالة التسميات، المبدئية التقليدية، ليعود الفيلم الى نفس تتابعه وسرده بدون تأثير أو تأثر.
أيضا لا يهم ذلك السارد الذى برز مرتين ليفسر للجمهور بعض الجوانب من الفيلم وكان بصوت الممثل صموئيل جاكسون اذ يمكن الغاء هذا السارد دون. أن يتأثر الفيلم كثيرا.
هناك أشياء أخرى لا تهم كثيرا، منها بعض المشاهد المطولة فى حفلات الأكل مثلا، وبعضها مقترنة بالعنف وادعاءات البطولة، ومقترنة أيضا بالحوارات الملتوية التى يتفنن فى صياغتها تارانتينو، اذ نراه يصر دائما على كتابة السيناريو والحوار بالإضافة الى الإخراج.
مخرج وتفاصيل:-
لكن إذا اعتبرنا كل ذلك غير ضرورى، فماذا يتبقى من هذا المخرج وماذا يتبقى من أسلوبه؟ وماذا يتبقى من تراكيبه الساخرة التى تلون أفلامه؟
هذا هو المخرج كونتين تارنتينو، يقبل بكل الاستطرادات التى يقدمها. والنتيجة التى يمكن الأحكام إليها ترجع الى قابلية الفيلم للنجاح عند الجمهور وعلى المستوى الفنى والنقدى.
نعم أن الكثيرين لا يروق لهم هذا المخرج، بسبب اقترابه من اللعب فى أفلامه، أو فى بعض أفلامه على الأقل، وهو لعب متقن على أية حال، على الجمهور وبالممثل
فى هذا الفيلم (أوغاد مجهولون) محاولة للاقتراب من الكلاسيكية، فهوفيلم يقترب من السينما التقليدية، التى ربما نجدها فى أفلام الحرب، أو كما قال بعض النقاد أفلام الحرب الأوروبية والتى اشتهرت بها ايطاليا فى مرحلة معينة، فيما يعرف باسم (اسباغتى الحرب). مع وفرة فى استعراض العنف، بطريقة قد تبدو ساخرة ومريرة فى نفس الوقت، وكل ذلك له مرجعية سينمائية، فهذا الفيلم يشير الى أفلام أخرى ويتداخل معها، ليس على مستوى الشكل أ استخدام الموسيقى فقط، ولكن ايضا على مستوى التعامل مع الانتاج السينمائى فى مرحلة معينة سيطرت فيها السينما على الثقافة الشعبية بمفهوم السينما (دار عرض) ومفهوم الافلام الخام والتى يتم تحميضها بعد التصوير لتعرض على الجمهور بالات عرض خاصة.

مشاهد مختارة:-
لابد لنا من العودة الى المشاهد الاخيرة فى هذا الفيلم، لكى تكون منطلقا للحديث، ويمكن اعتبار ما قبل ذلك مجرد مقدمات ضرورية للوصول الى هذه المشاهد المقصودة.
تسير أحداث الفيلم (أوغاد مجهولون) نحو مشهد حرق السينما بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، السينما باعتبارها مكانا للعرض السينمائى، وكذلك السينما باعتبارها تاريخ ومخزن كبير وربما ارشيف يجمع كل افلام القابلة للعرض.
إنها افلام السيلوليد وما صور عليها من وقائع واحداث. بل إن هناك فيلم جديد يضاف الى الفيلم المعروض، وهو فيلم يحتوى على مشاهد للفتاة شوشانا وهى تعلن انتقامها بتفجير القاعة بكل ما فيها من أجهزة وأفلام، والأهم الجمهور الذى جاء لمشاهدة الفيلم الالمانى المعروض (فخر الأمة) والذى يعكس غرور وبطولة القوات الالمانية ضد الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، حيث أن الفيلم يصور بطولة ضابط المانى استطاع أن يقتل المئات فى يومين، وهو بالتالى يستحق التخليد بتصوير فيلم حول بطولاته وبحضور أهم القادة الألمان ومن بينهم وزير الدعاية غوبلز والأهم زعيم الحرب هتلر ومن القادة الأربعة الذين بوجودهم تستمر الحرب وبموتهم تنتهى
انها نظرة ساخرة لإنهاء الحرب العالمية الثانية، على طريقة تارنيتنو، ليس لها علاقة بالحقيقة أو الواقع.
مقدمات معلنة:-
لكن الأمر قد يسير نحو أبعد من ذلك، إذ نجد أنفسنا أمام مقدمات معلنة لانتهاء حقبة تاريخية مهمة طغت فيها السينما على سائر الفنون، حتى أن هناك حوار داخل الفيلم يتحول فيه الصراع بين ألمانيا وأمريكا ومن معها من الدول الأوروبية الى صراع حول السينما، حيث يرى غوبلز أن هوليوود ينبغى أن يتم تجاوزها بأفلام ألمانية منتجة، وبالتالى إنهاء سيطرة الرأسمالية اليهودية على إنتاج هوليوود وأحلام الإنتاج السينمائى الالمانى بديلا له.
يعكس المشهد ما قبل الأخير فكرة احتراق السينما، أو انتهاء السينما أو نهاية عصر السينما بمعناها التقليدي، ويمكن اعتبار كل ذلك مجرد هواجس ومخاوف من أن يكون ذلك الأمر صحيحا، أن يعتبر تراث السينما بكل أفلامه وعلبه مجرد وسيلة قابلة للاشتعال بما يحويه من نترات، وخصوصا فى أفلام ما قبل السبعينيات، وحتى فى حال انتقال المحتويات الى وسائط أخرى، فإن الركام الكبير من الأفلام، لن يكون له هدفا إلا ان يكون وسيطا للاشتعال.
هذا الأمر ينطبق على بناء السينما نفسه، فهذا الدور الكبيرة التقليدية فى طور الاختفاء التدريجي والأمر لا يقاس بالسنوات القصيرة، ولكن هناك مؤشرات كثيرة تدل على أن هذه الطريقة فى العرض السينمائى فى سبيلها الى الاختفاء لتحل محلها العروض الفردية بوسائط جديدة مختلفة.
انتقام فتاة:-
حتى إذا قلنا بأن الهدف هو الانتقام فى الفيلم بالنسبة لفتاة يهودية تدعى شوشانا، بغرض التخلص من أكبر تجمع ألمانى من الجمهور وخصوصا وانه يشمل العديد من القادة والمسؤولين، حتى إذا قلنا ذلك، فإن استخدام الأفلام باعتبارها مادة مشتعلة والعمل على تدمير بناية السينما ، فيه تفريط فى ممتلكات شخصية وثقافية أولا وأخيرا، والدلالة الرمزية لانتهاء السينما هنا هى الأكثر فعالية مهما بلغت درجة الانتقام وحدوده القصوى.
يمكننا أن نعود الى بداية هذا الفيلم (أوغاد مجهولون)، حيث جاء عنوان الجزء الأول: حدث ذات مرة فى فرنسا المحتلة لأيام النازية، ولا شك أن البداية موفقة حيث نجد الضابط النازي الملقب بصائد الرؤوس، يجرى مسحا شاملا من أجل القبض على اليهود الفارين من النازية ويصل الى بيت هادى وريفى ويقتل اليهود الذين يختبئون بمعرفة صاحب البيت. يموت الجميع الا واحدة وهى شوشاناو التى تهرب وتترك كذلك، الى حين أن تظهر باسم جديد "مانويلا، صاحبة سينما، تعرض الأفلام الفرنسية والالمانية ويساعدها فى ذلك فرنسي أسود.
ان المحرك لكل الأحداث هو فعل الانتقام الذى ستقوم به شوشانا، وهى مسألة عرضية، جاءت بالصدفة، عندما اختيرت السينما التى تملكها بديلة لسينما أخرى، تعرض فيلم فخر الأمة وبحضور عدد من زعامات النازية بدون ترتيبات كبيرة للحماية.
يسير الفيلم نحو الانتقام فى هذا الاتجاه، يقابله اتجاه آخر لا يلتقى به مطلقا، وهو عملية عسكرية يقودها ضابط جنوبى امريكى (الدو) يعرف باسم الرجل القصير، وهو ليس كذلك، ومعه ثمانية من المغامر ين الذين يتم اختيارهم للقيام بعملية حربية، وقد قدمت السينما أفلام كثيرة تقوم على هذه الفكرة وعلى رأسها (اثنى عشر رجلا قذرا) ومدافع نفارون وغير ذلك من الأفلام.
فرصة خاصة:-
الجديد الذى يقدمه تارنتينو أن هذا الضابط الذى قام بدوره "براد بيت" له صفة البلاغة فى الكلام، فهو يتحدث بلغة لها لحن خاص، وهو أشبه بالدور الذى قام به صموئيل جاكسون فى فيلم "قصص شعبية" بالإضافة الى أن هذه الزمرة العسكرية المختارة للنزول فى المناطق الفرنسية وتدمير السينما التى تعرض الفيلم الالمانى، لا تتميز بأي رادع ولو ظاهرى، فهى لا تختلف كثيرا عن النازيين، فالضابط "الدو" يقوم برسم علامة الصليب المعكوف بآلة حادة على جبهة الجنود الألمان، وباقى الزمرة من اليهود يقومون بأعمال شرسة، بما فى ذلك الدب اليهودى الى يضرب بعصاه حتى الموت كل من يصل إليه من الألمان، وحتى بعض الأفراد أحيانا، يتركونهم أحيانا لكى يقوموا بعملية إيصال الدعاية السيئة وينشرون الفزع من هول ما تعرضوا له.
إن سخرية تارنتينو تمتد الى الجانب المقابل، فنحن فى هذا الفيلم لسنا أمام مجموعة من اليهود يفرون فى كل مكان هربا وهم ابرياء فى مقابل ما تقوم به النازية ضدهم، ومع ضعف هذه الرواية التى تعلى من شأن معسكرات الاعتقال، فإن هذا الفيلم يبرز اليهود وقد قدموا من الخارج لينتقموا بصورة أشنع، وهم فوق ذلك على استعداد لتدمير دار السينما بكل ما تحمله من معنى ثقافة فى سبيل التخلص من عدوهم الالماني المتربص بهم، وفق تصورهم.
من الطبيعى ألا يعجب ما قدمه تارنتينو فى هذى الفيلم اليهود، فهم يصرون دائما على أن يظهروا بمظهر الابرياء الذين يبعثون الشفقة ويحتاجون الى المساعدة.
سياق الفيلم:-
فى الفيلم مظاهر للعنف غير مبررة لأن السياق لا يراهن على ذلك، ومن ذلك مثلا جزء فروة الرأس التى تكررن أكثر من مرة والضرب بالعصى الغليظة والقتل الجماعى فى أكثر من موضع، واستخدام أطلاقات الرصاص الجماعية، ومظهر العنف هنا يتفق عليها الجميع بلا تفريق فى الجنسية، والغريب هنا أن العنف الشديد قد ارتبط بالقوات الامريكية وبالعناصر اليهودية الامريكية المشاركة فى الحرب، ونقصد بالغرابة عدم تعود المشاهد على اظهار قوات الحلفاء بهذه الصورة، حتى أن الدو، قائد القوات، يقوم برسم صليب على جبهة الالمان لكى يجعلهم نازيين الى الأبد واينما ذهبوا. غنه يصر على صناعة عدوه ودائما من جديد!
فى المقابل هناك هتلر الذى لا يشبه هتلر، وهناك غوبلز الذى يهتم بالسينما وإنتاج الأفلام ولا يبالى كثيرات بالحرب، وهناك أيضا الضابط زولر الالمانى الذى يهتم بالسينما أيضا، بل ويقتل من قبل الفتاة التى يحبها شوشونا وهو لا يعلم ماذا تخطط من انتقام.
امتياز خاص:-
يبرز فى الفيلم الممثل النمساوى كريستوف ولتز والذى قام بدور سرهانس الضابط الالمانى الذى يطارد اليهود فى البداية، ثم يعمل على نزع فتيل عملية كينو الخاصة بتدمير السينما، ولقد تحصل هذا الممثل على جائزة التمثيل فى مهرجان كان السينمائى 2009 عن جدارة واستحقاق بفضل الفرادة والتميز والمراوغة فى الأداء، ولعل أفضل المشاهدات التى قدمها هى ذات الطابع الحواري كما فى التنقل بين الأداء الساخر والجاد. وتبرز أيضا الممثلة الفرنسية ميلانى لورنيت فى دور الفتاة اليهودية الهاربة والمنتقمة. كما تبرز أيضا الممثلة الألمانية ديانا كروجسر والتى جسدت دور العميلة لصالح الانجليز، ولعل فى دورها إشارة الى الممثلة الالمانية مارلين ديترتيش والتى اشتهرت بانها جاسوسة للحلفاء.
يستفيد المخرج من أفلام كثيرة فيشير الى الناقد السينمائى الانجليزى ارشيبالد هيكوس الذى يلتقى تبشرشل ويستخدمه الأخير فى عملية كينو كما أن بالفيلم إيقونات موزعة هنا وهناك، بعضها من أفلام وبعضها لصور ومعالم ترجع الى أيام الحرب العالمية الثانية، والتى أجاد المخرج نقل تفاصيلها، رغم ان العناية بالملابس قد احتوت على الكثير من المبالغة بما فيها من مظاهر التأنق، بما يتناسب مع فساد الشخصيات من الداخل، حيث الغدر والخسة والدناءة، وهى مرادفات اقترنت بمعظم الشخصيات، وحتى الضابط الالمانى سرهانس يعقد صفقة فى آخر الفيلم لكى ينجو بنفسه وتتحقق عملية كينو وتنتهى الحرب الثانية، لكنها صفقة خاسرة بالطبع لأن الأوغاد حاضرون دائما فى كل مكان، ويكون مصيره الموت.
خطأ لغوي:-
لم أفهم كثيرا، فكرة الأحرف المتغيرة، وفق عنوان الفيلم بخطأ لغوى مقصود، ونقصد بذلك كتابة العنوان عل أفيش الفيلم، لكنها دعابة ساخرة من المخرج وهى مجرد جزئية فى تفاصيل أخرى، مثل التلاعب اللفظى فى الحوار والاشارات.
وعلى سبيل تحدث مذبحة لمجرد الاشارة باليد للمكان الذى يختبىء فيه عدد من اليهود فى بداية الفيلم، وتحدث مذبحة ايضا بعد اشارة باليد خاطئة، يموت عندها عدد من الاشخاص فى حانة فى باريس قبل بداية تنفيذ العملية (عملية كينو).
وهكذا يأتى العنف بكل بساطة، وفى حالة غير متوقعة، وبكل برودة أعصاب وهو أمر سبق للمخرج أن قدمه فى عدة أفلام سابقة مثل أقتل بيل 1+2 وكذلك جاكى براون أشهر أفلامه ثم فيلم برهان القتل ثم قصص شعبية وكذلك فيلم (كلاب المخزن) أول أفلام المخرج إنتاج عام 1992.
لم يكن الدور مناسبا للمثل براد بيت فقد بدا تائها رغم حضوره باعتباره نجما سينمائيا والمقارنة بعيدة بين دوره فى فيلم "القصة الغريبة لبنجامين بوتون: 2008، وفى جميع الأحوال فإن الفيلم فيلم لمخرج وليس فيلم ممثلين إلا فيما ندر.
رغم كثرة الإشارات المتداخلة مع أفلام سينمائية كثيرة بعضها حربي يرجع الى أفلام الحرب العالمية الثانية، إلا أن هذا الفيلم ليس حربيا، إنه فيلم يشير من بعيد الى فن السينما ويقدم مرثية لها، فهذا الفن الأفلام التى قدمها سيكون مصيره الاحتراق، وكذا الأمر بالنسبة لقاعات العرض، طال الأمر أو قصر، وما علينا إلا الانتظار لمعرفة نوع المصير المنتظر.

ليست هناك تعليقات: