الثلاثاء، 2 سبتمبر 2008

العطر والبحث عن مخلص منتظر



العطر والبحث عن مخلص منتظر

هاهي رواية الكاتب باتريك سكورسيزي تجد أخيرا طريقها إلى الشاشة الكبيرة، وما أصعب أن يتحول هذا العمل الأدبي الرفيع المستوى إلى فيلم سينمائي، بل هناك من يرى بأنه من الأصعب أن تكتب الرواية أصلا في لغتها الأدبية، ولهذا تبقى فريدة من نوعها ونادرة من نوادر الإنتاج الروائي العالمي.

فرادة وغرابة

إن السبب لا يعود إلى غرائبية هذا العمل، فهو في جانب من جوانبه مجرد رواية بوليسية تتبع قاتلا محترفا يرتكب الجريمة تلو الأخرى دون أن تصله يد العدالة ، وفي مستوى آخر تفتح آفاقا نحو ما هو أوسع وأشمل.

تعتمد الرواية، وبالتالي الفيلم، قصة طفل رضيع أنجبته أمه في سوق السمك، وهي تبيع وتقطع البقايا وترميها في أكشاك الزبالة والتي سيلات رائحتها على كل باريس قبل 300 سنة من الآن، لم يكن هذا الطفل إلا أحد الأطفال الذين لاقوا نفس المصير من قبل الأم نفسها، وغير ذلك من الأطفال في سنوات الموت والأمراض والجوع التي عاشتها باريس، حتى أن الرائحة كانت هي علامة العاصمة الفرنسية، ومن هنا كان اختيار الكاتب لهذا المكان ليكون خلفية طبيعية للأحداث.

عاش جان باتيست بصعوبة في ملجأ للأيتام، صموتا وعبوسا غير أن قدراته في تمييز الروائح تزداد مع الأيام فهو يملك أقوى حاسة شم في العالم، غير أنه من ناحية أخرى لا رائحة له.

ورغم اقتران جسد الطفل الصغير بقوى شريرة، بدأت بإصدار حكم الإعدام على الأم بعد تخلصها من ابنها إلا أن الفيلم لا يهتم بهذا الموضوع ويضع الأحداث في مستوى تطورها الواقعي.

عاش الطفل في معمل للدباغة حيث الرائحة دائما مسيطرة ، وأوصله هذا العمل إلى محل صاحب عطور "بالديني" والذي كان قد أفلس تقريبا، بعد أن كان أهم صاحب محل على نهر السين في العصور الوسطى.

والواقع أن أهم ما في الفيلم تلك القدرة على استدعاء الماضي بكل تفاصيله، مع الإشارة إلى الجسر باعتباره حدا فاصلا بين نوعين من الروائح، الروائح الكريهة المنفرة والتي ولد فيها جان باتيست، والروائح الزكية التي نجدها على الطرف الآخر من الجسر، حيث يعيش الملوك والأمراء وتستقر المحلات المتخصصة في تصنيع العطور.

جوهر الرائحة

ينتقل جان باتيست من طرف إلى آخر وهو يتمنى أن يتعلم كيف يمكنه الاحتفاظ برائحة معينة للمواد والأشياء إلى الأبد.

بالموهبة والمهارة تمكن جان من تصنيع أصناف من العطور غير معروفة بالنسبة للإيطالي بالديني، وجاءت في وقت مهم بالنسبة إليه بعد ما فقد مهارته وإمكانياته في خلط الجديد من العطور.

وتبقى الفكرة الرئيسية عن جان باتيست ليست في تصنيع أنواع مختلفة من العطور ، لكن أن يتمكن من تقطير جوهر المواد مثل الحجر والنحاس والأهم تقطير الجمال، بعد أن تتبع خطوات فتاة ولاحقها، ولكنها غابت عنه بعدما اختلطت الروائح عليه.

إن فقدانه لهذه الفتاة جعله يفكر في إمكانية تثبيت جوهر الجمال عن طريق قطرات من الرائحة، ولهذا السبب سيطرت عليه فكرة قتل الفتيات واستحضار رائحة جمالهن من عمليات تقطير الجسد،

أما بالنسبة لبالدين فلم يكن يهمه إلا أن يكون لديه مائة نوع جديد من العطور يبيعها للأمراء والملوك، ولهذا أعطى نصيحته إلى جان باتيست بأن يذهب إلى جنوب فرنسا إلى غراس حيث يوجد جوهر العطر وبالتالي يمكنه أن يحقق أمانيه الغريبة.

ومثل الأم يموت بالديني مباشرة بعد ذهاب جان باتيست وهو الأمر الذي حدث لصاحب معمل الدباغة الذي مات سقوطا في النهر بعد أن باع خدمة جان باتيست إلى بالديني.

إن الفيلم هو عبارة عن أحداث متتالية تروى، يرويها هنا معلق من خارج الإطار، ويقوم بدور الراوي الممثل جون هيرت الذي لا يتدخل كثيرا لكنه يعمل على جعل الأحداث وكأنها جزء من الماضي قابلة للسرد والاختصار والتفسير، ولولا هذا السارد لاحتاج الفيلم إلى ساعات أطول، وإضافة تفاصيل كثيرة ربما تثقل المتسلسل الدرامي ولا يمكنها مع هذا أن تسد كل الثغرات.

قوة ذاتية

في مدينة غراس وهي المدينة المعروفة إلى حد الآن بأنها تمتلك ملوك الأنوف الذين بإمكانهم التعرف على الأجبان الجيدة الخارجة من المعامل في هذه المدينة يتحول جان إلى قاتل محترف للفتيات ، فمازالت ذكرى قتل فتاته الأولى حاضرة بتفاصيلها في مخيلته ولابد له من تكرار ما فعله لكي يضمن وجود الأجساد التي تختصر له جوهر الرائحة، وكأنه يسرق الرائحة من الجسد.

وأثناء عمل باتيست في معمل للروائح يحاول أن يستمر في تقطير أجساد الفتيات المقتولات واللواتي ضاعف عددهن حتى وصل إلى 13 فتاة. والفيلم هنا يركز كثيرا على عمليات القتل بقدر تركيزه على الأصداء نفسها وأثرها.

وأهم ما في الفيلم أن الشخصية الرئيسية ذات طبيعة واحدة لا تتغير فلديها رسالة وهدف وتبدو كأنها مدفوعة بقوة ذاتية وليست خارجية، لذلك كانت الشخصية داخلية وليست خارجية، لا تقول إلا بعض الكلمات ولا تعبر عن نفسها وحالاتها، لذلك كان تدخل الراوي مهما في أكثر الأحيان، رغم ذلك فإن الهاجس المسيطر على الشخصية الرئيسية يبقى ذاتيا ومظلما، لا يقترب أو يتواصل مع التجارب البشرية الأخرى، فهو محاصر بما دفع إليه دفعا، تقوده قوى شيطانية غامضة، وكأن جان باتيست هو ابن شيطان زرع في الأرض لتحقيق رسالة ظاهرها إيجابي وباطنها شرير.

وبالطبع يرجع جزء من نجاح هذا الفيلم إلى الممثلين وعلى رأسهم الممثل بين ويشو الذي وضع دوره في مستوى التعبير العادي غير المتعطش للقتل والدماء، بالإضافة إلى دور بالديني العادي الذي جسده الممثل داستن هوفمان والذي أضاف بعدا إنسانيا تحتاجه قصة جان باتيست غرينواي ، رغم أنه دور محدد زمنيا ومتواضع فنيا.

أما باقي الممثلين فهم لا يظهرون إلا قليلا لكنهم يتركون أثرا جيدا، والسبب يعود إلى الأجواء العامة للفيلم، حيث يسيطر دائما لون أسود فاتح أحيانا، وديكورات هي مداخل ودهاليز وممرات ضيقة، وعدا بعض المشاهد القليلة الأخرى فإن الفيلم يشعرك بالانقباض، وخصوصا أنه فيلم لا يتردد في تصوير مشاهده بكل سخاء، ولعل المشهد الأخير خير دليل على ذلك، كما أن الديكورات كانت مناسبة تبرز دائما من خلال حركة عربات النقل وتنقلات جان باتيست الدائمة.

همس الراوي

يقول المعلق على الأحداث "الراوي" بأن الأم قد وضعت أبناءها الأربعة السابقين وهم موتى جميعا، تحت منصة البيع في سوق السمك الكبيرة، وهو يعد أكثر الأسواق عفونة في العالم.

ومصير الأطفال الجرف مع أحشاء السماك من قبل العمال، ولكن جان باتيست الطفل الخامس كان مختلفا ، فلم يولد ميتا، بل ولد حيا وهو أمر لم يكن واردا في ذهن الأم.

هذا الاستثناء جعل من جان باتيست أقرب إلى المخلص المنتظر الذي يأتي بالأمر المختلف فهو رسول العطر الذي يغوي الناس ويسحرهم.

في بداية الفيلم نرى مشاهد من النهاية، حيث يتم استخراج جان باتيست من الزنزانة مقيدا بالسلاسل، بعد القبض عليه متهما بقتل ثلاث عشرة فتاة والحكم عليه بالصلب أمام الملأ، لتبدأ الأحداث بعد ذلك بطريقة السرد حتى الوصول إلى مساحة الصلب نفسها.

في نهاية الفيلم يرتدي جان باتيست بدلة أنيقة وهذا طلبه الشخصي قبل تنفيذ حكم الصلب، ويبدو واثقا من نفسه وهو يعتلي منصة الصلب، ليطلق بعد ذلك رجل الصلب صيحته بأن جان باتيست ملائكة وأنه بريء وذلك بعد أن اقترب منه وتنشق الرائحة التي وضعها باتيست على ملابسه.

أرسل جان باتيست العطر في الهواء وبدا في الفيلم وكأنه يرقص أو يحلق بكاميرا تدور دورة كاملة، بينما يتحول الجمهور من وحش يطالب بإعدامه إلى جمهور مسالم يطلب السلام ويبتهج بممارسة الحب في صورة جماعية، وهذا هو معنى الاستسلام والخضوع للرائحة المطلقة التي يمكن عن طريقها التحكم في سلوك البشر ولعل المشهد الأخير من أغرب المشاهد التي يمكن متابعتها حيث لا يبخل صناع الفيلم عن تقديمه بصورة جذابة، ولا ينطبق الأمر على هذا المشهد المميز تحديدا، بل معظم المشاهد تقريبا، بما في ذلك المشاهد التي صنعت بواسطة الغرافيك مثل مشهد سقوط جزء من عمارة ضخمة احتوت على بيت بالديني.

سر المعادلة

أما المشاهد الآسرة التي تكشف عن سواد باريس بما فيها من حشرات وحيوانات سائبة وأزقة مظلمة كئيبة ولقد تصادف أن عرض شريط "ماري أنطوانيت" بعد فترة قصيرة من عرضه، ليكون مناقضا للصورة الباريسية التي يتوهمها الكثيرون حول هذه المدينة.

في الفيلم بعض المقولات الفكرية التي رددها خبير العطر بالديني حول طريقة تحضير العطر القديمة "مصر القديمة" والتي مازال سرها مجهولا، حيث يتكون هذا العطر من 13 عنصرا من أنحاء الأرض المختلفة، ثم يجمع ويقطر بطريقة خاصة ويودع مع الجثمان الفرعوني، حتى إذا فتحت الأبواب انتشر العطر في الأجواء، حيث يكون استقبال الجثمان بكل ترحاب في عالم ما بعد الموت.

هذه الفكرة تصبح مشروعا قابلا للتنفيذ من قبل جان باتيست فهو يقتل 12 فتاة وينتظر قتل الثالثة عشرة ، وهي لورا ابنة أحد الأعيان قوي النفوذ والذي يفر بابنته، لكنها تقتل برغم ذلك، وقد بدا قتلها وكأنه أمر لا مفر منه، فكل الفتيات هن قربان من أجل هذا العطر المقدس.

هنا تبدأ نقطة التواصل مع رمزية المسيح في الفيلم، فنحن أمام عدد من الحواريين 13 وهي الفتيات المقتولات ثم هناك الصليب الجاهز لتنفيذ أمر القتل وهناك الانبعاث في لحظة إشرافية، فيعلن الجميع البراءة، أي الإحياء بعد القتل، ومن عناصر رمزية المسيح ذلك التدفق الذي سرى باسم الحب أو المحبة وقد عبر عنها الفيلم بممارسة الحب بين الحاضرين بطريقة شفافة وبطيئة نسبيا، بحيث لا يفرق الحب بين الأفراد وأخيرا هناك الصعود الذي تم التعبير عنه بإعلاء جان باتيست فوق الجميع بحيث يباشر الجميع الخضوع لأوامره.

المشهد الأخير

ولعل المشهد الأخير الكامل قد جاء على عكس المتوقع، وهو يمثل تقريبا ربع الفيلم، حيث اتجه الفيلم نحو الرمزية بخلاف النسق الواقعي الذي سار عليه الفيلم في البدايات والمنتصف وما قبل النهاية.

ولعل هذا التقسيم الذي جاء مع تغيير المكان، قد فرض تغييرا في خطوط سير الممثلين الذين تنتهي أدوارهم بسرعة أو تستمر لمشاهد قليلة، كما حدث مع داستن هوفمان في دور بالديني والذي لم يكن مناسبا له تماما وكذلك الممثل الشهير "ألن ريكمان" الذي قام بدور الأب فى نهاية الأحداث ، والذي واجه باتيست بهدف الانتقام الشنيع منه، لكنه يتراجع في اللحظات الأخيرة.

في حوار بين كاريتشيش وجان باتيست، يسأل الأول والثاني عن مبررات قتله لابنته الوحيدة، فيرد عليه بأنه احتاج إليها، ولهذا لم يكن جان باتيست قاتلا بمعنى الحرفي للكلمة، لأنه يسعى لسرقة جوهر الأنثى ولا يكون ذلك إلا بالقتل أو اغتصاب هذا الجوهر فقط، ولذلك وجدت الفتيات عذراوات، وهنا يبدو جان باتيست وكأنه روح متسامية لا يبحث عن الجسد أو الشهوة، وهذا ما يفعله مع فتاة الليل التي وقع لها مالا من أجل تحضير عطرها.

ومن ناحية مادية يلجأ جان باتيست إلى التبخير والتقطير بواسطة الحرارة، حتى إذا خرج الشحم من الجسد، صار ذلك المادة الحيوية للعطر، ولا يعنى ذلك أن كل الفتيات لديه بدرجة واحدة، فهو قد مال لفتاته الأولى، ولذلك نجد عودة بالفلاش باك إلى تلك الفتاة في المشهد الأخير عندما تسيطر حالة العشق على الجميع.

كاتب ومخرج: ـ

لعلها إذن من أغرب الأفكار، تلك الفكرة التي بُني عليها فيلم "عطر... قصة قاتل" وقبل ذلك طبعا الرواية التي كتبها الروائي الألماني "باتريك سوسكيد" بنفس العنوان عام 1981، وهذا الكاتب الغريب الأطوار لم يقدم إلا القليل من الأعمال وأهمها مسرحية "كونترباص" عام 1990، وكذلك سيناريو بعنوان "روسينى" وبعض المعالجات المرئية الأخرى، وطوال مراحل حياته التي عاشها لم يدل بأية تصريحات ولم يوافق على إجراء أية مقابلات صحفية فقط عن صوره القليلة جدا المتوفرة إعلاميا.

أما المخرج توم تايكور فقد قدم سابقا فيلما بعنوان الحقيقة عام 2004 وفيلما آخر بعنوان "السماء" عام 2002. أما أهم أفلامه فهو "اجرى لولا اجرى" عام 1998 وهو يعد من أهم أفلام الموجة الحديثة في السينما الألمانية، كما أن لديه أفلاما أخرى لم تنجح كثيرا مثل "نوام الشتاء" وفيلم بعنوان "لان" وفيلم آخر بعنوان "موت ماريا ـ 1993".

وأهم ما يتصف به هذا المخرج حبه للمغامرة، ويعد اختياره لهذه الرواية "عطر" مغامرة بحد ذاتها بصرف النظر عن النتائج النهائية والتي جاءت في مصلحته الفنية قبل الفكرية.

فيلم مختلف

إن فيلم "عطر

قصة قاتل ينتمي إلى السينما الألمانية بوضوح شديد، فهو فيلم يضع الخلفية الفكرية هي الأساس، وينطلق من تصورات وأفكار وأوهام لا حدود لها، وهو ابن شرعي لهذه السينما التي تبشر داخل الشخصيات دائما وتخلق الأجواء الفنية المناسبة لهذه الأحداث المتخيلة.

هذا الفيلم لا يكاد يشبه غيره من الأفلام، رغم أنه ذكرنا بذلك الفيلم الشهير "مسيح مونتريال" للمخرج الكندي "دينيس أركاند" وهو يبقى في الذاكرة مثلما تفرض الرواية حضورها الأدبي على القراء.

ولا شك أن للممثل الأول الدور المهم في إنجاح الشريط، فهو الوحيد الذي يحمل أعباء تطور الأحداث وإقناع الجمهور وتقريب هذه الرواية ثم الفيلم وإنزالها من السماء إلى الأرض، رغم أن الأحداث تشير دائما إلى رائحة أخاذة تنقل المشغوفين من الأرض إلى السماء.

انه فيلم فرنسي ألماني أسباني ناطق بالإنجليزية المتكسرة أحيانا لكي يصل إلى العالمية، وربما وصل إلى ذلك، لكن نطق اللغة كان من نقاط ضعف الواضحة وما أقل نقاط الضعف في هذا الفيلم.

وفى الأصل لا يتيح لنا الفيلم متابعة هذه النقاط، فهو يدفعك إلى السباحة وراء الرائحة المتخيلة بصرف النظر عن الوصول إليها أو عدم الوصول.

ليست هناك تعليقات: