مغادرون نحو الداخل
لابد للمتابع وهو يشاهد فيلم "المغادر" الجديد للمخرج المعروف مارتن سكورسيزي 2006 ، أن يحيل هذا الفيلم إلى أفلام سابقة لنفس المخرج أو لغيره من المخرجين.
لا تذكر مقدمة الفيلم أن الاقتباس يعود إلى فيلم آخر من هونغ كونغ وكان بعنوان "مسائل جهنمية" إنتاج 1998 للمخرجين أندرو لو وآندي ماكس . وما أكثر الأفلام الحديثة المقتبسة عن أعمال أخرى من الصين واليابان وغيرها، فقد شهدت هوليوود الكثير من الاقتباسات ولاسيما الأفلام الناجحة تجاريا.
مرجعية الفيلم
لا يقدم سكورسيزي، وقبل ذلك كاتب السيناريو وليام موناهان الفيلم الأصلي كما هو بل يضيف إليه أشياء كثيرة إذ لم يكن الهدف من الفيلم الأول، إلا تقديم جرعات من العنف والضرب والحركة والتوتر والتشويق، بصرف النظر عن التخطيط للقصة وطريقة معالجتها.
في فيلم "المغادرون" هناك اهتمام واضح بمسار القصة وتطور ونمو الشخصيات، فقد أفرد السيناريو مساحات واضحة لمعرفة الأبعاد الإنسانية لكل شخصية ولاسيما الشخصيات الرئيسية، وهذا أمر اعتدنا أن نلمسه في معظم أفلام مارتن سكورسيزي.
لم يكن هناك في الفيلم السابق "مسائل جهنمية" مقدمة كافية للتعريف بالقصة والموضوع والشخصيات، ولكن كان هناك ولع بالحدث نفسه وصراع كل شخصية مع الأخرى واشتباكاتها معها يدويا وليس دراميا.
إن الدراما القدرية مرجعية أساسية في أفلام سكورسيزي منذ فيلمه "الثور الهائج 1980" حيث تعيش الشخصية أزمة خانقة، يتم التعبير عنها من الداخل والخارج، ويصنعها القدر الخارجي بأكثر فعالية حينما يصنعها مصير الفرد الذاتي، مثلما حدث في "سائق التاكسي 1976" وغيره من الأفلام.
أما أفلام الجريمة ، فهي ليست غريبة عن مسيرة هذا المخرج ، فقد احتفى بهذا النوع كثيرا ولاسيما في فيلمه الشهير "رفاق طيبون 1990" ثم في رباعية نيويورك والتي بدأت بفيلم "عاري في نيويورك" وانتهت بالشريط الرائع "عصابات نيويورك".
إن سكورسيزي يهتم بأفلام الجريمة والعصابات، ليست لأنها مليئة بالشخصيات المثيرة، كما في فيلم "كازينو 1973" وهو الذي نجد فيه ملامح متكررة في آخر أفلامه "المغادرون" بعد تجربة متميزة ، لكنها غير ناجحة في فيلم "الطيار 2004".. إنه يهتم بأفلام الجريمة والعصابات باعتبارها المكان المعتم الذي يخفي وراءه مكانا أكثر لمعانا، حيث الكواليس الخفية هي الأكثر حضورا والمحركة للأحداث وكذلك الشوارع التي نراها ظاهرة أمامنا وهادئة وما هي كذلك .
طريق العودة
إن أهم ما في فيلم "المغادرون" شخصية "بيلي" التي جسدها الممثل "ليوناردو دي كابيريو" في ثالث تجربة متتالية مع المخرج سكورسيزي، فهو الشخص الذي غادر هويته ووظيفته وأحيانا شخصيته وارتحل إلى عالم آخر مختلف، وحتى عندما أراد العودة إلى طبيعته الأولى لم يستطع، لأنه فقد الطريق والدليل.
لعل هذه الشخصية تذكرنا بفيلم "أرض الخوف 2000" الذي أخرجه داوود عبد السيد في مصر، عندما جعل من شخصية ضابط البوليس "يحيى المنقبادي" أو أبو عطوة تغادر ، وفق اتفاق خفي ، شخصيتها لتستقر في عالم المخدرات من أجل اكتشافه، لكنها تفقد طريق العودة ولا تستطيع العودة إلى شخصيتها الأولى الرئيسية ليزداد اندفاعها إلى الأمام مع مرور الأيام.
إن شخصية "بيلي" هو المغادر الأول .. الشخصية الثاني هي كولين الذي جسدها "مات ديلون" ببراعة وهو أيضا قد ارتحل من عالم ليزرع في عالم آخر مختلف.
يبدأ الفيلم بصوت يسرد لنا بعض التفاصيل، ولا أحد يسمع ، لكنه صوت يعبر عن شخصية مهمة وقوية ومؤثرة فيمن حولها، فهو يصنع الحدث، وخصوصا عندما يقول: "لا أريد أن أكون من إنتاج بيئتي، أريد بيئتي من إنتاجي"، وهو يفعل ذلك عمليا عندما يمنح طفلا صغيرا كل ما يحتاجه من المحل التجاري، لنعرف بعد ذلك بسنوات بأن الرجل القوي الفاعل "مارك" هو الذي يتبنى الطفل "كولين – مات ديمون" ويجعل منه ضابطا متخرجا من أكاديمية الشرطة، وفي نفس الوقت يجعل منه عينا تقدم إليه المعلومات عن تحركات البوليس لكي يأمن على نفسه منهم، وهو زعيم العصابة التي تعمل في أعمال كثيرة غير شرعية، من بيع المخدرات إلى السرقة والسطو.
لم يظهر الفيلم هذه العصابة بطريقة واضحة، واعتمد على نقل المعلومات الخاصة ببعض عملياتها، وأهمها سرقة رقائق المعالجات الخاصة بأجهزة الكمبيوتر التي تستخدم لإطلاق الصواريخ ومحاولة نقلها إلى الخارج، إلى الصين تحديدا.
شخصيات تتحرك
إن قوة شخصية فرانك تأتي من قوة تمثيل "جاك نيكلسون" الذي قام بالدور ، معتمدا على الشكل الخارجي المرسوم بعناية، وكذلك بطريقة الممثل في التعبير ، والتي تتسم ببعض الغرابة في السلوك والتجسيد.
رغم ذلك فإن "كولين" يتقدم في عمله ليصبح تحريا خاصا، وفي نفس الوقت ممارسا لنشاطه الجاسوسي، في إمداد فرانك بكل تحركات دائرة البوليس، والتي يقودها "أوليفر" الذي قام بدوره الممثل "مارتن شين" ومساعده "دينام" والذي قام بدوره الممثل المتميز "مارك اليبرج".
يمكن أن نضيف إلى طاقم الممثلين "إيليك بالدوين" الذي قام بدور نائب رئيس شعبة البوليس والذي يتولى المسؤولية بعد قتل المسؤول الأول، حيث تشير الأحداث بوجوده نحو التفاقم والالتباس.
إن الفيلم مليء بالشخصيات ، وهي تتحرك جميعا في مسرح ضيق، لكن السيناريو يحاول أن يفصل بين الشخصيتين الرئيسيتين، ليعطي مجالا أوسع للتوسع في السرد وذكر التفاصيل التي تصنع فيلما تتجاوز مدته الساعتين، والموضوع ربما لا يستحق كل هذه الإطالة.
لا شك أن أوضح ما في الشريط ذلك التقابل الذي يفصل ويربط بين الشخصيات. إننا في البداية نجد أنفسنا أمام فرانك الذي يسعى لزرع رجل في سلك البوليس وينجح في ذلك، لأنه تبنى الفتى "كولين" منذ البداية وصرف عليه حتى النهاية.
في الجانب المقابل، يبدأ أوليفر بممارسة نفس الأسلوب، حيث يعمل على إخراج الملف السلبي لأحد طلبة أكاديمية الشرطة، باعتباره من وسط إجرامي يتناقض مع متطلبات وشروط القبول بالأكاديمية، ويجد بيلي أن عليه الاستجابة لذلك ويقبل بالصورة الخارجية التي تقول بإدخاله السجن ثم طرده من البوليس، وبالتالي يتسلل إلى عالم فرانك الخفي، باعتباره مجرما وقابلا للعمل في أي شيء يعوضه خسارته المتمثلة في طرده وتحطيم مستقبله.
لكن ذلك لا يعدو أن يكون واجهة خارجية، وصورة شكلية وشخصية مزورة، وهو ما ينطبق أيضا على كولين الذي هو في حقيقته مجرم وعضو في عصابة فرانك، لكنه يتظاهر بأنه ضابط مخلص من ضباط البوليس، ويعمل في هذا العمل فعليا ليخفي شخصيته الحقيقية.
لا يمكن لأحد من الشخصيتين العودة إلى الأصل فعليهما أن يستمرا في ممارسة الصورة الظاهرية للحفاظ على نفسيهما، كما أن الصعوبة تزداد أكثر مع التقدم نحو الأمام، خوفا من اكتشاف الأمر.
قصة حب باردة
من جانب آخر لا تعرف أية شخصية الأخرى، وهما تلتقيان مبدئيا عند شخص واحد له ظاهر وباطن، وهو "فرانك" الذي يقبل بعد التجربة، بالقادم إليه "بيلي" مدعيا بعودته إلى عالم الجريمة، كما كانت أسرته وعمه، وهو الوحيد الذي ليس له إله يكون متطهرا بقدسية العمل، كما هي العادة في أفلام سكورسيزي ذات الملامح الدينية ولو من بعيد.. ونرى ذلك بوضوح، عندما يتوج بالدفن المقدس على أنغام الموسيقى الشجية من فرقة الشرطة، فلقد عاش مجرما في الظاهر نقيا من الداخل ومخلصا للواجب إلى آخر لحظات حياته.
لقد حاول الفيلم أن يقودنا إلى قصة حب، كانت باردة وغير مقنعة، فهذه الفتاة "فيرا" نجدها تعالج بيلي من آلامه المبرحة في المعدة وتقبل عليه عشيقة، كما كانت سابقا مع الشخصية المقابلة كولين، عشيقة أيضا، وهي التي تكتشف علاقته المريبة عن طريق شريط جاء إليها صدفة.
يبدو أن الفيلم متصنعا، فيه حذلقة واضحة، كما أنه يحتوي على فراغات تتطلب الكثير من التفسير والتوضيح، حيث يصعب القبول بهذه الطريقة في طرح المعالجة التي تقود إلى وجود شخصين في نفس الدائرة ولا يعلمان شيئا عن عمل كل منهما، على حدة أو بطريقة مجتمعة.. ولهذا نجد أن الشريط يدور حول شخصين والمسار الدرامي يسعى لعدم جمعهما ولو في مشهد واحد إلا في لحظة الانكشاف الأخير، عندما يقبض بيلي على كولين ويموت الأول على حساب بقاء الثاني.
أما لحظة النهاية الفعلية، فهي أيضا دخيلة على الأحداث، رغم أنها تبدو طبيعية من معيار أخلاقي وليس فني، وتتمثل في خروج المساعد "ديغنام" من دائرة الاختفاء ليقضي على الجاسوس الذي كاد أن ينتصر في النهاية.
صراع طبيعي
إن الفيلم يقتل الكثير من الشخصيات بشيء من التعسف، أولا فرانك وبيد الصبي الذي صنعه في محاولة من الأخير لإنقاذ نفسه والتخلص من مسيرته السوداء السابقة.
القتيل الثاني هو بيلي بطل الفيلم الحقيقي على يد كولين بطل الفيلم الفعلي، لغرض تأكيد الهوية المصنعة واستمرارها.. القتيل الثالث هو أوليفر المسؤول الذي ذهب ضحية صراع طبيعي بين قوى الشر وقوى الخير.. القتيل الرابع هو كولين، وقتله هو الذي أعاد الأمور إلى نصابها وطبيعتها.
لابد من الإشارة إلى الفضاء الذي تتحرك فيه الأحداث، من شوارع وأزقة وأماكن مغلقة وملاه ليلية ومكاتب صغيرة محشورة بالعاملين وغير ذلك من متطلبات العمل الذي راهن عليه سكورسيزي عندما اختار "بوسطن" مكانا لسير الأحداث ولاسيما في شوارعها الخلفية.
لكن هذا الفضاء كان طبيعيا وواقعيا، لم نلمس فيه سحرا لونيا خاصا، كما حدث في فيلم "عصابات نيويورك" وربما عاد السبب إلى أن مجريات الأحداث معاصرة تعود إلى سنوات قليلة سابقة لم تسبغ بطابع تاريخي، مع التأكيد على أن جوهر القصة يقاد بواسطة أقليات تعيش في أمريكا ، فإذا لم تكن إيطالية الأصل، فهي أيرلندية ويكرر فرانك زعيم العصابة ذكر أصوله الأيرلندية أكثر من مرة.
أما النقطة الرئيسية التي لم يتوسع فيها الفيلم، فهي الهالة من الزعامة الطاغية لفرانك والتي لم نجد لها مبررا عمليا، عدا قدرة جاك نيكلسون على التمثيل ، فهذا العراب الذي يمضي متسللا بطريقة غير مباشرة إلى دوائر البوليس العصية، لم نجد له نفوذا فعليا من خلال الأحداث، وحتى عندما اختار الفيلم حدثا معينا، جعله قرينا بفكرة الإرهاب، حيث يعمل فرانك على تصدير التقنية الحديثة لخدمة جهات خارجية.
مقارنة وتقابل
هنا نجد أنفسنا أمام مقارنة ضعيفة بين هذه الشخصية وشخصية "سام" روبيرت دي نيرو في فيلم "كازينو" لنفس المخرج، ومع أن شخصية فرانك ليست الأولى إلا إنها أساسية، فهي التي ترسل المغادر منها وتستقبل آخر إليها ، لكنها ظلت خارجية في سلوكها وتصرفها وكأنها تملك زعامة لفظية أكثر منها زعامة حقيقية.
كما قلنا، فإن الفيلم مقتبس عن فيلم آخر، ورغم الإضافات القليلة، فإن جوهر الموضوع استمر على حاله، مع اختلاف واضح في نوعية المؤثرات والموسيقى التصويرية والتي جاءت متنوعة كثيرا بحسب المشاهد ونوعها، حتى إننا لا نكاد نسمع قطعة موحدة تمسك بتفاصيل الفيلم وجزئياته.
هناك أيضا ما يمكن أن يقال حول الكمية الكبيرة من الحوارات التي تتبادلها الشخصيات طوال الفيلم، وهذا من سمات وملامح أفلام سكورسيزي التي يراها بعض النقاد ذات طابع سلبي ولهذا السبب نجد المخرج يهتم كثيرا بالممثل الذي يضع عليه عبء نقل الحوار وتجسيد الشخصية. وبملاحظة سريعة سوف نجد أن مثل هذا الشريط يضم عددا كبيرا من الممثلين الذين يصعب تواجدهم في فيلم واحد، مع عدم اهتمام واضح بالشخصيات النسائية.. وبالطبع لابد أن يذكر نجاح جاك نيكلسون، مع مات ديلون ومارك أليبرج، لكن المشكلة تبقى في الشخصية الرئيسية "بيلي" والتي جسدها ليوناردو دي كابريو والتي لم تقنع المتفرج كثيرا، فقد ظلت تعبيرات الممثل واحدة طوال الفيلم، بحيث صارت المشاهد التي يظهر فيها متشابهة، بلا روح تقريبا، تمر ثقيلة، وفيها الكثير من الارتباك ، ولا ينقذ الفيلم إلا ظهور بعض الشخصيات الأخرى، أضف إلى ذلك اختفاء تعبيرات الوجه الضرورية ولا يشفع قليلا إلا تلك الرشاقة التي نجدها في الحركة ، رغم أن الشريط لا يركز عليها كثيرا.
رهان وترشيح
ينظر سكورسيزي إلى جائزة الأوسكار – الإخراج – في كل فيلم بقدمه، فقد سبق أن ترشح لها ثلاث مرات، ولم ينلها باعتباره مخرجا، رغم أن أفلامه تطلق أسماء أخرى إلى سماء الجائزة، وهذه المرة يبدو أكثر اقترابا ، رغم أنه دائما لا يكمل الدائرة المطلوبة للنجاح، ويترك جزءا منها مفتوحا لتتسرب منه بعض عوامل الضعف، مثلما حدث في هذا الشريط وحدث أيضا في أشرطة أخرى سابقة.
نعم إن للتعامل مع الأفلام بواسطة الاقتباس طرق شتى واختلافات في الرأي فهناك من يدعو إلى الإخلاص للعمل الأصلي، وهناك من يدعو إلى تقديم نسخة مبتكرة خاصة بالمخرج.. وهناك سبيل ثالث راهن عليه فيلم "المغادرون" وهو يقوم على تهذيب وصقل النسخة الأصلية وتقديمها بطريقة أفضل تكمل بعض النواقص التي فيها.
ليس بالضرورة أن يكون الفيلم المقتبس الجديد ناجحا بمستوى الأول، لكنه يمكن أن يكون كذلك، ولسنا ندري أين نضع فيلم سكورسيزي الأخير وما هو موقعه؟ لأن صانعيه أرادوا فيلما ناجحا فقط وقد كان بصرف النظر عن أية تقييمات فنية أخرى خارجة عن الحساب.
وفي جميع الأحوال يبقى الفيلم أحد أفلام سكورسيزي أكثر المخرجين إنتاجا وأقدرهم على المستوى الفني وأقربهم إلى الجمهور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق