الجمعة، 19 سبتمبر 2008

قراءة فى كتاب عدسات الخيال للناقد عدنان مدانات






مقاربة لجوهر الفن السابع فى عالم متغير

لم تقترب سلسلة الفن السابع المتخصصة فى مجال السينما التى
تصدر عن وزارة الثقافة السورية ومن خلال المؤسسة العامة للسينما كثيرا من
الكتب المؤلفة عربيا إلا فى الأعداد الأخيرة منها تقريبا فقد اهتمت لفترة
طويلة بمجال الترجمة وقدمت فيه عشرات الكتب التى يمكن اعتبارها مفيدة، رغم
أن الترجمة ظلت بعيدة عن الهدف المنشود الذى يقوم أساسا على ايصال المحتوى
المترجم إلى القارىء بكل سهولة ويسر وتكامل المعانى التى يتضمنها الكتاب
المترجم.

من مزايا الكتاب المؤلف مباشرة، أنه فى أغلب الأحيان واضح، ولقد سبق أن
قدمنا تعريفا لكتاب "سينما الانسان" للناقد ابراهيم العريس، للدلالة على أن
المستوى الجيد يمكن أن نجده فى الكتاب المؤلف بالعربية، وليس الكتاب
المترجم فقط.

يمكننا أن نشير فى هذا الصدد إلى كتاب آخر يحمل الرقم "129" من السلسلة
المذكورة، ولقد جاء بعنوان "عدسات الخيال" للناقد السينمائى عدنان مدانات،
صاحب أكثر من كتاب سينمائى موضوع ومترجم.

يتكون الكتاب من أكثر من دراسة، جمع ما بينها التركيز على العلاقة بين
السينما والخيال. أما تقسيم الكتاب فقد اعتمد على نظام الفصول غير
المعنونة، حيث يحمل الفصل الأول عنوانا مختصرا وهو "السينما بين الواقع
والخيال والصدق الفني" بينما احتوى الفصل الثانى على مناقشة قضايا فى
السينما التسجيلية مثل: الموضوعية فى السينما التسجيلية وشهادات الشهود
والكاميرا الخفية وتداخل الروائى والتسجيلى فى السينما وغيرها. أما الفصل
الثالث فقد تعرض لمناقشة قضايا التقنيات الحديثة فى السينما.

والفصل الرابع طرح فيه الكاتب عدة قضايا مثل: السينما التلفزيونية، السينما
– الفيديو والسينما المستقلة فى الوطن العربي.

الفصل ما قبل الأخير، وهو الخامس نجد فيه إشارات إلى علاقة السينما بالشعر
من خلال قراءة نقدية سينمائية لبعض القصائد والدواوين. الفصل السادس احتوى
على موضوع وحيد وهو "السينما والحداثة".

تقارب وتباعد

ربما كانت مقالات الكتاب متباعدة أحيانا، ولكن التقارب يتأكد من خلال بعض
الأطروحات التى ينشغل بها المؤلف والتى أساسها العلاقة بين السينما والواقع
والخيال والجمهور أو اطروحة التأثير الذى تمارسه السينما على الجمهور من
خلال تطورها المستمر ومحاولتها الاقتراب من هذا الجمهور قدر الإمكان
بالاقتراب من الواقعى والمتخيل.

يبدو الكتاب، وكما هو معتاد من المؤلف عدنان مدانات، واضحا فى عبارته
وصافيا فى أسلوبه، يصل إلى القارىء، دون غموض أو التباس، فالكتابة أساسها
ايصال عدد من المعانى ببساطة وليست مجرد تراكم للافكار والموضوعات الشائكة.

يبدأ الكتاب بلمحة شبه تاريخية يتم فيها التعرض لعلاقة الفن والفكر
بالواقع، فقد انشغلت السينما بفكرة الايهام بالواقع، وهو ديدن المفكرين
والمبدعين دائما، أن يدركوا الحقيقة بهاجس معرفتها أو الاقتراب بكل الصدق
الفنى المطلوب من الواقع، والتعبير عنه بأشكال فنية مختلفة، مثل النحت
والرسم، ثم فن المسرح وصولا إلى الصورة الثابتة والمتحركة. ثم السينما
الناطقة والسينما الملونة والتقنيات الحديثة.

يقول الكاتب: "على كل حال، يمكن ملاحظة الطريق الذى سار فيه تطور الخيال فى
السينما، ليس فقط من خلال تتبع اتجاهاته ومساراته المختلفة، بل إضافة إلى
ذلك عبر تقصى أحواله بالعلاقة مع كلا الطرفين المعنيين به. عبر صانعى
الأفلام الذين يستفيدون من التقنيات المتطورة يوما إثر يوم والموضوعة تحت
تصرفهم من جهة، وعبر مشاهديها من جهة أخرى".

صدق الواقع

إذا كان الخيال فى السينما يسير نحو محاولة الاقناع بصدق الواقع، فإن هناك
جانبا آخر لهذا الخيال، وهو السعى لبلوغ أعلى مراتب الدهشة وتجديد ما هو
مألوف، بحثا عن إثارة لا تنتهى أو تتوقف. فى جميع الأحوال، فإن اختلاف
مستوى السينما ينجم عن اختلاف نوعية الخيال ومن هنا يأتى الفرق بين السينما
الترفيهية التجارية والسينما الراقية فنيا وفكريا. إذا انتقلنا إلى معالجة
قضية التسجيلية فى السينما باعتبارها من المناهج الجمالية، حسبما ورد فى
الفصل الثانى من الكتاب فسنجد توسعا فى الشرح، ويرجع الاهتمام بالسينما
التسجيلية إلى قدرتها على ملامسة الواقع، فهى الغاية وأهم رسالة تقترب من
الحياة، وبصفة خاصة عندما يتم التركيز على الوثائق، ليس باعتبارها مادة
فيلمية ولكن باعتبارها جزءا من الأسلوب الفني.

وإذا كان الخيال هو المحرك الأساسى للابداع، فإن بدايات القرن العشرين قد
ركزت على الحقيقة والواقع وبالتالى تكريس التسجيلية، وما لم يقله المؤلف أن
الاقتراب من الواقع، بالتسجيل إلى الوثيقة، يحتاج منا إلى خيال خاص ولا
يحتاج فقط إلى مجرد التوثيق السلبي، ولعل الإشارة إلى صورة الجندى الألمانى
الجالس أمام الدبابة المعطوبة تشير إلى تركيب فنى وليس مجرد التسجيل. يقول
المؤلف: "إن المخرج التسجيلى إذ يستخدم كل ما بحوزته من وسائل وتقنيات،
يبحث بوعى عن الخطوط الأساسية للحركة داخل الصورة، عن اللقطات غير
الاعتيادية، عن زوايا التصوير الجديدة للناس والاشياء والتى تبرز معانيها
وتجعلها أكثر وضوحا".

ضمير السينما

من جانب آخر يتعرض الكاتب إلى مفهوم الموضوعية فى السينما التسجيلية كما
تنبغى الإشارة إلى التمييز بين الوثيقة السينمائية والعمل السينمائى
المنجز، حيث لا تعدو الوثيقة أن تكون مادة خام يمكن توظيفها داخل الفيلم
ضمن بنية أشمل وفى كل ذلك يظهر تركيز الناقد على فكرة أن الفيلم هو رسالة
أولا وأخيرا وأن المنظور لا يخلو من ايديولوجية وينطبق ذلك بصفة خاصة على
الفيلم التسجيلى النص وصفة المخرج الهولندى يوريس ايفنز بأنه ضمير السينما.

وإذا نظرنا إلى الفيلم الراوئى وجدناه قد تسلل من بنية الفيلم التسجيلى لأن
التداخل موجود بينهما منذ عرض أول فيلم وهو خروج القطار من المحطة، ذلك أن
هناك ممثلة من بين المنتظرين فى الطابور، وهناك أيضا فى المقابل من ينتظر
من العمّال. ولذلك فقد أدى هذا التداخل إلى نشأة السينما الرواية بالإضافة
إلى السينما التسجيلية.

يتطرق الكاتب أيضا إلى السينما الإخبارية الوثائقية، ولاسيما عند الروسى
دزيغافير توف الداعى إلى الحقيقة السينمائية بواسطة العين السينمائية. ومن
محاولات الدمج بين التسجيل والدراما ما قام به دافيد عزيفت عام 1915 عندما
أخرج فيلم "مولد أمة" ووضع فيه واقعة مسجلة فعليا، وهو أمر كرره ايفزنشتاين
فى فيلمه "المدركة بو تومكين واكتوبر". وعبر تسلسل تاريخى سريع يصل الكاتب
إلى الواقعية الإيطالية "سارق الدراجة، روما الساعة الحادية عشرة – روما
مدينة مفتوحة".

يقول الكاتب: "لا تقتصر مسألة الاستفادة من السينما التسجيلية الروائية فقط
على مجال المواضيع وإعادة تركيب الأحداث وفق أشكال واقعية واستخدام الاماكن
الحقيقية للتصوير، بل إن الدراسة لتاريخ تطور تقنيات التصوير وأساليب
الاخراج تؤكد على أن مسيرة السينما كانت تتجه نحو تعميق واقعية الشكل
السينمائي".

يصل الكاتب إلى نقطة أخرى وهى استخدام ممثلين حقيقيين، بعيدا عن الاحتراف،
والتجارب فى ذلك كثيرة، كما أن هناك إشارات إلى استخدام ما يعرف بالكاميرا
الخفية فى السينما، ومن ذلك تتبع حياة الناس بآلة تصوير خفية حسب ما يراه
المخرج دزيغا فيرتوف.

والموضوع الآخر الذى له علاقة بالسينما التسجيلية يتطرق إلى استخدام
الشهادات فى الأفلام، ويذكر المؤلف بعض النماذج وأهمها شريط راشمون وبعض
الأشرطة الأخرى مثل "جنين جنين" لمحمد بكري. ومن إضافات الكتاب الانتقال
إلى عصر التلفزيون فى زمن الأخبار والبث الفضائى وكذلك استخدام الوثائق فى
أشرطة الفيديو كليب.

لا يهتم الكتاب بالقضايا الموضوعية فقط، فقد أورد الكاتب تفاصيل يومية خاصة
به سماها مذكرات قلقة وهى عبارة عن تجربة ذاتية لكاتب تصور عودته إلى بيروت
عام 2002 بعد أن خرج منها بسبب الاجتياح الاسرائيلي. ولم يجد الكاتب فى
منزله القديم إلا بعض الأوراق القديمة التى يختار منها بعض التفاصيل أساسها
يوميات تصوير فيلم. وقبل انتهاء هذا الفصل يختار الكاتب بعض العلامات
المهمة فى تاريخ السينما التسجيلية ومن ذلك: "ناkوك من الشمال – الرجل وآلة
التصوير- برلين سيمفونية المدينة الكبيرة – الجسر والمطر – بريد الليل –
رسائل من سيبيريا – فاشية عادية – طيارون فى البيجامات".

الفصل الثالث جاء بعنوان "السينما والتقنيات الحديثة"، وفيه حديث حول علاقة
التقنية بالسينما، حيث حلم السينمائيون دائما بتصورات متخيلة، ويستجيب
المخترعون لذلك، لخدمة السينما بالدرجة الأولى، ولكن، وكما يقول الكاتب،
فإن هذه المعادلة قد تغيرت بعد ذلك، فقد سيطرت التقنية على السينما، وخصوصا
بعد الانقلاب الرقمى والمحاولات المستمرة لإنتاج فيلم ثلاثى الأبعاد، مع
استنساخ ممثلين راحلين. لكن يصف المؤلف هذا التطور التقنى باسم "شيزوفرينيا
التقنيات السينمائية" والمقصود بذلك التناسب العكسى بين التطور التقنى
وعقلية المسؤولين على صناعة الأفلام الشعبية الترفيهية بما يختارونه من
أفكار ويستخدمونه من دعاية سطحي
من الموضوعات التى يتطرق إليها الكاتب أيضا تكنولوجيا السينما والإبهار
والسينما التلفزيونية، ويقصد بها إنتاج أفلام بأجهزة الموبايل والأفلام
الرقمية، كذلك السينما المستقلة فى العالم العربي، من حيث المصطلح
والتطبيق، والكاتب بشكل عام يميل إلى انتقاد هذه الظواهر الجديدة المرتبطة
أحيانا بالتطورات التقنية، وهو أيضا يرجح كفة السينما التقليدية فى صورتها
المعروفة المتعارف عليها.

يمكننا أن ننتقل إلى فصل متميز جديد، وهو الفصل الخامس الذى يناقش العلاقة
بين الشعر والسينما على مستوى السينما التسجيلية أولا ثم السينما الروائية،
وكل ذلك من خلال بعض الآراء لبعض المخرجين مثل أوسون ويلز واندرى تاركو
فسكي، ولقد توسع الكاتب فى شرح آراء المخرج تاركوفسكى حسبما ورد فى كتابة
"السينما والمياه".

ولا يكمل الكاتب باقى التنظيرات التى تجمع بين السينما والشعر وخصوصا عند
بعض المخرجين الرئيسيين، ومنهم بازولينى وغيرهم، وينتقل إلى قراءة نقدية
لدواوين الشاعرة منى السعودى ومن خلال تلمس الحساسية السينمائية أو الخاصية
السحرية للسينما. على نفس المنوال يسير الكاتب فى تناوله لبعض قصائد الشاعر
حسن عبد الله وخصوصا مما ورد فى ديوانه الشامل "راعى الضباب".

مرايا السينما

أما الدراسة الأهم فهى القراءة السينمائية النقدية لديوان الشاعر ابراهيم
نصر "مرايا الملائكة" من خلال العلاقة بين بعض قصائد الديوان وفيلم ايطالى
بعنوان "غرفة الابن"، كذلك إبراز العلاقة التقنية السينمائية التى يحتوى
عليها الديوان.

وربما يعد ما قدمه الناقد فى هذا المجال من القراءات القليلة التى لا تخلو
من جهد نقدى واضح، مع وضوح فى بيان دلالات القصائد المختارة وعلاقتها
بالشعر، سواء من حيث اهتمام الشاعر نفسه، أو من خلال استخدام بعض التقنيات
مثل المونتاج.

يصل المؤلف إلى الفصل الأخير، وهو بعنوان "السينما والحداثة"، حيث يبرز
بطريقة التسلسل التاريخى علاقة السينما بالتقنية، وكذلك تطبيقات الحداثة فى
السينما بواسطة أهل السينما من ناحية، وما له علاقة بالفنون الأخرى مثل
الموسيقى والتشكيل. كما أن السينما قد استفادت من مدارس أدبية حديثة مثل
التعبيرية والسوريالية.

إن السينما فى جوهرها، ظاهرة تعبر عن الحداثة فى تطور متواصل مفتوح، متعدد
الاحتمالات، بل يمكن القول بأن السينما فى حالة تطور مستمر، بصرف النظر عن
القضايا النظرية المتصلة بها، وتطورها لا يعكس توافقا مع التيارات الادبية
والفنية، بقدر ما يرتبط بالتقنيات المتجددة.

سينما مضادة

ومع كل ما تطرحه تنظيرات "ما بعد الحداثة" من بدائل لعدم اليقين ورفض فكرة
الحقيقة والتركيز على مفهوم الاختلاف والتشظى وسيطرة مفاهيم نسبية التفكير،
رغم كل ذلك، وربما أكثر، ورغم أن معظم المدارس والاتجاهات السينمائية، هى
مقاربات مختلفة لعلاقة السينما بالواقع، إلا أن هناك من حاول أن يخرج
سينمائيا عن هذا السياق كما فعل المخرج جان لوك غودار عندما عمل على تقديم
"سينما مضادة" عن طريق تفكيك بنية السرد وفى ذلك مقاربة لمفهوم ما بعد
الحداثة.

ومن جانب، ربما ترتبط التطورات التقنية الحديثة فى السينما بمحاولة
الاقتراب من واقع جديد، قد يكون افتراضيا، يختلف عن الواقع الحقيقي، وفى
ذلك أيضا مقاربة لتصورات ما بعد الحداثة بطريقة أخرى. وفى هذا المجال يذكر
المؤلف بعض الشواهد ومن ذلك شريط "فورست غامب" وكذلك فيلم "الأفعى"، رغم
الاختلاف الواضح بين طبيعة الفيلمين.

أخيرا، وكما يقول المؤلف، فإن كل المفاهيم المرتبطة بتوجهات "ما بعد
الحداثة" تبقى مجرد مفاهيم يدعو إليها جزء من البشر وليس كلهم، فلا يزال
الجزء الأكبر من البشر يرفضون عصر العولمة الرأسمالية وتبعاته من مفاهيم
وممارسات. نعم لا تزال قضية التعبير عن الواقع بكل أبعاده ومحاولة فهمه،
تشكل الهاجس الأكبر لعدد كبير من السينمائيين فى العالم الذين يصنعون
أفلاما مرتبطة بالواقع والانسان، وفيما يخص السينما فإن تدمير علاقتها
بالواقع أمر يخص نمطا من السينما، وهو أحيانا مجرد رد على ما تنتجه الشركات
الكبيرة من أفلام ترفيهية، لكنه لا يشكل تيارا، فالسينما فى وضعها التقليدى
المتعارف عليه مازالت باقية وسارية.






ا
















































































































ليست هناك تعليقات: