الجمعة، 5 سبتمبر 2008

البحر فى الداخل قراءة سينمائية




{ البحر من الداخل والخارج }

j

إعلامياً وعلى مستوى الواقع ، كثيراً ما تثار قضية القتل الرحيم ، وبتكرار الحالات التي تنال القدر الكبير من الاهتمام تطرح هذه المسألة نفسها بشكل مستمر ، رغم أن الفكرة تكاد تكون مرفوضة من جميع النواحي عدا بعض الأصوات والجمعيات الداعية إلى وجوب دعم القوانين التي تحمي اختيار الموت بسبب المرض في أضيق صورة ممكنة .

وعلى مستوى الإنتاج السينمائي فإن أكثر المتابعين يتذكرون ولاشك ذلك الشريط المعروف باسم ( لمن تكون الحياة ؟ ) انتاج 1981 للمخرج الامريكي " جون بانهام " عن مسرحية بنفس الاسم لبريان كلارك ، حيث نجد نحاتاً " ريتشارد دريفوس " يطالب بحقه في الموت بعد أن أصيب بشلل كامل .

قبل ذلك اشارت مسرحية " هوراس ماكوي " الشهيرة ( إنهم يقتلون الجياد .. أليس كذلك ؟ ) والتي نقلت إلى السينما عام 1969 إلى نفس المعنى المتصل بقتل الجياد وهي رمز ، كما أشار سياق الفيلم الذي أخرجه " سيدني بولاك " إلى اولئك الذين نقتلهم لأننا نحترمهم .

في عام 2004 أنتج الشريط الجديد " البحر في الداخل " أو كما ترجم عن الإسبانية " أعماق البحر " وهو إنتاج أسباني – إيطالي – فرنسي ، لمخرجه الأسباني" أليخاندرو أمينبار " الذي عرفه الجمهور من خلال شريطه " الآخرون " والذي قامت ببطولته نيكول كيدمان2001 . أما شريطه الأول فقد كان بعنوان " افتح عينيك " إنتاج أسباني 1997 وهو نفس الشريط الذي أعيد بعد ذلك بعنوان " فانيلاسكاي " بطولة توم كروز .

وبالطبع أول ما يمكن أن يلفت الانتباه نحو هذا الشريط هو فوزه بعدد من الجوائز العالمية ، فقد نال " البحر من الداخل " جائزة جويا الإسبانية السنوية وفاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى لمهرجان فينيسيا بإيطاليا 2004 ، وهي جائزة تأتي الثانية في الترتيب بعد جائزة الأسد الذهبي .

ومن ناحية فنية لها اعتبارات تجارية حاز الشريط على جائزة مهمة هي أوسكار أفضل شريط أجنبي لعام 2004 ، فضلاً عن فوز الممثل الرئيسي في الشريط( جافيير بارديم) بجائزة التمثيل بمهرجان فينيسيا مما أهّله لأن يكون ضمن أعضاء لجنة التحكيم بمهرجان كان السينمائي 2005

k

يعتمد الشريط على شخصية رئيسية واحدة ( رامون سامبديرو ) الرجل العاجز الذي أصيب بشلل " ما تحت الرقبة " بسبب قفزه في بحيرة ضحلة الماء مما أدى إلى أن يصبح طريح الفراش لمدة تصل إلى 26 عاماً ، على نفس الوتيرة وبإيقاع واحد لا يتبدل ، وهذا ما جعله يطلب بشكل رسمي وقانوني إنهاء حياته تحت مبدأ " القتل الرحيم " الذي يشكل بالنسبة إليه الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه لمصلحته ولمصلحة عائلية . كما يرى ذلك بنفسه، رغم الرافضين لدعوته والمستنكرين لها .

إن رامون شخصية ثابتة لا تتحرك ، والشخصيات الأخرى تدور من حوله ، تدخل إلى غرفته وتخرج ، تحاوره وتتجادل معه ، فالشريط إذن يعتمد على الحوار والنقاش وتبادل الآراء ، ليس فقط بسبب سيطرة المكان الذي تصوره آلة التصوير وتستعرض تفاصيله أحياناً ، ولكن لأن الموقف يتطلب ذلك .

من الطبيعي أن يشار إلى أن القصة قد اعتمدت على تجربة حقيقته وقعت في سنة 1960 ، ولكن لا يعني ذلك أن الشريط قد أفرط في تصوير المنحى الواقعي ، بل حاول أن يبتعد عن المعاناة الواقعية للشخصية ، ونجح فعلاً في الهروب من الميلودراما ، فلم يسقط في خلق حالة تعاطف وجداني مع الشخص المشلول ، بل صور الشريط " رامون " باعتباره شخصية عادية ، يمكن التحاور معها وقبولها على علاتها ، ولاسيما وأن المعالجة لم تعط أهمية لمعاناة رامون اليومية والصعوبات التي يعانيها جراء مرضه العضال .

l

هناك عدد من الدوائر حول " رامون سامبديرو " وجميعها متعاطفة معه ، تقدم له يد المساعدة ، من ذلك عائلته التي انتقلت من الساحل إلى الداخل لتعمل بالزراعة بدلاً من العمل بالبحر لكي تبعده عن سبب المشكلة أو المأساة .

تتكون عائلة رامون من الأب والأم وكذلك الأخ الكبير وزوجته وابن الأخ . وهم جميعاً يقتربون ويبتعدون عن رامون ، إلا أنهم يرفضون فكرة أن يتخلص من حياته ولاسيما الأخ الكبير الذي ينطلق من مبادئ أخلاقية كاثوليكية وتقاليد اجتماعية صارمة . أما زوجة الأخ " (مانويلا) ـ مابل ريفيرا ـ " فهي أشبه بالحارس الذي يخدمه ليلاً نهاراً وبصمت وبدون تحديد وجهة نظر معينة ، ويقترب من ذلك الأب الذي يعمل على تصنيع بعض الآلات التي تخدم رامون مع ابن الأخ " جافي " ومن ذلك مثلاً تركيب محرك آلي للكرسي المتحرك ، وكذلك ربط جهاز الهاتف بأداة تشغيل لا يتم فيها استخدام اليد ، وتمكين رامون من الكتابة والرسم على سبورة بواسطة فرشاة تستخدم بواسطة الفم .

اختار الشريط تلك العائلة التقليدية الإسبانية المتماسكة بأجيالها المختلفة والتي ليس لها علاقة بظروف المدنية ، مما يعني أنها قادرة على تحمل المصاعب والمشارك في صنع الحياة لرامون ، رغم أن المسألة تكاد ترتبط برأي الأخ الكبير وحده والذي يختلف حده فيه رفض اختيار الموت عن باقي الأسرة .

الدائرة الثانية تتكون من عدد من الأصدقاء والمرافقين ، ومن ذلك مثلاً المرافقة " جين " التي تم اختيارها لمساعدة " رامون " في الاتصالات والاعتناء به ، فهي أقرب لأن تكون ممرضة ، إلا أنها فعلياً تنتمي لمنظمة الحق في الموت المساندة لرامون .

أما المرأة الثانية والأكثر أهمية هي " جوليا " المحامية التي اختارت الوقوف معه في قضيته التي رفعها إلى المحاكم راجياً فيها أن يقدم إليه الموت بالاختيار ، لأنه تعب من الحياة ، ورغم أن" جوليا " ليست مقتنعة تماماً بأسباب طلب الموت ، إلا أنها في حوارها معه تكشف لنا عن اقتناعها بالتدريج .

إن أهم ما في الشريط ذلك الحوار المقتصد والبليغ الذي يدور بين رامون وجوليا عند سريره . تقول له جوليا : لماذا تبتسم دائما ؟ فيقول لها : بأن تحمل كثرة الألم والبكاء لا يكون أحياناً إلا عن طريق الابتسام ، وعن أسباب سعيه للموت يقول رامون بأن رحلة الثلاث ياردات التي تصله بالأصابع القريبة منه ، هي رحلة مستحيلة ولذلك كان الموت هو الأفضل .

جوليا تعاني من آلام جسمية أيضاً ويتحول مرضها إلى شلل جزئي أيضاً ، لكنها تتحرك بالكرسي ولذلك فهي تقترب أكثر من رامون وتحاول أن تتبنى قضيته أمام المحاكم عند الاستئناف . لكنها تبتعد عنه بسبب مرضها لتعود إليه بعد ذلك ، وينتهي الشريط على مشهد متجدد من البداية تلتقي فيه مع المرافقة جين " كلارا سينتورا " وقد غابت جوليا عن وعيها وفقدت ذاكرتها ، لتعيش حالة قريبة من التي عاشها رامون .

في نفس دائرة الأصدقاء هناك " روزا " فتاة فقيرة تعمل في مصنع مهدد بالإغلاق دفعها اليأس إلى محاولة الاقتراب من هذا الرجل العاجز ، واندفعت بكل قوتها لتعيش معه قصة عاطفية ناقصة . إنه الرجل المفقود والغائب بالنسبة إليها وإلى أطفالها ، وهي الوحيدة التي تسير معه إلى النهاية وتساعده على الانتحار عندما تقدم إليه كأسا به محلول البوتاسيوم وتتركه يواجه اختياره منفرداً .

في نفس الدائرة نجد القس " فرانشيسكو " الذي حاول أن يقترب منه ويغير من رأيه ، على اعتبار أن القس نفسه يعاني من شلل مثله ، لكنه متمسك بالحياة . وفي مشهد له إيحاء واضح تعجز العائلة عن إيصال القس بكرسيه إلى رامون بسبب ضيق ( الدرج ) المؤدي إلى الدور الثاني حيث مكان سرير رامون ، مما يفرض تواصلا عن طريق شخص ثالث ، ينقل الحوار بين الطرفين ، ثم عن طريق الصراخ بصوت عالٍ مباشر . ومن الواضح أن الشريط قد حاول أن يبتعد عن المؤثر الديني ، ولم يتوغل كثيراً في ربط فكرة القتل الرحيم بالجانب المقدس ، عندما جعل من حجة القس ضعيفة أمام عناد رامون .

m

من الطبيعي أن يكون الشريط محاصراً من حيث الديكور بالبيت التقليدي والحركة البسيطة المعتادة ، ولكن كانت هناك محاولات للخروج من هذه الرتابة بأكثر من طريقة ، ففي البداية يتردد الشريط في تقديم حالة رامون من الوهلة الأولى ، ويحاول أن يستعرضها بطريقة جزئية من ذلك التمهيد بصوت المرافقة الذي يأتي في البداية مؤكداً على فكرة الشاشة الصغيرة التي تشبه السينما ، والتي تعني أن يطلق رامون الخيال لنفسه وينطلق ، ثم نسمع صوت رامون ولا نراه ، ونغرق معه في معزوفة موسيقية ذات جيشان عاطفي لفاجنر .

ومن أروع مشاهد الشريط ، ذلك المشهد المتخيل الذي ينتقل فيه رامون من فراشه عبر النافذة ليطوف على ارتفاع متوسط متنقلاً من مكان إلى آخر ، ليلتقي فيه متخيلاً بجوليا على الشاطئ بعد أن سمع بأنها تقوم بجولة هناك ، وهذا الأسلوب هو الطريقة التي يغادر بها رامون سريره ، بين الحين والآخر .

n

استخدم الشريط الجانب الإعلامي ، ولكن بتحفظ شديد ، فقد ظهر رامون على الشاشة ليقنع الآخرين باختياره للموت طالباً مساعدته في ذلك ، ولكن لم يتحول إلى ظاهرة إعلامية، ولم يتم استخدام التلفزيون من أجل حشد الرأي العام لدعم موقف رامون ، لأن القضية فردية وشخصية ومعاناة خاصة تتطلب حلاً وليست ظاهرة تصلح للاستثمار الإعلامي ، ورغم ذلك ، فإن ظهوره الإعلامي أكسبه بعض الود وخصوصاً من قبل الفتاة (روزا) ـ لولادوناسي ـ الذي سمعته من خلال الراديو ، وهي الوحيدة التي سارت معه إلى النهاية .

لم تكن مشاهد المحكمة في المستوى المطلوب ، فقد بدت وكأنها تحصيل حاصل ، كذلك الأمر بالنسبة لمشهد الحوار بين رامون والقس . أما باقي المشاهد الداخلية والخارجية فقد استعارت الحوار السريع ليكون أحياناً مؤثراً موسيقياً ، فضلاً عن حسن استخدام الموسيقا ذات النزوع الأوبرالي الذي يوحي بالموت القادم والمتوقع حسب الخط الذي تسير عليه الشخصية الرئيسية المنطلقة نحو هدف معين لا تبديل له .

إن طلب الموت كما يرى " رامون سامبيدرو " ويختلف معه الكثيرون هو طلب للحرية بل هو اختيار من أجل الحياة وليس الموت. لذلك فهو يعتبر أن الكرسي المتحرك ليس حلاً ، لأنه مجرد فُتات للحرية ، وأن ما يكتبه من شعر وخواطر لا يؤكد تعلقه بالحياة بقدر ما يدل على عدم الرغبة فيها بقتل الزمن عن طريق الكتابة .

أما عن البحر في الداخل ، فهوالغليان المكتسي بتفاصيل ساطعة تغطيه خارجياً .

إن البحر هو الذي منح رامون الحياة فقد قضى المرحلة الأولى من شبابه بحاراً يتنقل من مكان إلى آخر ، وهو الذي أخذ منه الحياة عندما كان سبباً في إصابته بالشلل الجسدي الكامل . ومظهر البحر الخارجي هو الوهم والغطاء الضحل الذي يقود إلى الموت ، بينما أعماق البحر هي الحالة المقابلة التي صارت في داخل رامون ، لذلك هو المقابل للابتسام والبكاء ، ابتسامة الخارج وبكاء الداخل . صفاء البحر الخارجي وجيشان أعماقه .

o

عبر عدد من المشاهد الخارجية البسيطة في التنفيذ ومحاولات تجزيئية عبرت عنها لحظات من الرجوع للخلف ، وحالة من السيطرة على الموضوع لا تنفرط بالحزن ، تتابعت أحداث الشريط بسردية هادئة ساعدها في ذلك تمثيل متقن من قبل " جافيير بارديم " في دور " رامون سامبيدرو " الذي انتقل بالشريط من مرحلة التعاطف المبدئي مع رجل عاجز إلى شخصية قوية ترى أن قوتها قد تمثلت في اختيارها للموت ، فضلاً عن قدرته على فهم أعماق الشخصيات الأخرى.

هناك في التمثيل الوجه المقابل لرامون عاطفياً ونفسياً " جوليا " المحامية من برشلونة – بيلين رودا – والتي تماهت معه حتى كادت أن تصبح مثله، ولعل أسلوب الاقتصاد في التعبير قد اتضح كثيراً عند هذه الممثلة وبشكل واضح .

هناك أدوار أخرى مهمة ، كما بالنسبة لزوجة الأخ " مابيل ريفيرا " وكذلك ابن الأخ " تامار نافاس " الذي عبر عن الجيل الجديد المنتقد من قبل رامون نفسه ، رغم الإخلاص الذي ظهر منه وبشكل ربما يكون متوقعاً .

وإذا كان عامل التمثيل قد برز بشكل لافت للنظر في الشريط فإن الإحكام الذي لازم كتابة السيناريو وتنفيذه ، قد سار بالشريط على خط دقيق ومفصل وحاد .

يمكننا أن نقول بأن الشريط قد أوصلنا إلى ما هو غير متوقع من مثل هذه الموضوعات المطروحة ، والتي تعني دائماً أن الأفلام هي أولاً وأخيراً تعبير عن الكيفية التي يطرح بها الموضوع وليس مجرد الإبلاغ عن الموضوع نفسه أو المقولة المرتبط به.

لم يحاول الشريط أن يستعرض الطريقة التي وصل بها رامون إلى الموت ولم يركز عليها ، فهي نتيجة طبيعية للأحداث توالت فقادت الشريط إلى نهاية " رامون سامبيدرو " في شريط ( البحر في الداخل) لكن أطروحة القضية نفسها لم تنتهِ بعد .

ليست هناك تعليقات: