الوجوه العشرة للمخرج راينر فاسبندر
رمضان سليم: أول بادرة يمكن أن تعبر عن رأى الجمهور فى أفلام المخرج راينر
فاسبندر هى أنها أقرب إلى الأفلام عسيرة الفهم أو على الأقل صعبة التقبل،
إنها أفلام تنطق بالغموض وتختبئ وراء التلميحات والرموز، وأكثرها تحتاج إلى
المشاهدة أكثر من مرة، وبالتالى فإن الانطباع العام الذى يسيطر على المخرج
الألمانى "فاسبندر" أنه يتحرك من وراء سينما محدودة الانتشار ليس على مستوى
ألمانيا فقط ولكن على مستوى أوروبا أيضا.
والحقيقة أن هذا الرأى يشتمل على بعض الحقيقة إذ رغم إنتاج المخرج المتنوع
وتعدد أفلامه واجتهاداته إلا أنه بقى مخرجا غير معروف كثيرا ويمكن أن نقول
إنه مخرج فى الظل، إلى أن جاء الموعد المناسب ليتعرف الجمهور على فيلم
للمخرج عرض بعنوان "زواج ماريا براون" إنتاج عام 1978 وهو يحمل رقم 32 فى
سلسلة الأفلام ليتم بعد ذلك الاقتراب أكثر من كل أفلام المخرج ومناقشتها
واعتباره بالتالى أحد أهم المجددين فى السينما الألمانية المعاصرة.
فاسبندر فى كتاب
هذا الكتاب هو أيضا من ضمن سلسلة الفن السابع السورية ويحمل الرقم 192 وكما
قلنا أكثر من مرة بأن هذه السلسلة من أفضل السلاسل السينمائية المستمرة
التى تصدر باللغة العربية، نقول ذلك رغم تأكيدنا على بعض النقاط السلبية،
منها عدم وجود تعريف بالكاتب الأصلى ولا تعريف بالدار التى نشرت الكتاب
بلغته الأصلية أو أية لغة أخرى، وكما فى هذه الحال فإن الترجمة من الواضح
أنها عن الفرنسية رغم أن أصل الكتاب بالألمانية أو هكذا يظهر الموقف
وتأويله بسبب عدم وجود المعلومات المؤكدة.
إن المترجمة رغد الرهونجى لها باع طويل فى ترجمة الكتب السينمائية وتمتاز
بأسلوب واضح، والمراجع هو جمال شمير وهو أيضا مترجم وناقد أدبى يجيد
الفرنسية ومصادره معظمها عن الفرنسية.
بذلك يصل الكتاب إلى مستوى جيد من الإتقان الموضوعى وكذلك الفني، إذ لابد
لنا أن نشير إلى أن الإخراج الفنى وتصميم الغلاف يحتوى على قدر من الاتقان
والتنسيق وهو أمر لا يتكرر كثيرا فى سلسلة الفن السابع التى يرأس تحريرها
الناقد محمد الأحمد وإدارة الناقد بندر عبد الحميد.
عدة فصول
ينقسم الكتاب إلى عدة فصول أشار إليها مؤلف الكتاب يان لاردو كالآتي: الفصل
الأول يتناول الرابط بين أعمال فاسبندر وحياته، وأهمية البعد الشخصى داخل
أعماله، فلم تكن القضية محاولة لمعرفة الطرائف والقصص الخاصة الكامنة وراء
هذا المشهد أو ذاك بقدر ما كانت الرغبة فى كشف النقص الأساسى الذى يقام
عليه ويخلقه وينزع بيأس أو بطريقة مأساوية إلى استبداله والحلول محله.
بالإضافة إلى الفصل الأول هناك الفصل الثانى وهو يتطرق إلى البعد الأخلاقى
فى أعمال المخرج راينر فاسبندر ولاسيما من خلال فيلم "ساحة الكسندر فى
برلين" مع الإشارة إلى موضوع "التوأمة" فى أفلامه وتكررها.
الفصل الثالث من الكتاب يدرس البعد الاجتماعى لأعمال المخرج السينمائية حيث
تكون البداية بتكرار الشخصيات ودمجها فيتم الانتقال من عالم الأفراد إلى
المجتمع بأكمله وربما اختصار الحياة بأسرها.
فى الفصل الأخير هناك نظرة جمالية حول الأفلام ومدى أهميتها فى تاريخ العالمية.
تلك الأشجار
لا يهتم مؤلف الكتاب بالتسلسل التدريجى للحياة التى عاشها فاسبندر وكذلك
كيف جاءت أفلامه متتالية، ولكن هناك ربط بين مشاهد من الأفلام والحياة
الفعلية للمخرج، وفى الموضوع المعنون باسم "ملك أشجار المغت" هناك حديث عن
فيلم "الانتحاري" الذى عمل فيه المخرج فاسبندر ممثلا وليس مخرجا، والدور
لشرطى شديد القسوة والصرامة، وهو بطل تراجيدي، نراه يتكرر فى أفلام هذا المخرج.
ومن بداية ميلاد الطفل نجد مشهد الولادة متكررا، لعله الأقرب، ذلك الذى شعر
به الجمهور فى فيلم "زواج ماريا براون" وفى الواقع لقد ولد المخرج عام 1946
أو ربما عام 1945 المهم أنه انتقل بسرعة من عائلة كبيرة إلى أخرى صغيرة من
عائلة الأب إلى عائلة الأم وهنا يستشهد الكاتب بفيلم "أريد فقط أن يحبوني"
ليؤكد به تلك الرغبة الجارفة لدى الطفل لكى يتصل بالآخرين ويكون موضع رضى
كامل ويتجسد ذلك فى الأزهار التى يقدمها دائما ونراها فى الأفلام متكررة
بلا نهاية.
نفس الأمر ينطبق على فيلم آخر هو "بائع الأزهار المتنقل" وربما أيضا على
أفلام جاءت بعد ذلك.. المهم أن الكاتب يؤكد على العلاقة بين الأفلام وحياة
المخرج، ويحاول أن يبرمجهما معا، وربما كان ذلك أشبه بتناول السيرة الذاتية
من خلال الأفلام. إلى أى حد يمكن أن يكون هذا المنهج صحيحا؟ أو ربما كانت
الحقيقة ليست هدفا، فالأهم هو هذه الاختيارات، وكأنى بمؤلف الكتاب يجمع بين
معرفة الأفلام جيدا ومعرفة تفاصيل حياة المخرج بطريقة أشد تركيزا وفعالية.
سيرة وفيلم
يمكن القول بأنه فى كل أفلام المخرج رانير هناك بعد من سيرته الذاتية، وحتى
إذا لم تكن هناك سيرة ذاتية دقيقة، فإن الموجود دائما مزيج من عناصر شخصيته
وأشياء أخرى متخيلة.
وبما أننا لم نغادر طفولة المخرج فاسبندر رانير، فلابد من الإشارة إلى
الجدة انيتا، وهى الجدة الحقيقية التى أظهرها المخرج صارمة وقاسية لأن
الصورة غير واضحة لديه، والصرامة هنا ذات طبيعة أخلاقية ودينية تنعكس على
معالم التربية العائلية.
هناك بعض الاهتمامات الأخرى التى يجد لها المؤلف أكثر من سبب ومبرر وهى
مبررات تعود إلى الحياة التى عاشها المخرج، ومن ذلك انتقاله للعيش مع والده
فترة من الزمن، تعرف خلالها على أصناف من البشر، لحقهم التشويه الأخلاقى
والاجتماعي، وظهروا جميعا فى صور مختلفة فى أفلامه.
هناك تفاصيل كثيرة يأتى بها هذا القسم، وأهمها علاقة فاسبندر بأمه التى
تمثل معه فى أغلب أفلامه وعلاقات عائلية أخرى، حيث تربطه بالعائلة خيوط
كثيرة. كما فى أفلام مثل "عام الثلاثة عشرة مثمرا – قانون الأقوى" – أما
فيلم "العبد الحر" فهو ينتمى إلى نوعية أخرى أقرب الى المغامرات، لأنه
اعتمد على شخصية رجل خلاسى فى سبعة أشرطة وقام بها الممثل غونتر كوفمان
وانتجت جميعا فى عام واحد.
ليستمر المؤلف فى ربط الأفلام بالحياة الشخصية للمخرج وعلاقاته بالأسرة
والأصدقاء، مع استشهاد مستمر باليوميات الخاصة، وكذلك الإشارة إلى بعض
المقولات النقدية التى صاغها نقاد السينما حول المخرج فاسبندر وأعماله.
اخلاص للرواية
فى موضوع لاحق بعنوان "الوجوه العشرة لفرانز والتش" يتطرق المؤلف إلى شخصية
تتكرر كثيرا فى أفلام المخرج وهى "فرانز والتش" وخصوصا ذلك الفيلم الذى
عنوانه "ساحة الكسندر فى برلين" الذى أعد فى فرنسا مسلسلا عن رواية لمؤلفها
دوبلين. ثم أعاده المخرج فاسبندر فى فيلم ناجح ومخلص للرواية الأصل.
إن الفيلم بطبيعة الحال قصة متخيلة أساسها لص يخرج من السجن ليبدأ حياته،
وهو ما كرره فاسبندر فى أكثر من فيلم بعد ذلك. وهنا سوف نلحظ أن المؤلف
يركز كثيرا على الشخصيات الرئيسية فى أفلام فاسبندر، ثم تداخلها وتشابهها،
رغم التميز الذى ناله فرانز والتش.
ومن الشخصيات المبتكرة أيضا "فرانز كوين" المتشرد الذى صار نموذجا لعدد من
الهامشيين الذين اهتم بهم المخرج كثيرا، إن هذه الشخصية موسومة أولا برفضها
للعيش مثل الآخرين، ورفضها لقوانين المجتمع، كما فى فيلم "شارع داس مورتيس"
وكذلك فيلم "قانون الأقوى" وبالإضافة إلى التفصيلات التى تتعامل مع
الشخصيات والأفلام، هناك أيضا محاولة لإبراز أهم خصائص سينما فاسبندر،
ولاسيما من حيث التركيز على الظواهر السلبية فى المجتمع الألماني. ولكن
يمنع ذلك من كثرة الإعادات، وكذلك المبالغة فى تفسير الأفلام وربما
تحليلها، ذلك التحليل الجزئى الذى لا يفيد القارىء كثيرا. إلا إذا كان هذا
القارىء قد شاهد أفلام المخرج عدة مرات، حتى يمكنه أن يتواصل مع هذه
الجزئيات، فى حال افترضنا أنها ذات دلالة على المخرج.
دورة حياة
فى موضوع آخر بعنوان "الكوميديا البشرية" يربط الملف بين المخرج فاسبندر
والروائى بلزاك.
لقد انبثقت أعمال بلزاك عن رواية متسلسلة، فرواياته تتداخل الواحدة فى
الأخرى. كما لو أنها حلقات من قصة غامضة، يتم كل مرة تأجيل حل لغزها. كذلك
الأمر لدى فاسبندر، فهو لديه الدوران المستمر وعودة الشخصيات والمواقف
والأماكن ومثال ذلك ما جسدته ممثلته المفضلة "هانا شيغولا" من أدوار.
إن أعمال فاسبندر عبارة عن دمية متداخلة ضخمة، تتكاثر وتتوالد بسرعة. كما
حدث فى أفلام "آلهة الطاعون – الجندى الامريكي، الجيل الثالث". إنها أفلام
تبدأ قبل أن تبدأ، لأن قصصها تتقاطع دائما مع قصص أخرى لا تنتهى.
فى هذا الموضوع يكثر استشهاد المؤلف بأفلام المخرج إلى درجة أنه يذكرها
كلها تقريبا "ايفى برست ومارثا وثمانى ساعات لا تصنع يوما ـ وطريدة عابرة
وألمانيا فى الخريف والجيل الثالث وسر فيرونيكا قوس ويأس وليلى مارلين".
نموذج المراة
فى آخر الموضوع يسلط المؤلف الأضواء حول نموذج المرأة فى أفلام فاسبندر،
حيث تظهر باعتبارها النموذج المثالى المقموع، ومن ناحية أخرى نجد الكثير من
الاحالات الدينية المرتبطة بالمرأة أيضا وهذه الأفلام الكثيرة التى تستفيد
من الزمن الدينى بأشكاله المختلفة نجدها متعددة مثل "آلهة الطاعون – رائحة
الشيطان – بائع المواسم – وايتى الى كويريل" وأهم رمز هو الصلب، وهنا يقارن
المؤلف بين رموز المخرج الايطالى بازوليني، ورموز فاسبندر.
من قضايا الكتاب المطروحة علاقة فاسبندر بالسامية واتهامه بمعاداة السامية
من خلال ايقاف مسرحيته "القمامة 1976" وكذلك الاحتجاج على بعض أفلامه مثل
"ظل الملائكة".
إن فرضية المعاداة للسامية لدى فاسبندر، لا يمكن إلا أن تتأكد من واقع
اعادة ايجادها نفس النماذج النمطية، ونفس الرابط الرمزى فى فيلم "سنة
الثلاثة عشر قمرا، وفيه يعيد تناول شخصية اليهودى الثرى المتعهد وسيد
المدينة، مع الاختلاف فى أنه لا يملك فى هذا الفيلم اسما محدودا. وبالطبع
وقع سجال بين المخرج ومن اتهمه بمعاداة السامية وقد اورد الكتاب النقاط
القابلة للرد والنقاش.
فكرة التزوير
فى موضوع لاحق بعنوان التزوير يصل المؤلف إلى فكرة أن السينما هى كذبة
مضاعفة، وأحيانا تضاعف إلى 25 مرة، حسب رأى المخرج نفسه. والأهم هو تصنيف
الاتجاه السينمائى لهذا المخرج، فهو ليس مثل روسيللينى وغودار وبريسون،
ولكل منهم وحدة شكلية وفى مجمل أعمالهم نجد اتساقا وثباتا فى الرؤية.
إن فاسبندر على العكس، لأن عالمه السينمائى ليس لديه شكل خاص، بل هو عالم
مقتبس من العديد من المخرجين، ولقد أخذ من المسرح أيضا بالإضافة إلى
تشكيلات أخرى متنوعة، بحيث تكون النتيجة سينما متباينة من خلال التنوع،
ولعل أهم جهد قام به مؤلف الكتاب إعادة كل فيلم من أفلام فاسبندر إلى أصوله
الأولى.
على سبيل المثال، فإن فيلم "المتشرد" هو إعادة مبتكرة لفيلم فرنسى سابق
"برج الأسد" لمخرجه ايريك رومير. أما تأثر المخرج فاسبندر بكلود شابرول فهو
أشد عمقا من خلال عدد من الأفلام.
وليست المسألة دائما ارتباطا بين الكلى والكلى من حيث الموضع ولكن يستفيد
فاسبندر من المشاهد الفردية ويعيدها بشكل مختلف كما فى فيلم "المتشردة"
الذى أعاد فيه مشاهد لغودار من فيلم بعنوان الرمق الأخير.
موضوعات أخرى
من الواضح أن مؤلف الكتاب يميل الى اعتبار تأثر فاسبندر بالأفلام الفرنسية
بالغ الأهمية فى مسيرته الفنية، وخصوصا تأثرها بالموجة الجديدة الفرنسية فى
البدايات الأولى لأفلامه.
ومن الموضوعات المتأخرة فى الكتاب علاقة فاسبندر بالتلفزيون، فهو الذى
اختار أن يتعامل مع هذا الجهاز الذى لا يذهب الجمهور إليه ولكن يذهب هو إلى
الجمهور.
فى آخر الكتاب تقرأ بيبلوغرافيا مطولة حول المخرج، أقرب إلى اليوميات
ومتدرجة حسب السنة. وهى تختصر أهم الاحداث المرتبطة بشخصية المخرج من
الناحية الفنية والحياتية. هناك أيضا فيلموغرافيا تبدأ بفيلم "المتشرد"
1965 وتنتهى بفيلم "كوبريل" 1982.
لا شك فى أن هذا الكتاب من نوعية مختلفة، فهو يدخل إلى أفلام المخرج
وحياته، بالطبع هناك العديد من الكتب التى تعاملت مع المخرج فاسبندر إلا
أننا نجد هذا الكتاب من نوعية ثقافية وفكرية شائكة قليلا، خصوصا أنها تجعل
من المخرج مؤلفا للأفلام وليس فقط مخرجها.
ولا يمكن اعتبار هذه القراءة إلا واجهة معينة لا تنفى وجود قراءت أخرى
مختلفة، لا تنطلق من المخرج إلى أفلامه، لكنها تنطلق من الأفلام إلى
المخرج، وربما كان هذا المنهج مؤديا إلى نتائج يعكسها كتاب غير هذا الكتاب
وكأننا أمام مخرج آخر مختلف، رغم أن الاسم واحد وهو "راينر وارنر فاسبندر".
AddFreeStats
<http://top.addfreestats.com/cgi-bin/main.cgi?usr=00089421P000>
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق