رسالة من العالم الأزرق
هناك بعض المخرجين الذين يقدمون شريطا واحدا يحقق نجاحات كبيرة على الصعيدين التجاري والفني ثم لا يتجاوزون ذلك النجاح إلا بمقدار محدود.
لا تعد هذه النظرة من القواعد الثابتة بل هي مجرد إشارة نجد لها أمثلة كثيرة ونماذج عديدة .. المخرج نايت شاميلان هو أحد هؤلاء ، فقد قدم عام 1999 فيلمه المعروف الحاسة السادسة وشق الفيلم طريقه نحو النجاح الواسع، بحيث صار من أهم الافلام على مستوى الإيرادات في تاريخ السينما العالمية.
بعد ذلك لم يقدم المخرج شيئا مذكورا فقد ظل يسير بشكل متأن ، بل موضوعات أفلامه ظلت تقترب وتبتعد من ذلك الشريط اللافت للنظر ، إذا ذكرنا بعض الأشرطة التي قدمها المخرج نايت شاميلان فسنجد انها قد نجحت ايضا ولكن في حدود ضيقة ومن ذلك شريط الإشارات – 2002 وشريط القرية 2004 على مستوى الإخراج أما على مستوى السيناريو فهناك أشرطة أخرى مثل الصلاة مع الغضب 1992.
في شريطه الأخير إنتاج 2006 سيدة الماء يدور المخرج وهو أيضا كاتب سيناريو والقصة في نفس الدائرة اي الاهتمام بما هو غير طبيعي وتلك القضايا التي لا علاقة لها بالمسائل الغيبية والروحية. وكما في أفلامه الأخيرة لم يحقق شريطه النجاح الذي يوازي شريط الحاسة السادسة وربما كان آخر الأفلام هو أضعفها على كل المستويات.
المخرج مولود في الهند عام 1970 غير أنه عاش في أمريكا ولقد حمل معه الاهتمام بالغيبيات والأحلام والخرافات من ثقافته الهندية الأولى واضاف إليها بعض التيمات التي تركز عليها الخيالة الامريكية وتطرحها في الكثير من افلامها ذات الطابع الغرائبي. إن الفيلم المذكور من النوع الخيالي لكنه بعيد عن الخيال العلمي لأنه يسير نحو الخرافة ولا يتجاوزها إلى الأسطورة بمعناها الشامل والمطلق.
في بداية الفيلم يجد المشاهد نفسه أمام مقدمة أقرب إلى الرسوم المتحركة تحكي الفرضية التي يبني عليها الشريط موضوعه فعن طريق الشخصيات المتحركة والمرسومة بخطوط مستقاة من رسومات الانسان البدائي نعرف الموقع الذي ينطلق منه الفيلم.
قصص ما قبل النوم
غير أن هذه المقدمة تشكل نقطة من نقاط الضعف لأنها لا تسعى الى الشرح والتفسير والتبرير وهي طريقة تتكرر طوال الشريط فلا يمضي زمن قليل إلا ونجد أمامنا شخصية درامية تفسر لنا الأحداث وتشرح بعض التفاصيل وتضيف من عندها بعض النواقص لقد ضاعت متعة اكتشاف الاحداث بالتدريج فكأن المتفرج هو مجرد مستمع يتابع قصة من قصص ما قبل النوم.
إنها فعلا قصة مستقاة من قصص ما قبل النوم ولقد كتبها المخرج نفسه نقلا عن بعض أصولها الأولى ذات الطابع الشفهي على الأرجح.
يعتمد الشريط على قيمة متكررة عرفها جمهور السينما مرارا أساسها الخطر الذي يحيق بعالمنا الأرضي والذي لا يمكن الوقوف ضده إلا بإرادة فرد أو مجموعة أفراد.
إن الخطر هنا ليس وحشا قادما من تحت الأرض أو هجوما فضائيا أو كائنات تتحرك ، لكنه خطر أخلاقي ومعنوي ارتبط بأي شأن فكان نتيجة ذلك ازدياد موجات العنف بين الأفراد والاجناس وانتشار الحروب والمفاسد.
تقول فرضية القصة بأن الكائنات جميعا كانت متقاربة ما هو مائي وغير مائي وكانت جميعها تستمع لصوت الضمير الاخلاقي فتصلح الاخطاء ولا تمنحها فرصة التوسع والانتشار.
بعد ذلك صار الانسان لا يسمع فانفصل أهل البر عن أهل البحر وعاث الانسان في الأرض فسادا .. هاهي الرسائل ترسل من أهل الماء تباعا بهدف الاصلاح عن طريق الرسل المختارة يضحون بأنفسهم من أجل إنقاذ العالم الارضي.
تفاصيل متداخلة
إن سيدة الماء هي إحدى الرسل قدمت ومعها رسالة تغيير وإصلاح وقبل كل ذلك بعض تنبؤات المستقبل.. في الفيلم تفاصيل متداخلة تقترب من أفلام المخرج السابقة حتى إننا قد نجد شذرات من تلك الأفلام فلا يكاد يوجد فرق كبير بين شخصية بروس ويلس في الحاسة السادسة وشخصية ميل غيبسون في شريط الإشارات وشخصية جواكين فوينيكس في شريط القرية مقارنة بشخصية بول جياماتي في هذا الشريط سيدة الماء.
إنها جميعا شخصيات جوانية لها المها الداخلي ورغم ذلك تطرح نفسها باعتبارها المساعد الرئيسي في التخلص من المصير المحتم الذي ينقاد الانسان إليه قدريا.
إن أهم شخصية في هذا الشريط هو بول جياماتي أو كليفلاند المشرف على البناية المتوسطة الحجم التي يسكنها عدد من الأفراد في منطقة معزولة تحيط بها الاشجار والاعشاب ولا يكاد يزورها أحد إلا سكانها.. رغم أنها ضاحية لمدينة فيلادلفيا.
لا شك أن اختيار المكان جيد ولا شك، وكذلك زوايا التصوير وباقي المكملات والتي تدل على حرفية كبيرة عند المخرج بحكم تجربته في مثل هذه النوعية من الأفلام.
إن المنطقة المعزولة بأفرادها المعدودين هي هدف دائم للآخرين من العالم الآخر وهذه المرة ليس العالم الآخر هو سكان الكواكب أو المجرات الكبيرة كما سبق أن شاهدنا في شريط لقاءات من النوع الثالث و شريط "آي تي" للمخرج ستيفن سبيلبيرغ.
إن العالم الآخر هو عالم الماء الذي كان متحدا مع عالم البرية ثم حدث الانفصال , لا يقدم الشريط توضيحا للشر الكامن عند إنسان الأرض لكنه يجمع عددا من الجنسيات في البناية حتى تصبح الدلالة العالمية أكثر وضوحا ولا يمنع ذلك من أن يكون المشهد الثاني بعد المقدمة فيه رمز لعنف الانسان الموجه إلى الكائنات الحية وذلك عندما نشاهد كليفلاند يقتل بإصرار إحدى الحشرات وخلفه عدد من قاطني المنزل يصفقون له ويهتفون بانتصاره.
يورط الفيلم المشاهدين في غموض يصل الى درجة الابهام وهو غموض متكلف لم يجد المخرج وسيلة لفك طلاسمه إلا بالشرح والتفسير.
يجد المشرف كليفلاند فتاة في حوض السباحة بالبناية بعد إشارات سابقة دالة على أن هناك من يستعمل الحوض في الاوقات غير الملائمة وفي الواقع هو ينقذها ويحملها إلى بيته.
إنها أقرب إلى حورية البحر يسميها الشريط نارف وتكشف له عن سرها فقد أرسلت برسالة إلى هذا المكان رسالة إنقاذ وهنا يكون لباقي الشخصيات الأدوار المناسبة لكشف باقي الحقائق والتي تبدو ثقيلة في الفيلم حيث المرأة الصينية والرجل الهندي والعجوز الشافية ، بالاضافة إلى الشخصيات يحركها كليفلاند المتحمس لرسالة الفتاة والتي يسميها ستوري وقد قامت بالدور برايس دالاس.
المرأة الصينية تفسر ما خفي من أمر الحوريات وكيفية التعامل معهن ولكن بواسطة ابنتها الصغيرة، حيث لا تجيد هي اللغة الانجليزية، ومعلوماتها قادمة من القصص القديمة التي كانت تحكى لها قبل النوم.
ذاتية وتعقيد
تبحث الفتاة نارف عن ثلاثة أفراد عليها أن تجدهم لكي تضمن العودة إلى موطنها الأول بالاضافة إلى الوعاء الذي يحويها وهو من يستقبل رسالتها وقد وصل إليه كليفلاند بعد محاولات كثيرة في الاقتراب من المؤلفين الذين لهم علاقة بالكتابة وتأليف الكتب وقد قام بدور الكاتب المخرج نايت شاميلان نفسه، وبالتالي فقد أضاف لنفسه مهنة أخرى فهو المخرج وكاتب القصة وصاحب السيناريو والممثل في دور ثانوي وربما انطبق على فيلمه مصطلح عرض الرجل الواحد.
هذه الذاتية أوصلت الفيلم إلى تعقيد لا يحتمله المتفرج، وهو تعقيد لا مبرر له إلا البحث عن الغرائبية المتكلفة.. بالاضافة إلى مؤلف الكتب والذي يستقبل رسالة نارف هناك ثلاثي يضمن عودتها إلى عالمها المائي وهو يكون من المفسر دوري والشافية السيدة ديف بالاضافة إلى الحارس .
كل فرد له وظيفته ، فالمرأة الشافية تخلصها من الجروح التي أصيبت بها نهائيا والمفسر هو الذي يحاول شرح الورقة التي تحملها وهي مكونة من تسعة أحرف والحارس هو الذي يتصدى للحيوان الذي سيقوم بافتراس الفتاة ستوري.
ما هو هذا الحيوان؟ يزداد الفيلم تعقيدا في إعداده لهذه الخرافة حتى أن الصورة نفسها تضيق بكل المحتويات.
إن الحيوان المقصود يدعى سكانت وهو أشبه بالكلب وما هو كذلك بل هو أقرب إلى الدب ولكنه معشوشب الجسم ذلك أنه يظهر من تحت العشب ليفترس الفتاة المائية حتى يمنعها من إبلاغ رسالتها، ثم في النهاية يقف مانعا في طريق عودتها إلى موطنها لأنه لا يريد للعلاقة بين الماء واليابسة أن تتوطد، والشريط لا يشرح ذلك قولا أو صورة.. هناك أيضا التاتونيك وهم قردة ثلاثة يحاولون إنقاذها ولكن الفيلم لا يظهرهم.
إن مشاهد الشريط الداخلية والخارجية تنقل الحوادث والحوارات المطولة وتتراجع القيمة الفنية إلا في بعض المشاهد القليلة المتعلقة بتصوير حيوان السكانت نفسه.
ما فحوى الرسالة المحمولة؟ إنها تؤكد للمؤلف الكتب بأن أقواله التي ينشرها في كتابه ، والغريب أنه كتاب في فن الطبخ سوف يتشربها أحد القادة ويتأثر بها وسيعمل هذا القائد على التغيير والاصلاح بعد ذلك.. تعمل المرأة الشافية على علاج الفتاة الحورية ستوري وتقوم مفسرة الرسالة بدورها في انتظار الوقت المحدد لعودتها حيث سيأتي نسر كبير ويحملها طائرا بها . المهم ألا يعترض جيوان السكانت كل هذا ويعمل على قتلها.
تفسيرات غير مباشرة
يقوم الحارس ببعض العمليات اعتمادا على أقوال المرأة المفسرة ويتصدى للحيوان الغريب، بواسطة التطلع في عينيه والوقوف أمامه مباشرة، وينجح في ذلك إلى حين وصول النسر المنقذ.
إن الشريط يحاصر نفسه بمجموعة أفراد وبمكان غير واسع وبدراما لا تحتاج إلا لشخص معين يروي الحكاية لفتاة صغيرة قبل نومها وتبقى الكثير من التساؤلات مبهمة أو أن الموضوع يفرض إبهامه وغموضه.
لا نكاد نشعر في الشريط إلا بعنصر التمثيل فأمام عدد من الممثلين يبقى الشريط مقبولا ويمكن متابعته بصعوبة بالغة، فهو يفقدك متعة متابعة المشاهد منذ البداية ومع استمرار تكرار الأحداث.
الممثل بول جياماتي حافظ على إجادته التي تتكرر في معظم أدواره وربما كان هذا الشريط أول بطولة مطلقة له، بعد عدد من الأشرطة أشهرها رجل السندريلا 2005 وطرق فرعية 2004 وكوكب القردة 2001 ورجل على القمر 1999.
في بعض المشاهد تتسلل السخرية إلى الشريط وهي سخرية ليس لها مقدمات وتتعارض مع المواقف المختارة نفسها مثل المشهد الذي يصف فيه الناقد السينمائي ما يحدث له اعتمادا على ما رآه من أشرطة حيث يحاول أن يتخلص من حيوان السكانت ولكن الوحش يقضي عليه ويكون الضحية الوحيدة في الشريط.
أيضا يصر المخرج على تقديم التفسيرات بطريقة غير مباشرة في الحوار، حيث تترجم الابنة عن أمها وقوم فتاة أخرى بمحاولة التخاطب مع حورية الماء على طريقة الإشارة لينتقل المعنى بعد ذلك الى كليفلاند حيث يمنع فتاة النارف أن تبوح بأسرار عالمها الأزرق.
نعم يمتاز شريط سيدة الماء بقدرته على إثارة خيال المتفرج ولكنه خيال سمعي وأكاد أشعر بأن الموضوع يصلح لمسلسل من النوع الكارتوني أقرب منه إلى الفيلم الروائي، رغم أن زمن الشريط قد تجاوز الساعتين، نحس بوطأتهما القاسية وصولا إلى النهاية المريحة وهو أمر يمكنك مقارنته بالشريط الوحيد الناجح للمخرج إلى حد الآن وهو الحاسة السادسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق