أبناء الرجال بلا رجال
هناك أكثر من فيلم سينمائي ينتمي إلى نوعية الخيال العلمي أو أفلام الحركة المتخيلة ويتطرق إلى الدمار الذي يمكن أن يصيب الأرض والهلاك الذي يؤدي بالإنسانية إلى الاندثار قلا يبقى إلا الرجل الأخير على الأرض "أوميغا مان" أو توشك الكوارث على تخريب الحياة كما في فيلم "في المواجهة" المهم أن المخاوف من تدمير الكرة الأرضية أو انقراض الإنسان يبقى من الهواجس التي تسيطر على خيال أصحاب قصص الخيال العلمي.
تقارير ووقائع
هناك بعض التقارير العلمية الواقعية التي قد تشير إلى ملامح معينة محدودة النتائج يستخدمها العلماء في حدود ضيقة لكنها تشكل بداية تعتمد عليها أفلام الخيال العلمي ومن ذلك ما نشر في إحدى الجامعات بالدينمارك من أن الخصوبة البشرية والقدرة على الإنجاب قد تراجعت في العقود الأخيرة وبنسب تصل إلى 20% مقارنة بالعقود السابقة وهذا يعني أن العقم يهدد البشرية بحيث تصبح مسألة إنجاب طفل من الظواهر التي يفرح لها أهل الأرض ، هذه الفكرة التقطها فيلم "أبناء الرجال" اعتمادا على رواية بنفس الاسم للكاتبة البريطانية فيليس دورثي جيمس التي قدمت أول أعمالها عام 1962 بعنوان تغطية الوجه كما نقلت روايات لها إلى التلفزيون ، ولكن سينمائيا لم تقتبس لها أية رواية سابقة وكان هذا الفيلم "أبناء الرجال" 2006 وهو أول اقتباس عن رواية خيال علمي للكاتبة بعد سلسلة من الروايات البوليسية الغريبة من كتابات أغاثا كريستي وبشخصية مفتش سري اسمه آدم .
تقع أحداث الفيلم في المستقبل عم 2027 والمكان هو بريطانيا باعتبارها آخر معاقل أوربا بعد أن دب الدمار والخراب في باقي أرجاء العالم.
ولكن بسبب العقم البشري وانعدام الخصوصية فقد عاش العالم بدون إنجاب لمدة 18 سنة ويتوقع أن تكون نهاية الإنسان محتملة إذا استمرت الأحوال على ما هي عليه.
يظهر الشريط بشكل موسع الفوضى التي تصاحب الأحداث ويلتقط مشاهد مرئية كأنها مستوردة من القنوات المرئية الحديثة، فهناك حالة هيجان عامة وطوارئ تصاحب تهجير الأجانب بشكل عشوائي بعد أن يتم جمعهم في أقفاص كبيرة تمتد على طول الطرقات، كما أن الانفجارات تتوالى بدون هدف محدد، والنساء يصرخن في الشوارع على مصابهن، ورجال البوليس يندفعون إلى داخل البيوت فكأن المشهد قد استل من أحداث العراق المعاصرة أو غيرها من المناطق الساخنة في العالم.
رجل وامرأة
وهنا تظهر خلفية الفيلم وكأنها مشهدية مقصودة لذاتها، فأحداث القصة لا تشد الانتباه كثيرا بعكس مشاهد الخلفية التي تبدو وكأنها الأصل في الفيلم، بحيث يمكنها أن تسيطر على المشاهدين رغم أن أغراضها وأهدافها غير واضحة.
لكن يمكن القول بأن العصابات المنظمة هي التي تقود هذه الأحداث الدموية من باب رفض قوانين التهجير ومحاربتها، بالإضافة إلى وجود عصابات أخرى منظمة تصارع الدولة من باب المعارضة المسلحة ومطالب غير واضحة.
أما الشخصية الرئيسية فهو المراقب "زان ليبت أو تيو" المسؤول في وزارة الطاقة يلعب الدور "الممثل كليف أوين" ومهمته المساعدة في تطبيق القانون ، لكنه يدخل في قصة أخرى عندما تختطفه جماعة سرية مسلحة تقودها رفيقته السابقة "جوليان" تلعب الدور الممثلة جوليان مور، وتطلب منه القيام بمهمة خاصة، فحواها الوصول إلى امرأة زنجية اسمها ريكي وهي ممن تسعى الدولة إلى تهجيرهم إلى بلادهم الأصلية.
لا يوجد أطفال على الساحة، والعقم أصاب الرجال جميعا، والأطفال كانوا يموتون تباعا في سنوات سابقة، ومن بينهم طفل لـ"تيو" ورفيقته السابقة جوليان إلى جانب ذلك كله هناك عصابات للمعارضة تسعى أحيانا لقتل أي طفل يولد نتيجة ظروف معينة، ويبدو أن الطفل الأسود الجديد سيكون هو البشير للمستقبل العالمي، لذلك هناك محاولة لخطف أمه وهي في شهرها الثامن ونقله إلى أمريكا، باعتبارها المكان الأكثر ضمانا للحفاظ على مستقبل البشرية أو لأغراض لا يوضح الفيلم اسرارها.
في انتظار المنقذ
يبدو ابن "كي" المنتظر وكأنه المنقذ في عالم مضطرب فيه من اضطرابات العالم المعاصر الكثير، وكما أشرنا فإن الصورة التلفزية هي الحاضرة في هذا الفيلم، حيث الفضاء الخارجي هو المؤثر الذي يحبس أنفاس المتفرج بصرف النظر عن القصة الدرامية نفسها والتي يطالها بعض الارتباك والتشويش.
إن سينما اليوم هي سينما الأجواء العامة، حيث يبدو المحيط الخارجي الذي يلف الفيلم أهم من القصة نفسها، وأهم من الموضوع الذي لا يصمد أمام المنطق الخارجي أو الداخلي.
لا نفهم لماذا كل هذه التنظيمات والعصابات؟ ولماذا التشاحن والخروج عن النظام؟ وما هو الهدف النهائي؟ ولماذا يحاول بعض الأفراد دعم فكرة القضاء على مستقبل للبشرية، متمثلا في وجود طفل أو حالة هدوء واستقرار؟
يترك الفيلم الأسئلة بدون إجابات ويكمل قصته في نفس الأجواء التي تحبس الأنفاس، وفي بعض الأحيان يشعر المشاهد بأنه أمام فيلم تسجيلي فيه بعض الغموض على غرار أعمال "كين لوش" أو المخرج "مايك كاين" والفيلم فعلا فيه الكثير من الغموض غير المبرر، غير أن ما يجعل الفيلم تجاريا وناجحا، ليس الموضوع المرتبك بل الحركة التي تصاحب الفيلم من داخل الكادر وخارجه، إن الحركة لا تتوقف نهائيا وأحيانا تتم الاستفادة من المشاهد بدرجة قصوى، ومن ذلك مثلا المشهد الذي تحاول فيه جماعة معينة ثائرة على الدراجات النارية اللحاق بالمرأة الزنجية، حيث يبدو المشهد وكأنه مصور بعشرات الكاميرات.
بساعد "تيو" رفيقته ومجموعتها في العثور على المرأة الحامل وتحيلها بعد مطاردات عنيفة إلى صديقه "جاسبر" وهو شخصية غريبة الأطوار ، يعتبر معادلا للعالم المضطرب ، لأنه يعيش في حالة عدم تركيز، ويستمع إلى أغاني البيتلز وأغان صاخبة تعبر عن مرحلة معينة تعتبر مثالية مقارنة بحالة العالم العشوائية المرتبكة التي يعبر عنها عام 2027، بكل العنف والحالة الإرهابية التي تسيطر عليه، وكأننا أمام سفر القيامة بكل أوجاعه وفقدان الإنسانية العامة فيه لأن كل فرد يبحث عن خلاصه الشخصي.
إن جاسبر "يلعب الدور ببراعة مايكل كاين" يبدو بشعره الطويل وملابسه المزركشة وكأنه الرد الطبيعي على هذا العالم.
أما زوجته فهي شبه غائبة عن الوعي طوال الوقت، وعندما يظهران تختفي صورة العنف والاعتقالات المنقولة من المشهد اليومي الواقعي تقريبا من خلال ساحات بيروت والعراق وأفغانستان ومناطق في آسيا وأفريقيا.
شخصيات وملامح
هناك شخصية أخرى يحاول "تيو" أن يستفيد منها لكي ينقل المرأة الحامل إلى الخارج وهو "فيغل" الذي يظهر وكأنه محترف فنون تشكيلية، فهو يعلق لوحة كبيرة لبيكاسو في المدخل "جرنيكا" ولوحة أخرى لمايكل أنجلو في الحمام "دافيد" وفي الحقيقة هو أقرب إلى لص اللوحات أو المتاجر بها بدون أية مقاربة للحالة التذوقية الفنية والتي تنطبق عن المرحلة التي تدور فيها أحداث الشريط في غياب شبه كامل للفنون الراقية.
هذه التصورات الافتراضية هي مكملات فقط ، أما انعدام الإخصاب البشري، فهو يمثل حالة من حالات التخوف البشري الذي يرتبط أحيانا بمخاوف أخرى مثل وجود هجوم خارجي على الكرة الأرضية أو الاستخدام غير المسؤول للقنابل النووية أو تعرض الأرض والبشر للدمار الدائم.
ويبقى المنقذ هو النموذج المطروح في اللحظات الأخيرة.، غير أن هذا الفيلم يجعل المنقذ فيه صبيا أسودا نعرف أمه ولا نكاد نعرف له أبا، بل إن الأم نفسها لا تتذكر شيئا عن الأب، وإن كان هناك حديث هامشي على أن لها عشيقا هو ابن عم "تيو" وهو مختف ولا نعرف عنه شيئا.
الأب المفقود
وفي الوقت الذي ينبغي فيه الاهتمام بالأب بسبب عامل الإخصاب المتوفر لديه، يتم التركيز على المولود الجديد والأم، وهذا يعني أن الأب هو مجرد عامل مشارك وليس له دور كبير في حل هذه المشكلة التي تهدد البشرية.
وهنا يظهر الميل نحو الاتجاه الأنثوي في الكتابة ، فالكاتبة "فيليس دورتي" تنظر إلى المرأة على أنها هي المنقذة للعالم وهي العالم الأهم وتضع الرجل في الدرجة الثانية.
هذا بالإضافة إلى زعيمة التنظيم الذي يحاول البحث عن المرأة الزنجية "كي" امرأة أيضا "جوليان" ورغم أنها تموت مبكرا برصاصة من قاتلة، إلا أنها تطرح في شكل المرأة الشهيدة، المضحية بنفسها في سبيل هدف نبيل.
واعتمادا على التركيبة الأنثوية للفيلم وقبل ذلك للرواية ، فإن الشخصية الرئيسية التي يقع على عاتقها إنقاذ المرأة الوحيدة الحامل وهي "تيو" قد بدا بطلا سلبيا، فهو يجري ويلهث طوال الفيلم ولكنه لا يحمل سلاحا ولا يقوم بالضرب أو المواجهة العملية، بل يفر دائما من خصومه ومن الانفجارات التي حوله، وفي مشهد وحيد نراه يضرب أحد الرجال من المهاجرين والذي بدا أقرب إلى الأفغاني المهاجر، غير أنه يتعثر في الطريق ويكاد يسقط على الأرض ، فهو إذن بطل بدون بطولة، وإذا قلنا بأنه شخصية واقعية ، فذلك بعيد عن التصور لأن الفيلم بأسره خارج سياق الواقعية.
إن التصور الأنثوي هو المسيطر على الفيلم والمرأة هي التي تنقذ العالم بطفلها ، بصرف النظر عن الأب الهامشي المعاقب بفقدان الإخصاب إلا فيما ندر وبشكل مؤقت.
لقد ظهرت الزنجية الأم "كي" أقرب إلى مريم العذراء بمنقذها ومنقذ العالم الذي ينتظره الجميع ويحرسونه ويهربون به بعد أن تم توليده من قبل الرجل أيضا "تيو" الذي قام بعمل بطولي بطريقة معاكسة عندما عمل في مجال التوليد – تأنيث الرجل – بعد أن ظل لفترة طويلة حاميا وحارسا لامرأة حامل تخفي حملها عن الجميع بأغطية لكي لا يتم قتل جنينها.
ربما كانت المجموعات الأصولية الإرهابية، بحسب التصور الذي جاء به الفيلم هي السبب في تدمير المستقبل واغتيال النساء الحوامل وقتل الأطفال ، ولكن كل ذلك لا يقوم على تصور منطقي إزاء فقدان الخصوبة التي سيطرت على العالم، والتي ليس لها حل وليس لها سبب مباشر، إلا القول بتلك المشكلات البيئية مثل تلوث العالم أو الإشعاعات والمخلفات التي تفرزها التجارب العلمية كل يوم، مما يترك أثرا سلبيا على الفاعلية البشرية وتراجع نسبة الولادات.
مخرج وممثلون
ورغم أن المخرج الفونسو كيورون قد قدم جهدا إخراجيا محترفا يتمثل في خلق أجواء مرعبة طوال الفيلم قادرة على الإيقاع بالجمهور، وهذا يختلف تماما عن فيلمه "الأماني الكبيرة.. 1998" وفيلمه الشهير هاري بوتر – سجين أزبكان 2005، رغم كل ذلك فإن العمل الأساسي قد قام به طاقم التصوير متمثلا في مدير التصوير إيمانويل ليوبسكي صاحب فيلم العالم الجديد، وباقي الأفراد من مصورين وفنيي إضاءة وهم جميعا قد قدموا أجواء بصرية فائقة تعتبر هي أساس الفيلم، مقارنة بباقي المؤثرات الصوتية أو في تقارب لافت للنظر للديكورات الخارجية التي أنقصت من قيمة الحوار وجعلته يتراجع إلى الخلف.
أما بالنسبة للممثلين فقد برز بشكل واضح "مايكل كاين" في دور "جاسبر" الذي يتجاسر ويتباهى بشكله وأسلوبه وينطلق في حركته البسيطة وينادي صديقه "تيو" أميغو ويحرس زوجته الهادئة مع تقديم نكات قديمة لا تضحك وسماع أغان بعيدة عن زمنها، وهو فوق ذلك رجل ساخر ومصمم للأفلام الكرتونية ويعيش حالة التقاعد بتكاسل وهزل، والحقيقة أن اختيار هذا الممثل لمثل هذا الدور هو مجازفة محسوبة، فهو من الجيل القديم- أول فيلم له "جحيم في كوريا 1956" لكنه يمارس مهنة التمثيل بلا توقف ويكسب الأدوار فيلما بعد فيلم.
أما جوليان مور فقد مرت سريعا في الفيلم ولم تلفت الانتباه كثيرا ، لكنها قدمت دورها ببعض الرصانة وجعلته قريبا من الممكن رغم ذلك فإن شكلها لا يتناسب مع الزعامة المفترضة، والدور لا يصل إلى مستوى أدوارها الأخرى مثل قوانين الجاذبية – الساعات – أرض الحرية – اليد التي تهز المهد – نهاية المسألة.. وغير ذلك من الأفلام.
يبقى بطل الشريط وهو بطل سلبي كما قلنا، يتميز بأنه إنجليزي يتناسب مع الدور دراميا لكنه يظل ذلك الممثل الجامد التعبير الذي لا يلون في الأداء، بل يحرص على أن يكون كما هو مستفيدا من صوته بالدرجة الأولى ومتماسكا إلى النهاية في إيقاع واحد، إنه الممثل كليف أوين الذي اشتهر ببعض الأدوار مثل الملك آرثر – الاقتراب – رجل الداخل – وهو هنا يكسب تجارب جديدة ولكن في حدود ضيقة، حيث نراه يفتقد الجاذبية اللازمة للاقتراب من الجمهور، وخصوصا وأن الفيلم لم يهتم كثيرا بصناعة تركيبة ثنائية ملائمة بين البطل والبطلة، وهو أمر له أهمية خاصة في نجاح أي فيلم.
الأنثى هي المنقذ
كما قلنا، فإن فيلم "أبناء الرجال" يعتمد على الأجواء العامة البصرية بالدرجة الأولى، وتبقى القصة مجرد حدث بسيط لا يحتمل التحليل ولقد نجح الفيلم في إضافة الأجواء المناسبة التي سيطرت على الموضوع وعلى الممثل ولكن يبقى العنوان مجرد إشارة للحدث مرتبطا بالرواية الأصلية، ولا يعبر فعليا عن التصورات المتخيلة التي تضع الافتراض المتخيل في المقام الأول، ولا يهم إن كان قد تحقق ذلك فعليا أم لا!.
في آخر الفيلم وبعد مطاردات مطولة يتمكن "تيو" من إنقاذ المرأة الزنجية وكما تم رسم خريطة الانقاذ، فإن الانتقال سيكون من اليابسة إلى الماء بواسطة قارب صغير، يخرج من نفق مظلم إلى النور، حيث تترقب السفينة بعيدا الراكب المنتظر والذي سينقذ العالم وهو عبارة عن رضيع صغير، وهو أيضا أنثى ومعه الأم بينما يموت الراكب المساعد "تيو" أيضا في النهاية ، لأنه مجرد ذكر عليه أن يغادر الساحة بعد تقديم الحماية، مثلما غادرها الأب الرئيسي ورحل لأن دوره هو التصحيح السريع العابر، وكأن فيلم "أبناء الرجال" يتحدث عن أبناء بلا رجال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق