الثلاثاء، 2 ديسمبر 2008

كوبولا في شريطه الأخير


خارج حدود الزمن والهوية


لم يقدِّم المخرج المعروف فرانسيس فورد كوبولا شريطا من اخراجه لمدة تزيد عن عشر سنوات فقد كان آخر اشرطته بعنوان (صانع المطر 1997) وهو شريط لم يحقق نجاحا على المستويين النقدي والتجاري ولقد حدث ذلك ايضا في شريط سابق له بعنوان (جاك 1996) ولقد لقي نفس المصير ومع الاختلاف قليلا شريط بجراع ستوكر دراكولا 1992) وكل تلك الاشرطة المذكورة لم تكن في مستوي انتاجه المعروف حتى قليل بأن هذا المخرج قد قدَّم كل ما عنده وليس هناك ما يمكن ان يضيفه .
اشرطة الأمس :
هذا الرأي فيه بعض الحقيقة فمن غير المتوقع ان يأتي كوبولا باشرطة جديدة في مستوى ثلاثية (العراب) أو في مستوى شريطه المتميز (القيامة الآن 1979) او على الأقل في مستوى شريط (المحادثة 1974) أو شريط (نادي القطن 1984) أو شريط حدائق الصخر 1987) أو شريط (رجال المطر 1969) والسبب يرجع الى أن هذا المخرج قد اجتهد وقدم جهده باندفاع وحماس شديدين وهو أمر نفتقده في أشرطته الأخيرة الخالية من القضايا ذات الحساسية الخاصة .
أثناء ذلك وربما من قبل اشتهر هذا المخرج بأنه كاتب جيد للسيناريو كما أنه منتج كثيرُ العمل يعمل في السينما والمرئية ولقد ظهر في أكثر من دور صغير وله اهتمامات خاصة بالموسيقا والنشر ولقد اسفرت هذه الاهتمامات على فوز أشرطته بجوائز عديدة منها جوائز أوسكار وأخرى من مهرجانات عالمية مثل مهرجان كان السينمائي الذي فاز بسعفته الذهبية مرتين غير متتاليتين .

شريط جديد :
في العام الماضي انتهى المخرج (فرانسيس كوبولا) من انجاز شريطه (ضد الشباب) وقد عرض في أكثر من مكان ومن ذلك مهرجان برلين السينمائي حيث يكفي ان يعلن هذا المخرج عن إنجاز أي شريط حتى تمتد إليه الابصار متطلعة لما يمكن أن يأتي من جديد .
في شريط (ضد الشباب) أو شباب ضد الشباب 2007) نكهة متميزة لايمكن أن يعمل على تحقيقها الا مخرج في حجم خبرة وثقافة وتجربة كوبولا وبالتالي فإن النظر الى هذا الشريط لابد أن يراعي هذه الاعتبارات الخاصة فالشريط هو نتيجة لعدة تجارب سابقة وهناك دافع للعمل والاستمرارية يتولد ويتجدد رغم رحلة العمل الطويلة والتي بدأت عام 1962 بشريط (هذه الليلة بالتأكيد) .
اقتباس سينمائي :
مثلما تقتبس سابق كوبولا بعض الروايات يلجأ هذه المرة الى الاقتباس ويمد يده الى قصة قصيرة فيها الكثير من الغرابة بنفس العنوان لكاتب من رومانيا (ميدسيا إلياد 1907 ــ 1986) وهو مختص بدراسة العقائد والأديان وله كتاب شهير مترجم بعناون (تاريخ المعتقدات الدينية والأفكار 1932) وايضاً كتاب (تحليل اليوجا) ولق سافر للهند لدراسة بعض المعتقدات وكذلك اللغة السنسكريتية) وكل ذلك قد انعكس على قصته هذه والتي يمكن اعتبارها رواية قصيرة فيها فكر وتأمل أكثرمنها قصة أحداث ووقائع .

بداية الاحداث تقع في رومانيا عام 1939 والشخصية الرئيسية تتمثل في الاستاذ (دومينيك) ولقد أهتم السيناريو بشخصية حتي أنه صار محور الشريط ورغم وجود ميل لتصويره في اطار كلاسيكي من حيث رسم معالم الشخصية كما حدث عند المخرج في شخصيات أخرى مثل (كورتر) في (القيامة الآن) وكورليوني في العراب إلا أن هذه الشخصية تأملية تنزع نحو الفكر وليس الأحداث الواقعية الفعلية كما أن الأجواء العامة تشكل خلفية من التوثر النفسي وسيطرة الاحباط الفردي والغريب هنا أن الشخصية شبه معزولة عن محيطها الاجتماعي فترقب الحرب ودمارها ومشكلاتها ليست لها انعكاس مباشر على الشخصية والتي تترك حسب النوازع النفسية في عالم أقرب الى ذلك صنعه الروائي كافكار وهذا الانعزال الفردي سببه الاحباط اليومي في الحصول على تقرير معين أثناء العمل في التدريس بالنسبة لاستاذ في حجم (دومينيك) إنه يعمل من أجل تأليف كتاب في مجال أصول تكوُّن اللغة الأولى ولكنه لم يصل الى انجاز ما يريد مما جعله محبطا واسيرا لفكرة الانتحار ولكن وفي مدينة بوخارست تصيبه صاعقة بالقرب من محطة القطار فيتحول الى حطام بشري وبمساعدة دكتور متميز (ستانسيوليسكي) قام بدوره بنجاح ملحوظ الممثل (برونوقانز) اجتاز المصاعب الطبية والحروقات العامة والتي جعلته صورة شكلية (من المريض الانجليزي) .
رجل متميز :
عقب ذلك وربما بسبب الصاعقة تحول دومينيك الى رجل يتميز بمواهب غير عادية وعاد إليه شبابه بعد أن شارف فعليا على الثمانين وقد تجلت مواهبه في القراءة السريعة جدا للكتب وقراءة افكار الناس وتوقع بعض الأحداث المستقبلية والقدرة عقليا على التحكم في المعادن ولكن الذاكرة مفقودة تقريباً .
بسبب هذه الحالة غير العادية يلجأ الشريط إلى مقدمات وأسلوب في التصوير مربك من حيث سيطرة الاعلام وغرابة السلوك وتقديم شحنة من الغموض تجعل المشاهد بعيداً عن المشاركة او الإقتراب من الشخصيات ولاسيما الشخصية المحورية .
حيث ان القوات النازية هي المسيطرة على رومانيا في تلك الفترة فلقد حاول بعض المتعاونين معها تقديمه الى المؤسسات الرسمية الالمانية لغرض دراسته وتحليل شخصية جسديا وعقليا وربما الاستفادة منه ومن قواه الخفية لمصلحتهم في حربهم ضد الحلفاء .

فتاة غريبة :
أثناء هروب دومنيك إلى سويسرا يلتقي بفتاة (لورا) وهي شبيهة بخطيبته السابقة تتعرض إلى حادثة في الطريق تنفد ذاكرتها فتتحكم فيها قوى خفية معلنة عن نفسها باعتبارها تابعة الى أحد حكماء الهند القدامى وهي تتكلم السنسكريتية ويحاول دومينيك الاستفادة منها بتسجيل حديثها ويجد فيها صورة خطيبته وينتقل معها الى عدة مناطق منها الهند والبحر المتوسط وكرواتيا وروما وهذه الانتقالات كانت من العوامل السلبية بسبب تشابك الخطوط الدرامية والتي تبدأ دائماً في كل مرحلة من جديد واظن هنا بأن كتابة السيناريو لم تكن بالمستوى المطلوب حيث سيطر التشويش على الأحداث وفقدت الشخصيات المسارات التي ينبغي لها أن تسير فيها وخصوصا عند اللجوء الى الحوارات المصطنعة عندما تضاف شخصية شبيهة بدومينيك تحاوره في القضايا الفلسفية واحيانا تكون أقرب الى الشيطان الذي يقويه بالبحث عن السهل والمصلحة الشخصية وتدرك دراسة اللغة عند الإنسان القديم.
لغة تشفير :
في آخر الشريط يترك دومينيك اللغة الانجليزية ليعمل بلغة تشفير خاصة يقول الشريط بأنها ستستخدم عام 2010 وتحل رموزها بواسطة الحاسوب لاشك بأن هناك انعطافات ومتغيرات وأحداث جانبية وجميعها تجعل من الشريط حالة خاصة والنجاح كان بالدرجة الأولى الى اختيارات الموسيقا والتي كانت أفضل ما في الشريط بالاضافة إلى التمثيل ولاسيما الممثل (تيم روث) في الدور الرئيسي وهذا ربما يكون أهم دور له بعد أن قدم سابقا الكثير من الأدوار الجيدة مثل : فندق المليون دولار قصص شعبية قتل الملك الأرقام المحظوظة ــ الخبز والزهور ــ الماء المظلم ــ في الشريط ايضا مشهد واحد صغير للممثل (مات ديمون) وهو مشهد ليس له ما يبرره أما الدور الأهم فهو للممثلة (الكسندرا ماريا لارا) والتي قامت بدور مزدوج (فيرونيكا الخطيبة الأساسية وكذلك الشبيه لها لورا) .
ربما أضعف ما في الشريط نهايته فقد اختار السيناريو ربما نقلا عن القصة القصيرة نفسها أن يموت دومينيك وحيداً في أجواء ثلجية هي نفس الأجواء التي بدأ بها الشريط .
كما سبق وذكرنا فهذا الشريط لايقدمه الا مخرج في حجم كوبولا لكنه يبقى مجرد إضافة إلى رصيد مخرج يعمل باستمرار على فتح أبواب مغايرة رغم أن هناك أبواب يصعب فتحها والتعامل معها .

ليست هناك تعليقات: