الجمعة، 5 ديسمبر 2008

صعود وسقوط رجل بلا بداية ولا نهاية







فيلم يكاد يشبه الأفلام التى تشبهه


لا شك أن المخرج المعروف "ريدلي سكوت" يعد من المخرجين اللامعين فى عالم السينما، ليس بسبب كونه من أولئك المخرجين أصحاب الاتجاهات الفنية والتيارات السينمائية التى تؤكد على الرؤية الفكرية والفنية، ولكن لأنه مخرج قادر على التعامل مع السينما فنيا ومع الجمهور فى نفس الوقت، وله نجاحات واضحة فى شباك التذاكر تجعله من أقرب المخرجين الى شركات الانتاج التى تراهن على اسمه قبل كل شىء.

من أهم ميزات هذا المخرج أنه لا يتردد فى تقديم كل الأنواع السينمائية، فلقد اخرج أشرطه الرومانسي والحركة وأشرطة الرعب والخيال العلمي وأشرطة المغامرة والطريق والأشرطة التاريخية. وفى هذا الصدد يذكرنا فعليا بالمخرج الامريكى "مايكل كيرتز 1962 ـ 1988".

كما أن ريدلى سكوت يتصف بنزعة ملحمية تسيطر على أشرطته، وهو فى هذا الجانب أقرب الى المخرج "ديفيد لين ـ 1908 ـ 1991" مع ميل للمخرج الأول نحو أشرطة المغامرة ذات الطابع الحركي الموجهة الى الجمهور العادى بالدرجة الأولى.

لقد قدم "ريدلى سكوت" عددا من الأشرطة، أهمها "الشفرة الحادة 1979 ـ الغريب 1979 ـ شريط "1942 ـ 1992" ـ المصارع 2000 ـ هانيبال 2001 ـ مملكة السماء 2000 ـ سنة طيبة 2006، وهناك شريط متميز أخرجه عام 1989 وهو بعنوان "تيماولويس" ومن المعروف أنه بصدد انتاج واخراج شريط بعنوان "طرابلس" عام 2008.

فى بداية الشريط نرى مشهدا "لفرانك لوكاس" وهو يشعل النار فى أحد الأفراد، بينما رئيسه "بومبي جونسون" يزداد إعجابه به، فيقربه منه سائقا وحارسا ومساعدا له، وهو أمر اتاح لفرانك فرصة اكتساب معرفة جديدة فى التعامل مع كل أصناف المخدرات وخصوصا الهيروين.

يبدأ الشريط فعليا عندما يموت بومبى جونسون بنوبة قلبية مفاجأة، ويتولى لوكاس تسيير العمل من بعده، ورغم أن رجل العصابات الأول كان ناجحا فى توزيع الموت على الجميع تقريبا، حتى انه كان يسمى "روبن هود حي هارلم"، إلا أن لوكاس اختار طريقا مختلفا، فقد قطع صلاته بالمافيا باعتبارها طرفا وسيفا لابد منه، وسافر الى جنوب شرق آسيا، والتقى فى تايلاند بالمزارعين الذين يزرعون حبوب المخدرات وعقد معهم صفقات مشبوهة بأسعار عالية وكميات كبيرة، وبواسطة أحد اقربائه تمكن من النفاذ الى القوات المسلحة الأمريكية، وخصوصا المتورطة فى حرب فيتنام، وعن طريق طائراتها امكن استجلاب كميات كبيرة من المخدرات، ليتم توزيعها بأسعار قليلة، أقل من الأسعار السابقة، وكلف بكميات كبيرة جدا، حتى أن الأرقام تقول بأن دخل لوكاس فى العام الواحد يتعدى المليون دولار.

لم يكن فرانك لوكاس إلا زنجيا فقيرا جاء من كارولينا الى نيويورك بعد أن زرعت عصابات "الكوكس كلان" الرعب في المناطق الجنوبية وقتلت أحد أقربائه وبعد نجاح لوكاس أحضر أمه وأخويه، وصار الاخوة يعملون معه فى مجال التوزيع عن طريق محلات تجارية موزعة فى اطراف المدينة، أما الأم فقد اشترى لها قصرا خياليا لا يضاهى.

لقد اعتمد الشريط على تفصيلات حقيقية وكانت نسبة المتخيل فى الشريط محدودة أساسها التركيز على شخصية لوكاس وصلابته وبرودة أعصابه، فضلا عن أسلوبه التجارى الناجح، ولو كان الأمر يتعلق بتجارة غير مشروعة.

هناك تركيز واضح على شخصية لوكاس وخطها الدرامي الذى نجده يتجه حينا الى أسرته والتى يسعى للحفاظ عليها، فهو يقدم لإخوته باستمرار الأساليب التى تكفل النجاح، وحينا نجده يضرب إخوته بسبب تقصيرهم فى حماية أنفسهم من تحركات البوليس، ومع أنه يتزوج من فتاة من "بورتريكو" ـ لعبت الدور الممثلة "ليمازي نادل" إلا أن الزوجة ظلت بعيدة ـ كذكلك الأم ـ عن طبيعة عمله ـ وهذا الاعتبار الأسرى نجده واضحا من خلال موائد الأكل العائلية، وكذلك التمسك بالمظهر الدينى، والتردد على الكنيسة كل أسبوع.

أما الأهم فهو الصرامة الذاتية التى تضبط النفس ـ ومن المشاهد الدالة على ذلك، استخدامه لمعطف غالى الثمن اشتراه ليظهر به فى احدى الحفلات، ولكن هذا السلوك لا يتفق مع وجهة نظره فى عدم لفت الانتباه الى موارده المالية، مما يجعله يلقى بهذا المعطف الثمين جدا فى النار، ربما عقابا له عن تلك الرغبة المعبرة عن حب الظهور فى مجتمع الاغنياء أفضل ما فى الشريط ذلك النزوعى الواقعى لتجسيد الأحداث، ولاسيما مشاهد حى هارلم، والمكان المتسع المعد لاعادة تجهيز المخدرات بواسطة "فتيات يعملن عرايا" لكي لا يسرقن شيئا، ولكن لا يمنع ذلك من القول بأن الحركة فى الشريط تأتى احيانا فيها الكثير من المبالغة، ومن ذلك المشهد الذى يقتل فيه لوكاس أحد منافسيه أمام الناس جميعا ليكون ذلك مجرد درس يقدمه أمام إخوته.

أيضا مشاهد المداهمة واستخدام الاسلحة والطلقات الكثيرة والتى لا تتفق احيانا مع طبيعة السرد الهادى أو طبيعة الأحداث نفسها.

من الواضح أن الشريط مكون من خطين دراميين، ربما كتبا بشكل منفرد: ـ

الأول يقوده لوكاس والثانى ريتشي. إنها لعبة جديدة بين الشرطي ومرتكب الجريمة أو بين التحري والسارق والمهرب، أو هى لعبة القط والفأر من جديد مع بعض الاختلافات الشكلية.


سنرى في الشريط أن لوكاس قد نجح فى رشوة رجال من الجيش الأمريكي حتى يمكنه أن يجلب طرود المخدرات عن طريق الطائرات الحربية المحملة باكفان القتلى من الامريكان فى فيتنام، بل نجد المخدرات نفسها قد وضعت في التوابيت، وظل هذا خفيا لسنوات، إلى أن جاءت اللحظة التي بدأ فيها الشك يساور رجل التحري "ريتشي" بعد التتبع لبعض العمليات من البداية إلى النهاية.

ولقد بدا واضحا حضور الجرح الفيتنامي في الشريط من خلال ما تعرضه الشاشة الصغيرة من أشرطة في أكثر من مكان تمر عليه الكاميرا، حيث أن هذه النقطة هي المدخل المهم الذي ساعد على الارتفاع بشخصية لوكاس إلى النجاح.

ربما شعر المشاهد بأن هناك إضافات غير مبررة للخط الدرامي الخاص بشخصية ريتشي، خصوصا فيما يتعلق بزوجته التي تطلب منه - إثر الطلاق - أن يترك لها ابنهما ليعيش معها بعيدا، لكنه يتمسك بهذا الابن، رغم حياته المتقلبة وكثرة الأصدقاء المتدخلين في حياته من رفاق العمل.

لكن رغم ذلك فإن نزاهة الشرطي تتأكد من خلال هذا الطرح، فهو وفي اللحظة الأخيرة وأثناء انعقاد المحكمة الخاصة بحضانة طفله، نجده يتراجع ويوافق على ترك طفله لصالح مطلقته.

هناك شخصيات حاضرة أيضا لدعم مسار الشخصيتين لوكاس وريتشي ومن ذلك الشرطي "بيترو سكاليا" المختال ومحب العنف والذي يلجأ إلى ابتزاز لوكاس للحصول على رشاوى أكثر ويدخل معه في انتقام متبادل ويؤدي إلى هجوم الشرطة على بيته ومصادرة أمواله التي تقدر بالملايين، كما أن الممثل "جوش برولنين" الذي لعب دور هذا الشرطي قد كان من أبرز الممثلين.

لقد كان "ريتشي" من رجالات الشرطة المخلصين الأوفياء لعملهم، ولا يتعلق الأمر بإهمال اسرته فقط، ولكن يتكرر في الشريط تقدير ما قام به من عمل متميز، عندما أعاد مبلغ مليون دولار إلى خزانة إدارة الشرطة بعد أن صادرها.. وهو يعد ظاهرة غير عادية لأن لوكاس استطاع أن يرشو أكبر عدد من الشخصيات ومن بينهم من هو في الشرطة أو الجيش لكي يضمن تمرير شحنات المخدرات وتوزيعها.

في نهاية الشريط سوف نجد مشهدا سبق لنا أن شاهدناه من قبل في شريط "العراب" على الأقل، شاهدناه جزئيا أو يتمثل المشهد في خروج لوكاس مع أمه وزوجته من الكنيسة التي يصر على الذهاب إليها أسبوعيا، مثلما يحتفل بعيد الشكر، ويعكس نظرته الأخلاقية على الشكليات الخارجية فقط، بينما تبقى أعماله الفعلية معاكسة لذلك.

إن شخصية لوكاس هادئة، لا يميل إلى الصراخ، ونراه يردد دائما بأن من يصرخ أكثر في الغرفة هو الأضعف دائما، ونجد أن له منطقا خاصا يكشف عنه بعد اعتقاله في مواجهة بينه وبين ريتشي، حيث لا مكان للرشوة التي يهزم بها الآخرين.

يتجه لوكاس نحو الاعلان عن أسماء الذين تعاونوا معه من رجال الشرطة ويحصل بذلك على تخفيض في سنوات سجنه ، ليخرج بعد ذلك من السجن، تاركا كل مشروعاته السابقة وراء ظهره ، بينما يقضي بعض خصومه مددا أطول في السجن.

لعل ابرز ما في الشريط تلك النزعة نحو الواقعية، وما فيها من روح انتقادية، ولولا بعض مشاهد الحركة المبالغ فيها مثل مشهد الأسلحة وطلقات الرصاص وتكسير الأبواب وإلقاء الذعر في نفوس السكان، وهو المشهد الأخير في الشريط، ولولا ذلك لقلنا بأن الشريط أبعد ما يكون عن أشرطة المغامرة، ولا شك أن الشريط يذكرنا ببعض الشرطة التي اقتربت من هذه "التيمة" مثل شريط "نادي القطن" لفرنسيس كوبولا 1984، وهو أيضا عن عصابات تهريب المخدرات في حي هارلم، وهناك أيضا شريط "سربيكو" للمخرج سيدني لوميت إنتاج عام 1973 وفيه نرى شرطيا مثاليا يواجه عصابات لا ترحم.

وإذا جاز لنا أن نذكر بعض الإيجابيات ، فلابد من الإشارة إلى الممثل الرئيسي "دينزل واشنطون" الذي يخطو نحو التفوق من شريط إلى آخر وهو أمر أوصله إلى أن ينال جائزة أوسكار أفضل ممثل عن شريط "يوم التدريب" 2001 بالإضافة إلى أشرطة أخرى مثل مالكولم أكس 1992 - فيلالفيا 1993 - البركان 1999 - رجل على النار 2003 - جون كيو 2002 - المرشح المنشوري 2004 - رجل الداخل 2006.

أما الممثل "راسل كرو" فقد خبا نجمه قليلا ولكن هذا الدور أعاد إليه تألقه بعد نجاحه في شريط "الساعة 3:10 إلى أيوما - 2007" وقبل ذلك "رجل السندريلا 2005 - السيد والقادة 2004 - عقل جميل 2001 - الداخل 1999 - المصارع 2000 - السريع والميت 1995".

إن شريط "المهرب الأمريكي" يحترم عقلية المشاهد، ""ورغم إحساسك بأنك قد شاهدت مثله من قبل، إلا أنه لا يكاد يشبه الأفلام التي تشبهه!!"".

ليست هناك تعليقات: