الأربعاء، 3 سبتمبر 2008

حول فيلم المترجمة للمخرج سيدنى بولاك



كثير من العنف.. قليل من السياسة

أكثر من مخرج حاول أن يتحصل على موافقة رسمية للتصوير داخل أروقة هيئة الأمم المتحدة بنيويورك لكنه لم يوفق الى ذلك، وأشهر من حاول وفشل المخرج المعروف "الفريد هيتشكوك" الذى احتاج لمثل هذا الفضاء عند تصويره لشريط "الشمال ـ الشمال الغربي ـ 1959".

نعم لقد تم تصوير العديد من الأشرطة الوثائقية داخل مبنى هيئة الأمم، لكن على صعيد الأشرطة الروائية لم يتم تنفيذ أي شريط فى السابق، حتى جاء المخرج سيدنى بولاك وتحصل على هذا الامتياز، فكان بالتالى شريطة "المترجمة إنتاج 2005" والذى يعرض بنجاح فى معظم أنحاء العالم.

لقد اجتمع فى شريط "المترجمة" أكثر من عامل مساعد على النجاح التجاري النسبى، ومن ذلك وجود ممثلة ونجمة مثل "نيكول كيدمان" فى الشريط، والتى تتألق من شريط الى آخر (عيون ضيقة على اتساعها ـ الآخرون ـ صورة سيدة ـ طفلة عيد الميلاد ـ الجبل البارد ـ الميلاد ـ الصبغة الإنسانية ـ دوقفيل ـ وغير ذلك من الأشرطة".

العامل الثانى وجود ممثل فى حجم (شين بن) والمعروف بحسن اختياراته (اغتيال ريتشارد نيكسون 2004 ـ 21 غرام 2003 ـ النهر الغامض 2003 ـ انا سام 2001 ـ قبل قدوم الليل 2000 ـ الخيط الأحمر الرفيع 1998 وغير ذلك من الأشرطة.

ورغم أن "شين بن" ليس من نوعية "النجم" إلا أنه نجح فى تقديم أشرطة متفق على قيمتها الفنية تمثيلا وإخراجا وإنتاجا.

العامل الثالث المهم فيتمثل فى عودة "سيدنى بولاك" الى عالم الإخراج، وهو المخرج الذى قدم عشرات الأشرطة الجيدة، والتى منها (قلوب عشوائية 1999 ـ سابرينا 1985 ـ هافانا 1990 ـ العقل والعاطفة 1995" وغير ذلك من الأشرطة.

أما العامل الرابع والذى له أهمية خاصة فهو مكان التصوير، فلولا القاعة الرئيسية بهيئة الأمم المتحدة، ووضعية أكشاك الترجمة والممرات والدهاليز الداخلية وكذلك الحديقة والمدخل الرئيسي، لولا كل ذلك ما كان لهذا الشريط الأثر الفاعل فى جذب الجمهور. وكل ذلك بالطبع مسألة تقديرية ليس الا.

هذه إذن مجموعة الافتراضات المبررة لنجاح الشريط، لكن لابد من القول بأن هناك أسباب أخرى لها علاقة بالتعامل مع الحبكة والإثارة وجودة الصياغة والسرد، وهى عوامل أسهمت فى تشكيل النجاح، غير أن الشريط رغم ذلك لم يرق الى مستوى الأعمال الرفيعة والتى قدم بعضها المخرج فى سنوات سابقة وفى تجارب مماثلة أو مختلفة.

يعتمد شريط (المترجمة) على الإثارة والحركة، لكنه ليس من النوع البوليسي، بل هو أقرب الى الشريط السياسي، يتعامل مع السياسة من الخارج، وفى الإطار العام، ليساير ما يطرح فى بدايات هذا القرن من أفكار حول السلطة والديمقراطية والفساد السياسي وحقوق المواطن فى بعض الدول والأنظمة.

وإذا كان المخرج سيدنى بولاك قد أقترب من الأشرطة السياسية التى تنتقد السلوك السياسي لبعض الدوائر الاحتكارية المتلاعبة بالحقائق والمبادىء فى سبيل تحقيق مصالحها، وهذا ما يعرف بالسينما السياسية فى السبعينيات، وأهم ما قدمه شريطه "ثلاثة أيام الكوندور ـ 1975" وقبل ذلك الشريط الاجتماعي الانتقادى" انهم يقتلون الجياد" أليس كذلك؟ 1969 ثم شريط "توتس ـ 1982" وأخيرا شريط "الشركة 1993"

إذا كان الأمر كذلك سابقا، فإن الأمر قد اختلف مع هذا المخرج فى أشرطة بداية القرن الواحد والعشرين، والتى يفترض أن تنظر الى السياسة من جوانب أخرى أساسها اختفاء حدة الصراع بين المذاهب والاتجاهات السياسية وانتهاء الحرب الباردة لذلك كان الشريط الجديد معتمدا على الإثارة والتشويق والحركة، بصرف النظر عن نوعية الغطاء السياسي المستخدم.

أعد شريط "المترجمة" عدد من الكتاب، اثنان منهم لقصة الشريط أو فكرته وهما: "مارتن ستلمان وبريان وارد".

أما كتابة السيناريو فقد شارك فيها ثلاثة كتاب وهم: ـ

تشارلز راندولف صاحب شريط (حياة دافيد غيل) والكاتب "سكوت زانك" صاحب شريط "تقرير الأقلية" وأخيرا "ستيفن زيلن" صاحب شريط "عصابات نيويورك".

وبهذا العدد يمكن اعتبار الشريط من النوع المصطنع الذى ربما احتوى على شىء من الحرفية،إلا أنه يفتقد التلقائية فى موضوعه. وهذا ما حدث فعلا منذ بداية الشريط الى نهايته، يمكن القول بأنه لولا التقنية العالية والمهارة والخبرة التى يتجلى بها المخرج سيدنى بولاك ما أمكن ان يظهر الشريط بالصورة التى ظهر عليها فى شكله النهائي.

تبدأ خيوط القصة فى أفريقيا منذ أكثر من 28 سنة، باعتبارها خلفية للأحداث التى تشهد نهايتها فى مبنى هيئة الأمم المتحدة.

الا أن البداية الفعلية المحركة للوقائع، تتحدد فى عودة المترجمة "سيلفيا" الى كشك الترجمة داخل مقر هيئة الأمم حيث تعمل، وتحديدا فى القاعة الرئيسية، لجلب احتياجاتها الخاصة والتى يبدو أنها بالصدفة قد أهملتها لتعود إليها، ومن ذلك آلة العزف (الفلوت) والتى تعود الى أصول أفريقية.

أثناء ذلك تتسلل الى إذن المترجمة كلمات افريقية عن طريق أدوات الترجمة، هي عبارة عن حديث هامس بين شخصين بلغة افريقية محلية وجوهر الحديث ضرورة قتل الرئيس قبل مغادرته للقاعة الرئيسية.

بعد ذلك تأتى الإجابة وما بها من تفاصيل، فالرئيس المقصود هو "زوانى" والدولة هى "موتابو" واللغة المحلية هى "الكو" وكل التعبيرات السابقة مبتكرة ومتخيلة.

ثم نعلم بعد ذلك بأن المترجمة "سيلفيا ـ نيكول كيدمان ـ هى من أصول افريقية فهى من أب افريقي وام أوروبية، وهى شقراء الشعر بشىء من الحمرة! وهى تتقن لغة "الكو" لأنها من نفس بلد الرئيس المقصود، وقد عاشت صغيرة فيها، وتعرضت عائلتها الى الابادة بسبب لغم ارضي فى مزرعة الرئيس زوانى، فضلا عن تخلصه من مصور هو أخيها كما أبرزت ذلك الصور الفوتوغرافية التى بدأ الشريط بمشهد دال عليها فى أفريقيا.

إن سيلفيا نفسها لديها دوافع الانتقام الشخصي، لكنها تصبح مطاردة من قبل أفراد مجهولين، لأنها على علم بمؤامرة الاغتيال المدبرة. وهكذا يصبح الحاكم زوانى هدفا يحاول أكثر من طرف التخلص منه، وفى مبنى هيئة الأمم المتحدة نفسها، بعد أن يلقى خطابه الذى يدافع به عن نفسه، حتى لا يكون عرضة للاستجواب الرسمى من قبل المحاكم بسبب الاعتداء على أفراد من شعبه وممارسته للتسلط والحكم الفردى وانتهاكه لحقوق الإنسان.

لسنا ندرى لماذا يكون الاغتيال فى مبنى هيئة الأمم المتحدة تحديدا وهو المكان الأصعب أمنيا، إلا أن الشريط يتدارك الأمر بمهارة ويجعل منفذ العملية من اتباع الرئيس الذين يصطحبونه الى داخل المبنى.

هناك مشاهد مصورة فى الشارع العام، وأهمها مشهد انفجار القطار الصغير، والذى كان يهدف الى قتل المترجمة خوفا من أنها ستكشف السر وهذا ما أدى الى تعيين عميل سرى لحمايتها ومرافقتها ـ "لوبين" ـ ومعه مساعده وفرقة خاصة لها رئيس مشرف (قام بالدور المخرج نفسه).

أيضا هناك حوارات مطولة بين العميل السرى والمترجمة، ومثل أي شريط بوليس لحد ملاحقة للشاهد الوحيد بقصد التخلص منه، وهناك سوء تفاهم بين المترجمة والشرطي المدافع عنها، فهو يشك فيما تقوله مبدئيا، ثم يقتنع بتصريحاتها بعد ذلك.

يحاول الشريط أن يخلق أرضية مأسوية للشخصيتين الرئيسيتين، فهذه "سيلفيا" قد فقدت عائلتها بسبب الاضطهاد السياسي، وهذا "لوبين كيلر" قد فقد زوجته الراقصة فى حادث سيارة بعد أن هجرته وفرت مع عشيقها الراقص ايضا.

ليست ثمة شخصيات كثيرة فى الشريط، لكن الحضور الجيد للممثلة "دوت وودز" فى دور الزميلة الشرطية، وكذلك الممثل "ايريل كاميرون" فى دور الحاكم زوانى، قد أسهم فى إضافة عوامل إمتاع وتشويق يفتقد الى عناصره الأساسية، فكل شىء متوقع، بما فى ذلك حادثة الانفجار الذى نجت منه المترجمة عدا بعض الجروح فى الوجه لم تتم معالجتها.

اننا نشعر أحيانا بأن هناك إصرار بأن تظهر الممثلة "نيكول كيدمان" فى مظهر أنيق ورائع مبهر وبشكل دائم، وهذا الشريط يؤكد هذا الاتجاه.

هناك الكثير من الألم فى الشريط، فلا نكاد نشعر بوجود شخصية مرحة، فالشخصيات كلها تعانى من مشكلات ذاتية، بما فى ذلك الحاكم زوانى نفسه الذى نراه فى حالة حزن داخلية تدفع الجمهور الى التعاطف معه فى بعض الأحيان، ولا سيما أن الشريط قد أظهره فى مشاهد استعراضية لشوارع نيويورك كما عرفها شابا، إضافة الى صمته الدائم تقريبا.

رغم كل الإجراءات الأمنية، فإن أحد المرافقين للحاكم زوانى يكاد ينجح من التخلص منه، غير أنه يفشل فى مشهد تم تنفيذه بطريقة جيدة، وينتقل الأمر الى المترجمة التى تنفرد بالرئيس وتكشف له عن قصتها الخاصة، غير ان النزعة الفردية فى الانتقام لم تنجح أيضا، وتتراجع سيلفيا عن فكرة قتلها للرئيس بضغوط من العميل السرى المكلف بحمايتها.

وهكذا تسير الأمور نحو الاعتبارات القانونية، وهذا ما أوضحته النهاية، عندما يتم الإعلان عن محاكمة زوانى، للجرائم التى ارتكبها ضد شعبه، وكل ذلك على خلفية مشهدية تبرز العمارات الشاهقة والمكان الفارغ للبرج المنهار عقب أحداث سبتمبر، ومع موسيقا أفريقية، تحاول ان تربط المدينة بهيئة الأمم المتحدة والعدالة وبتحقيق الحرية فى أكثر من مكان فى العالم.

ان أهم ما فى الشريط، رغم ما قلناه عن وجود "الفبركة" فى مطبخ الإعداد والسيناريو، هو الصفاء والنقاء والقدرة على الإيجاز والتلخيص، بحيث تبدو المشاهد غير مملة، وبلا شك فإن حرفية المخرج ومهارته قد صنعت من قصة، غير قابلة للإقناع، موضوعا لشريط قابل للسرد السينمائى بدرجات مقبولة فى أغلب الأحيان.

هناك ولا شك سخاء فى التصوير واستخدام المشاهد التى تعد جانبية نسبيا، مثل التصوير من أعلى وبواسطة الطائرات، لإبراز المعنى المتخيل لمدينة نيويورك المتعالية بأبراجها والتى تستخدم أيضا لمعالجة قضايا لها علاقة بالأرض مباشرة. انه اللقاء المفترض بين قمة التقدم الصناعى والعودة الى مبادىء الحرية الأساسية للمواطن العادى فى أفريقيا أو فى غيرها.

يدل الاهتمام بالإطار الشكلى للشريط على نزعة تعويضية لموضوع، تم الدفع به ليكون حدثا من الأحداث التى تدور داخل مبنى هيئة الأمم المتحدة.

ان الربط بين مآسى الأفراد فى كل مكان من العالم يبدو واضحا وإن اختلفت الأسباب والظروف، لذلك لم يتم تطوير العلاقة بين لوبين وسيلفيا الى قصة حب، على غرار ما هو متعارف عليه، لأن شخصية المترجمة لها مساراها الخاص الذى لا يلتقى كثيرا بالأصول الأفريقية، وهو أيضا لا يلتقي بالفراغ الحضارى الذى تعيشه فى نيويورك.

فى عام 1975 اخرج سيدنى بولاك شريطه الأول وهو "الخيط الرفيع" وفى عام 2005 اخرج شريطه "المترجمة" انها رحلة أساسها ثلاثون عاما من الإخراج وأحيانا التمثيل ـ ظهر فى أكثر من مشهد داخل هذا الشريط ـ فيها الكثير من السياسة والنقد الاجتماعي والهموم ذات المنحى الفردي والمجتمعي، ولعل إخراجه لشريطين عن أفريقيا طول رحلته السينمائية ـ خارج أفريقيا 1985 ـ وهذا الشريط، دليل على اهتمامه بالآخر الذى لا مندوحة من الارتباط به والاشتباك معه.



ليست هناك تعليقات: