السبت، 27 سبتمبر 2008

من خزانة الأشرطة :- امريكا شيكا بيكا



تلاشى الأحلام الوردية

(1)

تناولت الخيالة العربية فكرة الهجرة والسفر إلى الخارج بحثاً عن عمل مناسب ، أكثر من مرة ، أحياناً بشيء من الجدية ، وفي أكثر الأحيان بكثير من السخرية وعدم المسؤوليه ، لأن : المنتج يرغب غالباً في أن يصور شريطه في أحد البلدان الأوربية ، لكي يضمن وجود بعض المغريات التي تكفل لشريطه النجاح التجاري ، ولذا يلجأ إلى موضوع الهجرة , ولكن هناك أكثر من شريط تعامل مع الهجرة بشيء من حسن التقدير ، وبشيء من الوعي ، حيث يظهر الطرح الفكري أولاً في مستوى المشاهدة ، وفي مستوى التناول والتحليل ، في الحدود التي تسمح بها إمكانات الخيالة العربية المحدودة . ولا نريد هنا أن نتعرض لكل الأشرطة التي تعاملت مع الهجرة ، ولكن نختار شريطاً أنتج منذ سنوات لنتعرض له بالمتابعة ، وهو بعنوان " أمريكا شيكا بيكا " من إنتاج " مجموعة العدل " وإخراج المخرج المعروف " خيري بشارة " ، مع الأخذ في الاعتبار بأن موضوع الهجرة لم تقدمه الخيالة في مصر فقط ، ولكن قدمته أيضاً الخيالة المغربية والتونسية والجزائرية واللبنانية والسورية ، ولكننا نختار هنا شريطاً من إنتاج مصر باعتباره مجرد بداية ، رأينا أن تتحقق من خلال دمج موضوع الهجرة بالشريط الغنائي ، أي الشريط الذي يحتوي على اغنيات يقدمها أحد المطربين المعروفين ، بصفته مطربا وممثلاً في آن واحد .

(2)

اختار المنتج ، وربما المخرج أيضاً ، وكلاهما ساهما في كتابة القصة والمعالجة ، أن يكون العنوان ، قريباً من العناوين الرائحة التي تتسم بالرشاقة وتتناسب مع طبيعة الجمهور الذي يتأثر بعنوان الشريط كثيراً ، ومن هنا جاء العنوان (أمريكا شيكا بيكا ) له طبيعة موسيقية ، وله تنغيم خاص ، يدل على عدم الاستقرار والاهتزاز الشديد ، وهذا ما عبّر عنه موضوع الشريط فعليا ، عندما انهار الحلم وتبدد ، وصارت أمريكا عامل طرد وليس عامل استقرار وجذب .

يعتمد الشريط على فكرة ( النماذج المتعددة ) أو لنقل الشرائح الاجتماعية المتعددة التي تجد نفسها في مواجهة مع الغربة ، وصعوبة الحياة ، فتندفع نحو تجسيد فكرة العودة ، بعد أن تبخر الحلم ، أي أن التراجع وإلغاء فكرة الهجرة هي المصير الذي نقلنا الشريط إليه ، وهو مصير متوقع ، لأن جميع الأشرطة تقريباً تدور في هذا الإطار .

(3)

من أهم النماذج ، شخصية ( منسي ) التي يقوم بها المطرب محمد فؤاد ، وهي شخصية من قاع المجتمع ، يعبر عن شريحة مهنية ، ضاقت به سبل العيش فقرر الهجرة إلى أمريكا للعمل ، واختار ، مع نفس المجموعة ، بلداً مثل ( رومانيا ) لتكون بداية الرحلة ، يستطيع منها الحصول على تأشيرة تسمح له بأن يجسد حلمه الذي ترآى له ، بأن يكون غنياً ، فيحقق طموحاته له ولأسرته التي تنتظره .

ومن الشخصيات الأخرى المهمة نجد الفتاة (( سهى )) وهي أيضاً قد سارت في نفس الخط من أجل الالتحاق بخالها الذي تقول بأنه قد نجح وصار حلماً نموذجياً بالنسبة إليها .

هناك ( دوسة ) وهي امرأة تريد أن تعالج ابنتها التي تصحبها معها ، وتأمل في افتتاح مدرسة للرقص الشرقي في أمريكا ، بعد أن عملت في هذا المجال لسنوات كثيرة ، ولم تستطع من خلاله أن تحقق طموحاتها .

هناك شخصية ( الطبيب ـ فؤاد ـ) الذي يدعى بأنه من فئة اجتماعية راقية ، بفضل ما اكتسبه من شهادات علمية وبسبب المحيط الاجتماعي الذي عاش فيه ، ولكنه في الحقيقة عكس ذلك ، فهو أيضاً كسير الخاطر ، لم يستطع أن يحقق شيئاً ، لذلك يسعى إلى الهجرة الخارجية .

ومن الشخصيات المهمة التي عالجها الشريط بطريقة جيدة (( الغمراوى )) الذي تجاوز مرحلة الشباب ، لكنه يتطلع إلى السفر من أجل تدبير حياة أفضل لأسرته ، ولكنه يسقط ميتافي رومانيا ، وقبل أن يصل إلى أمريكا ، فيدفن في الغربة ، وكأنه قد دفع بحياته من أجل أمل أقرب إلى الوهم .

وفي الشريط أيضاً نجد شخصية أخرى ، لم تمنح ما تستحق من اهتمام ، وهي شخصية ذلك ( البطل ) " رامبو " مفتول العضلات الذي يتصور بأن بلد النجم الأمريكي " سليفستر ستالوني " سوف تستقبله بالأحضان ببشرته السمراء وقامته الممشوقة ، وهو يتصرف على هذا الأساس، بسبب تأثير الوسائط الإعلامية الأمريكية المبهرة والمضلّلة .

شخصية أخرى قريبة من ذلك ، عامل البناء ، أحد النماذج البسيطة التي وجدت نفسها محطمة في الأعمال الصغيرة التي تتلقفها ، فقررت أن تجرب حظها في الخارج ، ولكن الحلم يموت لأنه قد اعتمد على الظنون والأوهام فاضطر إلى بيع نفسه .

(4)

تصل كل هذه النماذج سبعة أفراد وفتاة صغيرة إلى رومانيا ، وعن طريق وسيط مصري جلال أوهمهم بأن رومانيا هي بلد يمكن من خلالها العبور إلى أمريكا بكل سهولة ، ولكن الوهم بالحصول على التأشيرة الأمريكية صار حقيقة بعد أن ترك هذا الوسيط الجميع وفر إلى مكان مجهول غير أن الشريط سرعان ما يتراجع أيضاً ، فهو يجعل من هذا المحتال ، ضحية أيضاً ، عندما يمنحه فرصة التعبير عن تطلعاته وأحلامه ، لأنه يريد أن يعيش ويحقق أحلامه ولو كان على حساب تحطيم الآخرين .

إن الشريط يقدم عدداً من الضحايا دفعتهم صعوبة الحياة إلى طلب الهجرة إلى أمريكا ، ولكن وقبل الوصول إليها ، انقلبت مسيرة حياتهم رأساً على عقب وتعرضوا إلى اهتزاز وسقوط ، فتحطم ما بقي فيهم من جسد لا يكاد يقوى على الاحتمال .

إن التفكير في الهجرة ، مشروع فاشل ، وخصوصاً إذا كانت هذه الهجرة إلى أمريكا ، والتي تبدو وكأنها أشبه بالسراب ، لأنها مظهر مخادع ، وزيف ظاهري ، لا ينال من يتطلع إليه إلا الخسارة .

لذلك جاءت الأغنية التي يغنيها المطرب " محمد فؤاد " لتؤكد هذا المعني :-

(( أمريكا شيكابيكا ... تلاعبك بالشناكل ... وتجيب عاليك واطيكا )) والحقيقة أن الشريط ملئ بالتفاصيل والجزئيات التي تدور في داخل دائرة مغلقة ، والتي تهدف إلى التعبير عن صعوبة الحياة التي عاشتها هذه الشخصيات في رومانيا ، فهي مثلاً تفقد الطفلة الصغيرة ريم حينا ، وهي تضطر للسكن في أماكن صعبة ، وكذلك تلجأ أحياناً لسلوك شائن تمارسه ، لتعبر عن شخصيتها الحقيقية والتي لم يحاول الشريط أن يجعلها مثالية ، وهذا ما حدث للمرأة ( دوسة ) مثلاً وكذلك الغمراوى والطبيب . كما أن المجموعة قد اضطرت للسرقة لكي تعيش ، ومارست الغش ، بعد أن تعرضت لحالات من النصب والاعتداء .

ولقد انتقل الشريط بالمجموعة في أنحاء رومانيا ـ بعد الأحداث السياسية التي أعقبت انتهاء حكم شاوسيسكو ، وبدايات ما يعرف بالانفتاح ، وقدم رقصات رومانية قليلة ، وكذلك بعض المعالم البسيطة من داخل مدينة بوخارست .

ومن جانب آخر ، حاول الشريط أن يجعل من المجموعة المهاجرة موضوعاً للتعبير عن الصراع الاجتماعي .

فأوهمنا بأن هناك اشتباك بين الشخصيات ، مثلما حدث بين الطبيب والمنسي وكذلك بين الفتاة ـ سهى ـ وباقي الشخصيات ، بحيث يزول الوهم بعد ذلك ويعود الترابط الاجتماعي بين أفراد المجموعة ويرجع كذلك الوفاق والتآخي ، ليس بين الفئات فقط ولكن بين الأديان السماوية ، مثلما حدث بين المنسي والطيب المسيحي أثناء دفن جثمان الفرماوى .

في الشريط تفاصيل كثيرة ، ساهمت فيها محاولة إيجاد علاقة عاطفية متوقعة بين سهى والمنسي ، بعد أن سار الشريط في اتجاه عكسي في البداية ، وكان لوجود الطفلة الصغيرة مبرراته لكي تساعد على ربط التواصل بين أفراد المجموعة .

أما إذا تحدثنا عن الأغاني ، فمن الصعوبة اعتبار هذا الشريط غنائياً ، فالشخصية التي تغنى ليست لها دور مطرب ، ولكنها مجرد شخصية شعبية ، يمكن وصفها بأنها من النوع الذي يعرف بالشاطر أو لنقل " الفهلوي " والذي يتعرض لانتكاسات تكشف عن عجزه وضعفه في حقيقة الأمر ، رغم كل الادعاءات الظاهرة .

إن الشريط ليس غنائياً ، ولكنه يحتوى على أغاني ، ولاشك أن صوت محمد فؤاد الشعبي الذي يلمس المشاعر ، ويحرك شيئاً من الحزن داخلها ، قد ساهم في إنجاح الشريط ، رغم أن الأغاني التي احتوى عليها الشريط ليست من النوع التجاري ، لكنها معبرة عن الشريط في كثير من الأحيان ، ولقد تم الربط منذ البداية بين الحزن والغناء ، في منظومة واحدة ، بحيث يؤدي كل منها إلى الآخر .

(5)

في النهاية

بعد أن فقد الجميع كل ممتلكاتهم ، لم يجدوا أمامهم إلا العودة ، بمساعدات رسمية ، رجعوا ، وقد فقدوا أحد أفراد المجموعة ، وفقدوا ، وهو الأهم ، كل أمل في الهجرة ، لأن الهجرة عموماً والهجرة إلى أمريكا ليست إلا وهما ، وما تعرضوا له ليس إلا بداية لما يمكن أن يحدث لهم . غير أن الهجرة لم تكتمل ، لأن المعالجة قد سارت في هذا الاتجاه منذ البداية بتقديم مشاهد عودة للخلف لكل الشخصيات تقريباً ، ولتجعل من التجربة مجرد طرح نظري ، مدعوم بفرضيات تؤكد سقوط فكرة التجربة ، رغم أن الشريط لم يذهب في التحليل بعيداً ، ولم يجعل من التجربة ذات طبيعيه عملية ، لأن قرار العودة قد اتخذ قبل أن تبدأ الشخصيات في ممارسه سياها الدرامي .

(6)

لقد افتعل الشريط صراعاًَ بين الشخصيات ، عندما ادعت الموظفة "سهى" بأنها من مستوى اجتماعي يجعلها تترفع عن غيرها ، كذلك الأمر بالنسبة للطبيب المتعالي على الآخرين ، وافتعل أيضاً بعض الأحداث لكي يسقط أفراد المجموعة في الفخ الذي رتبه لهم المحتال " جابر " وافتعل أيضاً علاقة عاطفية مزعومة بين المنسي وفتاة من رومانيا ، توافق أنها أيضاً تريد السفر إلى أمريكا ، لكي يقود الشريط نحو علاقة مفتعلة أيضاً بين المنسي وسهى .

من الواضح أن الشريط يقف في صف " جابر " فهو لا يريد لكل الشرائح التي اختارها أن تحقق حلم الهجرة ، لأنه يعود بها إلى المكان الذي غادروه رغم الصعوبات التي عانوا في السابق منها ، لكن الحنين إلى أرض ثابتة أفضل من التمسك بأوهام جميلة في ظاهرها .

(7)

في موقف ضاحك يتعرف أفراد المجموعة على النصاب " جابر " في المطار ، فيشرعون في ممارسة انتقامهم منه ، لكنه انتقام مرح وخفيف لأن هذا النصاب قد قدّم لهم خدمة كبيرة، بعدم تحقيق أحلامهم بالهجرة من أساسها .

(8)

أبرز ما في الشريط " التصوير " الذي قاده مدير التصوير " طارق التلمساني " حيث تظهر صعوبة اختيار أماكن التصوير ، والزوايا وغيرها في بلد ، غير معروفة جغرافيته بشكل جيد .

أما عن الإخراج ، فقد كان ذو طبيعة واقعية واضحة ، مع منح كل الشخصيات الفرصة للظهور بالتساوي تقريباً ، ولولا بعض الفراغات والمشاهد التي لا مبرر لها مثل ( سرقة السيارة ) والهروب من الشرطة وغيرها من المشاهد الإضافية ، لقلنا بأن الشريط جيد الحبكة ومتوازن الأحداث والمجريات .

وإذا تحدثنا عن التمثيل نلحظ بوضوح نجاح الممثل " محمد فؤاد " في أغانيه وتمثيله ، وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الممثلين الآخرين وبالأخص أحمد عقل وشويكار ، وفي حدود أقل كل من " نهلة سلامة وعماد رشاد والشحات مبروك وسامي العدل ومحمد لطفي .

ليست هناك تعليقات: