الجمعة، 12 سبتمبر 2008

قراءة فى فيلم مملكة السماء




القدس التى فى السماء

قبل أن يقدم المخرج ريدلي سكوت على إخراج الجزء الثانى من شريط المغامرات التاريخي "المصارع" ها هو يطرح شريطا تاريخيا جديدا، بصفته منتجا ومخرجا، وليحمل اسم "مملكة السماء" بديلا للاسم الأول المقترح "الصليبيون".لقد ارتبط اسم هذا المخرج بشريط "المصارع" بسبب نجاح الشريط تجاريا وفوزه بالعديد من جوائز الاوسكار. لكن سكوت قدم أيضا عددا من الأشرطة التجارية الناجحة، بعضها تاريخي مثل شريطه الأول "المتبارزان 1977" عن رواية للكاتب جوزيف كوزاد، وهو الشريط الذى أهله لأن يستمر بعد ذلك وخصوصا بعد فوزه بجائزة الإخراج السينمائى فى مهرجان كان السينمائي عن نفس الشريط.

ان "ريدلي سكوت" مخرج متعدد المواهب والاهتمامات، بداياته الأولى كانت فى التلفزيون الإنجليزي، ثم انتقل الى عالم السينما وعمل فى الإخراج والإنتاج، وحققت أشرطته نجاحا تجاريا جيدا وتقديرا نقديا مقبولا، ولعل ابرز أشرطته هى تليما ولويس ـ غزو الفردوس وهانيبال، بالإضافة الى أشرطة أخرى مثل الفصل ـ الغريب ـ سقوط الصقر الأسود ـ المطر الأسود.

فى شريط "مملكة السماء ـ 2005" اتجاه نحو العودة الى التاريخ ـ عام 1184 ـ والمكان أوروبا من جانب ثم القدس فى جانب آخر وتحديدا مع بداية الحملة الصليبية الأولى الى الثالثة منها، حيث ينتهى الشريط بانتهاء حكم الملك بالدوين وتسليم القدس لتبدأ الحملة الصليبية ممهدة بقدوم الملك ريتشارد قلب الأسد.

لا يهتم المخرج ريدلى سكوت فى أشرطته التى يختارها بالتاريخ الفعلى، لكن يستخدمه مجرد خلفية لأحداث ووقائع متخيلة.

ومن بين ما هو متخيل اعتماد الشريط على شخصية رئيسية وهو "بيليان ابيلين" يقوم بالدور اورلاندو بلوم"، وهو حداد يعيش فى إحدى القرى الجبلية الفرنسية، متشكك من الناحية الدينية، ويعانى من أزمات نفسية، ولكن قبل أن نتعرف على هذه الشخصية، نعلم منذ بداية الشريط بأن الأب قودفرى وقام بالدور ـ ليام نيسون" قد رجع من القدس الى اسكتلندا وأثناء عودته لجمع الفرسان من أوروبا لخدمة الحرب فى القدس وما جاورها من مدن، مر على المنطقة الفرنسية الجبلية لكى يعترف بابنه غير الشرعي بيلين".

ورغبة من سيناريو الشريط فى اختصار الأحداث، يتم جمع الوقائع فى مكان واحد ومشاهد متتالية وعلى مسرح واحد، وهو عبارة عن غابة واسعة نرى فيها جثة الزوجة المنتحرة ثم سرقة قلادة من رقبتها من قبل أحد الرهبان، وقطع رأسها بسبب انتحارها ثم مواجهة الاعتراف بين الأب والابن، وقتل الابن للراهب الذى طالبه بالسفر الىالقدس للتخلص من خطاياه وخطايا زوجته.

ومن الواضح أن نجاح الأب قودفرى بحيث صار أحد القواد فى القدس ممن يملكون الأراضي والخدم، قد دفعه نحو مواجهة ابنه بحقيقة الحرب التى تعتبر بالنسبة إليه مجرد فرصة لتحقيق الطموح الفردى، ووسيلة للكسب والنجاح وليس لها علاقة بالدين بشكل مباشر.

نفس الأمر ينطبق على الابن "بيليان" الذى دفع الى السفر بعد أن قتل الراهب السارق ودخل فى مواجهة مع فرسان الكنيسة.

سقط أثرها أبوه جريحا ليموت فى منتصف الطريق وفى مسينا الايطالى والذى يعتبر نقطة تجمع لمن يريد السفر للحرب، ومن تجبره الكنيسة على ذلك.

يقول الأب لابنه: انك لست كما تولد، ولكنك كما تريد لنفسك أن تكون.

ومن نقطة البداية يجرد شريط "مملكة السماء" الحرب الصليبية من الاعتبارات والادعاءات الدينية لتصبح مجرد مغامرة من مغامرات البحث عن الثراء وتحقيق الذات.

تقع الأحداث عام 1184م عندما كانت القدس تحت حكم الملك بالدوين ـ ما بعد الحملة الصليبية الثالثة" وتاريخيا يعرف هذا الملك باسم "المجذوم" لأنه أصيب بالجذام، لذلك ابتكر له الشريط فكرة غطاء الرأس أو القناع المستعار.

وحول بالدوين تتواجد مجموعة شخصيات لها مصالح متشابكة تستخدم الدين من الناحية الشكلية لتحقيق أطماعها فى ممارسة الحكم والتسلط ضد شعوب المنطقة من مسيحيين ومسلمين ويهود.

من هاته الشخصيات نجد سيبلا أخت الملك وقامت بالدور ايفا غرين، بعد أكثر من تجربة لها بعد ظهورها فى شريط "الحاملون" لبيرتولوتش، ورغم انها حاكمة لمدينة عكا، الا أن لها نزواتها العاطفية التى تستقر بها فى أحضان الفارس الجديد القادم الى القدس بيليان.

هناك أيضا حاكم الكرك وهو زوج سيبلا المتهور وهناك فرسان آخرون مثل المستشار تيبوش (جيرى ايرونو) وكل الأطراف تستقبل بيليان" وتضعه فى محل أبيه، بعد موت الأب أثر جراح غائرة فى معركة فرسان الكنيسة بسبب دفاعه عن ابنه.

يوضح الشريط بأن القدس هى مدينة التسامح والسلام والتعايش بين كل الطوائف والأطراف المختلفة دينيا واجتماعيا، وهي مدينة نموذجية، مزدهرة اقتصاديا، فهى أقرب الى الحلم. ومن هنا جاء العنوان "مملكة السماء ـ أو مملكة الضمير والنور".

قبل أن يدخل القدس، واجه بيليان أحد الفرسان المسلمين فى معركة حياة أو موت، وهو المبدأ الأول غير الاخلاقى الذى يستقبل به حياته الجديدة، وكمله ببحثه عن المكان الذى اعتبر أن المسيح قد صلب فيه غير أنه لا يكترث للنتائج ويمضى بطريقة متسارعة نحو الاعتماد على قدراته فى النزال بالسيف بعد أن قضى فترة تحت التدريب وهو فى طريقه الى القدس.

تبدو رحلة بيليان كأنها محاولة لتحقيق الطموح الفردى، قبل أن تكون دينية أو اجتماعية ولاسيما وقد اعترف به فارسا ونال المركز الاجتماعي والسياسي لأبيه، فالرحلة هى مغامر استكشافية يمكن أن يكون جزء منها بحثا عن الخلاص والتكفير عن الذنوب، لكنها رحلة متممة لما قام به الأب سابقا وكأنها مجرد مغامرة لفرسان القرون الوسطى يحققون بها ذواتهم والتى تكاد أن تكون ضائعة.

تتحرك الأحداث عندما يقوم حاكم الكرك باعتراض قافلة للمسلمين وينقض العهد المبرم مع صلاح الدين الأيوبي، إلا أن حكمة الحاكم بالدوين تحول دون العودة الى الحرب عندما يقبل بدفع الفدية والقصاص من المذنب.

وبينما كان نجم بيليان يصعد باقترابه من المملكة والملك، وتعامله القريب مع الأوضاع الداخلية للقدس المحصنة جيدا، تسير الأمور من جانب آخر نحو إعلان الحرب، فقد مات الملك بالدوين والت الأمور الى زوج أخت الملكة الذى هاجم عائلة قريبة لصلاح الدين، وبالتالى جرى الاستعداد للحرب، ووجد بيليان نفسه قائدا للمعركة، ومدافعا عن الناس وليس الحجر ومتحدثا باسم الأرض وليس السماء، فى خطبة مطولة ومصطنعة.

وبعد أيام من الحرب ودخول المسلمين الى القدس بقيادة صلاح، يسلم بيليان مفاتيح المدينة الى صلاح الدين، فهو قد خسر الحرب أولا وثانيا بعد الاطمئنان الى أن القدس ستصير على نحو أفضل مما سبق، مدينة للنور والسماء.

هناك الكثير من التفاصيل الصغيرة التى يمر عليها الشريط سريعا ومن الملاحظ بأن مشاهد كثيرة قد حذفت من مونتاج الشريط، حيث الانتقالات حادة من مواقع الى أخرى بدون روابط سلسة، وبهذا يصبح الشريط من النوع الذهنى البعيد عن السهولة والبساطة فى السرد.

أما أسلوب ريدلى سكوت فهو متكرر، مع إضافة بعض العمق فى هذا الشريط، حيث تتواجد شخصيات متخيلة كثيرة بالاعتماد على سيناريو لوليم مونهام، وهو كاتب يكتب لأول مرة، الا أن هناك مشروعات جديدة له على الطريق مع ريدلي سكوت وأهمها شريط "طرابلس" الذى ينتهى العمل فيه عام 2007.

لكن يبقى الشريط من النوع الملحمي المعتمد على شخصية رئيسية حتى يشعر المشاهد بأن بيليان هو فى شكوكه أقرب الى هاملت وفى حربه المجانية أقرب الى أخيل طروادة.

بنفس الأسلوب المعتاد يقدم سكوت شكلا ملحميا يعتمد فيه على تصوير المشاهد الكبيرة والاهتمام بالديكور ومواقع التصوير، وعلى سبيل المثال الاختيار الجيد لمرفأ مسينا الايطالى وهو مركز رئيسي بحرى لتجمع الفرسان المتجهين نحو الأماكن المقدسة.

هناك أيضا لقطات عامة كثيرة، وفى الغالب تبدو آلة التصوير وهى متعالية تلتقط المعارك وحركة الجموع من أعلى، وكأن الحرب ليست مهمة أو أنها حرب غش وخداع لا تستحق أن تصور بوضوح ومن مستوى أفقى.

المعارك فى الأشرطة الحربية واحدة تقريبا، فأنت تشعر أحيانا بأنك أمام شريط الاسكندر أو طروادة، إلا أن الحسنة هنا تتمثل فى التركيز على المنجنيق الملتهبة تكاد تصبح لعبة تتطاير فى الهواء وتتهاوى ساقطة من بعيد لتبدو الحرب وكأنها مهرجان.

لا شىء جانب النجاح الكلي الا اختيار الممثل الرئيسي، والذى يبدو مقبولا الا أنه لم ينهض بالشريط وتشعر بأنه يحاول أن يلحق بالدور وليس الدور هو الذى يلحق به، فهو من ناحية غير مقنع باعتباره فارسا يمكنه استخدام السيف بهذه الطريقة البارعة، وهو أيضا طفولى التعبير وليس لديه قدرة واضحة على التركيز، وهذا ما ينطبق على الملكة ايفا فريح أيضا حيث افتعل الشريط بينهما علاقة غرامية عابرة، بل إن الشريط قدمها فى مشاهد تقف فيها منفردة وهى تتابع من بعيد ما يحدث بدون أن تتدخل فى الأحداث فعليا، فهى هامشية دورا تمثيلا.

ولكن على مستوى التمثيل لا ننسى وجود جيرمى ايرونر ووليام نيلسون، ثم الظهور الجيد للممثل غسان مسعود فى دور صلاح الدين، حيث تظهر الحكمة والتريث والمهابة والرشاقة فى الحركة وهو امر انعكس متوافقا مع الملابس السوداء التى ظهر بها والتى تتطاير فى الهواء فتضفي عليه هالة من الوقار.

اما الجانب الآخر والذى نظر إليه الكثيرون بعيون الرضا، فهو ذلك التوازن الذى فرضته أحداث الشريط، بشىء من الحيادية والاعتدال، فهى من المرات القلائل التى تظهر فيها الشعائر الإسلامية وهى تؤدى بشكل جيد، مع النظر الى شخصية المسلم على أنها طبيعية، فلا توجد شخصية عربية أو مسلمة شريرة، ورغم أن ذلك ليس ضروريا من الناحية الدرامية، الا أن سقوط هوليوود فى النظر الى الأمور من زاوية واحدة، وتعود الجمهور على ذلك، قد جعل هذا الشريط نموذجا ايجابيا، مع أن هناك بعض السوابق فى ذلك كما حدث فى شريط "الفارس الثالث عشر".

أيضا هناك نقد واضح للمسالة الصليبية والأوضاع التى أدت إليها فنحن إزاء محاولات لانتهاك الاتفاقيات المبرمة مع المسلمين من قبل شخصيات تدعى الحفاظ على الدين وتتكلم باسمه.

كما أن وجود القوات الأجنبية فى القدس يبدو أمرا غير مقنع وغير شرعى، وهذا ما فسر انتهاء الشريط برحيل بيليان وقواته عن القدس، رغم أن هناك جيوشا أخرى فى طريقها الى الشرق لتواصل الحملات الصليبية بقيادة ريتشارد قلب الأسد.

أما اليهود فلم يبرزهم الشريط نهائيا والسبب يعود الى أن الحاكم بالدوين نفسه قد فرض عليهم الانعزال ومنعهم من الحركة الى أن جاء صلاح الدين وحررهم من ذلك.

وهكذا يبدو الشريط وكأنه يتحدث عن حلم لمدينة من السماء تتعاون فيها الأديان وتتعايش، فهى القدس المتخيلة التى تفتقدها الشعوب فى الوقت الراهن وتحتاج اليها.

ان ايجابيات الشريط كثيرة، فضلا عن وجود بعض الممثلين العرب مثل غسان مسعود وخالد النبوى واسكندر صديق، فإن المقولات التى عبر عنها الشريط تراعى الآخر بشكل فيه الكثير من الحيادية وهى حيادية ايجابية فرضتها أحداث التاريخ الحقيقى وليس المتخيل

ليست هناك تعليقات: