الثلاثاء، 2 سبتمبر 2008

العبور الى الشاطىء الآخر



العبور الى الشاطىء الآخر

من يتابع السينما المغربية ويعرفها من بعيد أو قريب، ومن تابعها لفترة تعود الى أكثر من عشر سنوات على الأقل، يدرك ذلك التغيير الايجابى الذى حققته من حيث كمية الافلام المنتجة ونوعية هذه الافلام.

واذا كان هناك حضور واضح للاشرطة التقليدية العادية ذات الصبغة الشعبية والتى يمكن أن تطرح بعض الايجابيات، فإن السينما المختلفة نسبيا والتى تحمل هموما فكرية وفنية تبقى هى الاوضح، وخصوصا فى المهرجانات السينمائية العالمية التى تشارك فيها المغرب وتنال فيها جوائز وتقديرات فنية لافتة للانتباه.

حضور مخرج: ـ

من بين المخرجين الذين يؤكدون حضورهم فنيا فى المغرب، يبرز اسم المخرج "داوود أولاد السيد" المتخصص اساسا فى العلوم الفيزيائية والمتخرج من ورشة السينما بباريس والذى يمارس التصوير ايضا.

بدت أفلام داوود اولاد السيد غريبة بعض الشىء عن السينما المغربية، رغم انها تتسلل الى اعماق المجتمع المغربى وتطوف من مكان الى آخر بحثا عن الجوهرى فى العلاقات الانسانية، وهى تقترب بصورة أوضح من شخوص يتحركون وفق بيئة معينة، تدفعهم الى اختيار سلوك معين، بحيث يشعر الجمهور بأن الشخصيات تعيش دائما حالة من البحث والتحفيز الى الحركة فى انتظار مصير مجهول كما هو فى الظاهر، وهو مصير محكوم عليه سلفا بالتراجع والنكوص، وأحيانا بالهزيمة ازاء الهدف المنشود ومحاولة تحقيقه.

عمل المخرد "داوود أولاد السيد" فى اشرطة كثيرة، وجرب أنواعا سينمائية عديدة، فبدايته كانت مع شريط قصير من النوع الدرامى بعنوان (كاريكاتير) عام 1989 ثم اخرج شريطا وثائقيا بعنوان (باريس 13 جويليه) عام 1989، وتوالت افلامه بين الوثائقى الدرامى القصير الى شريطه الروائى الأول (باى باى سويرتى) عام 1998، ولقد عرض الشريط فى أكثر من مهرجان اوروبى وعربى ونال تقديرا نقديا جيد، وخصوصا من حيث موضوعه الذى أقترب م نأهل السيرك الذين ينتقلون من مكان الى آخر من أجل تقديم عروضهم للجمهور، مع توفر قواسم مشتركة من العلاقات المتداخلة بين هؤلاء والأمكنة التى يمرون بها ويقفون عندها.

الشريط الروائى الطويل الثانى للمخرج كان بعنوان (حصان الريح) انتاج عام 2991 والمقصود بالعنوان الدراجة النارية التى تنتقل من مكان الى آخر، حيث تبحث الشخصيات عن اهداف بعيدة، لتأكيد ذاتها وهويتها، بينما الأب الغائب المجهول يبقى مجهولا الى آخر لحظة.

وبالاضافة الى فكرة الانتقال والبحث وتعدد الأمكنة والتعامل مع الشخصيات الهامشية، اقتربت آلة التصوير فى الشريطين من الجوهر الانسانى للافراد، حيث أن الشخصيات طبيعية وغير متكلفة ونابعة من الشقاء اليومى، وهذا من الاعتبارات المهمة التى تجعل الجمهور يتعاطف من معظم الشخصيات الصاعدة من قاع المجتمع، والتى تبدأ دائما رحلتها نحو هدف يبقى مجهولا على درجة من الخفاء الى النهاية.

انها طرفاية: ـ

فى شريطه الثالث (باب بحر) أو طرفاية انتاج 2005 يجدد أولاد السيد اطروحته الفنية مرتكزا على فكرة البحث والتطواف والانتقال من مكان الى آخر، ولكن يتم كل ذلك وفق تصور جدير ومنظور مختلف نسبيا.

لاشك أن هناك بعض الثوابت التى رسخها المخرج لها ارتباط بأفلامه السابقة وهناك ايضا بعض المتغيرات، واذا كنا قد أكدنا على فكرة البحث فلأنها تتكرر بصفة مستمرة، وما هو متكرر ايضا فكرة التنقل التى تستدعى اهتماما خاصا بالمكان وتفاصيله، وبهذا نلحظ أن أمكنة التصوير لها حضور متميز فى افلام داوود أولاد السيد، حتى يمكننا القول بانها إحدى أبطال الأشرطة.

المرأة فى شريط (باب البحر) اسمها مريم نراها فى البداية تدخل قرية جديدة، باحثة عن شخص معين اسمه (ريكي)، ومن هنا يتحقق النجاح للفيلم من خلال هذا المدخل، حيث لا يتم الكشف عن سر البحث ولا الهدف من هذه الرحلة التى بدت من ظاهرها أنها رحلة تعب وشقاء فى منتصف الشريط نعم.. يكشف الشريط تفاصيل قصتها بالتدريج، ولكن يبقى رغم ذلك محتفظا ببعض الاسرار الى النهاية.

أما ما هو ومهم فهو التعامل مع شخصيات الشريط التى لا تعرف لها وجها واضحا، فهى تنتقل من سلوك الى آخر، لأنها محكومة بظروف هذه القرية التى يفترض أنها تقع على الواجهة البحرية مع اسبانيا، ونقصد بذلك أن الشخصيات غير معلبة، تتدرج بين الخير والشر والعكس ايضا وهذا ما نلحظه فى شخصية (ريكى) الذى تتعرف اليه المسافرة مريم فى البداية، بغرض مساعدتها فى الهجرة بحرا الى قوارب التسلل داخل البحر والتى تنقلها الى الشاطىء الاسباني بطريقة غير شرعية. غير أن ريكي يسرق مالها ويتركها وحيدة على الشاطىء، لتطول مدة مكوثها فى هذه القرية الساحلية، وخصوصا بعد تعرفها على رئيس وحدة الحدود والذى ساعدها بشكل خاص، عندما أرجع اليها مالها بواسطة زعيم المنطقة فى السرقة والتهريب.

ان المشاهد يكتشف مع كل اضافة جديدة ـ خلفيات الاحداث، فمريم قد فقدت اشقاء لها من قبل وهم يحاولون التسلل الى اسبانيا بطريقة غير شرعية، وهى ايضا تسير فى نفس المصير.

انها ايضا تحمل مالا سرقته من احدى الاسر التى عملت معها، وتحاول صاحبته استرجاعه منها ولكنها فقدت الأثر فى اللحظات الأخيرة.

رئيس الحدود يعلم بأن هناك شكوكا حول الفتاة مريم ومصدر المال الذى تحمله معها ورغم ذلك يساعدها فى الحصول على مأوى فى بيت يضم عددا من النساء، تتحول العلاقات فيه من مجرد علاقة بين متساكنين بالايجار الى حالة توحد فى المشكلات العاطفية والانسانية.

شخصيات هامشية: ـ

هناك عدد من الشخصيات الهامشية التى يستعرضها الشريط فى مشاهد تبدو أحيانا بانورامية، وهو ما يسمح به الفضاء الذى تتحرك فيه الشخصيات، غير أن اللقطات المتوسطة والقريبة هى الأساس، وفى الاماكن الداخلية على وجه الخصوص، ومن الواضح أن المكان يبتلع معظم شخصياته ويغرقها فى طوفان من التقارب والتباعد، ولذلك نجد أن العلاقة تكون سلبية فى البداية بين مريم وريكى، ولكنها تتطور بالتدريج لتصبح أقرب الى قصة حب متحفظ عليها، وهذا هو السبب الذى جعل من شخصية مثل (ريكى) يصبح شخصا مختلفا يقف مع الفتاة مريم ويتعرض بسببها الى الأذى مع العصابة الحدودية، بل يبالغ الشريط فيجعله مولعا بالطيور وجمع الاقفاص المتنوعة، ليعلقها فى بيته الصغير، رغم التقارب بين نوعية هذه الهواية وما يقوم به من سرقات واختلاسات.

هناك شخصية أخرى مهمة، وهى شخصية رئيس مركز الحدود، قام بالدور الممثل محمد بسطاوى وهويمثل المؤسسة الرسمية، إلا أنه يتصرف من موقف مختلف نسبيا، حيث يحرص على الجانب الأخلاقى متجاوزا فى عمله متطلبات الوظيفة.

أما محاولة جعله شخصية عادية، فذلك يتأسس على فكرة اقترابه من سن التقاعد، فهو بالتالى لا يمثل الجانب الرسمى بشكل شامل وكلى، ورغم ذلك، فإن الفتاة مريم والتى ترغب فى الهجرة بطريقة غير شرعية تجد نفسها محاصرة بما يقدمه لها من مساعدات متتالية تعرض عليه جسدها فى المقابل، باعتباره رفيقا وليس شرطيا من حرس الحدود.

وفى مشهد بسيط معبر يقدم لنا المخرج ايماءات لبوادر علاقة بين الطرفين لم تتم لأنها ستسير بالشريط نحو اتجاه آخر وتفريعات غير مستهدفة كما أن رئيس الحدود يمزق الملفات الخاصة بكل اولئك المجرمين والمتاجرين فى نقل الأفراد الى داخل البحر فى قوارب غير مناسبة، وكل الذين يعملون فى عمليات الهجرة السرية، وكأنه بالتالى يتعاطف معهم باعتبارهم ضحايا وليسوا جناة .

نهاية مفتوحة: ـ

لا نستطيع القول بأن هذا الشريط (طرفاية) وتعنى القارب الصغير، هو شريط يسير على نفس انساق اشرطة أخرى عالجت نفس الموضوع، مثل شريط "وبعد" المغربى شريط (انى أحرق) التونسي، وغيرها من الأشرطة الوثائقية التى تركز على كيفية العبور والهجرة ومراحلها، بل أن الشريط يهرب من ذلك محاولا البحث فى تفاصيل أخرى لها علاقة بالافراد وعلاقتهم بالمكان الذى يشدهم اليه وفى نفس الوقت هناك غواية أخرى مقابلة اسمها الهجرة المنتظرة وغير الآمنة.

فى مشهد فى عرض البحر لا يكاد يعلم المشاهد شيئا عن اولئك المتسللين فقط "تهرب الفتاة بعد محاولة الاعتداء عليها، لتعود الى اليابسة مرة أخرى ولكنها ستبدأ من جديد.

ينتهى الشريط نهاية مفتوحة، فتكرر مشهد البداية، الفتاة لوحدها فى الطريق تسير نحو مجهول، هل هى فى طريق العودة الى قريتها أم ستكرر المحاولة رغم المصاعب؟

ربما نشعر بأن طريق العودة هو الأقرب، لكنه مجرد شعور ربما يكون سرابا خادعا.

واذا عرجنا على بعض سمات وخصائص شريط (باب البحر) وجدناها تتلخص فى مجملها بما يسمى بالايقاع، ومن اللافت للنظر أن الأشرطة السابقة للمخرج تندرج تحت نفس المسمى (الايقاع البطىء) أو الايقاع الهادىء، وهناك يعنينا نوع الايقاع الذى تم

اختياره بقدر ما يهمنا مدى استجابته للموضوع والبيئة فى نفس الوقت، مع العلم بأن ايقاع الشريط ليس بطيئا بتلك الدرجة التى حضرت واضحة فى الشريط السابق حصان الريح وما قبله من أشرطة، حتى أن درجة ترتفع فى شريط (باى باى سويرتى) الى درجة يصعب تقبلها من قبل المتفرج، ولعل الشخصيات ونوعيتها هى السبب فى ذلك، يحكم طبيعة عملها من ناحية وعدم وجود عوامل تسرع بالتغير فى رتابة تامة تكاد تسيطر على الحياة اليومية.

ايقاع بطىء: ـ

فى شريطه الأخير، ورغم وجود بعض التفاعلات الدالة على الحركية مثل السرقة والشرطة والحافز الى الهجرة، وكذلك محاولة الاغتصاب والاعتداءات الجسدية والخوف والدخول فى مشروع مغامرة التسلل بحرا نحو شاطىء مجهول، رغم كل ذلك فإن الايقاع يبقى بطيئا، وهو يعنى أن أسلوب المخرج فى التعامل مع آلة التصوير والموسيقا وكذلك الحركة والمونتاج يخضع لهذا البطء المتعمد، الذى يعنى بدرجة ما بأن الشخصيات تتحرك وفق مصائر مجهولة، لأن الاندفاع ينقصها، والحماس لا يتوفر عندها بدرجة كافية، أمام سيطرة التردد والتراجع والدوران المستمر نحو نقطة معينة تظل هى دائما البداية.

ان حالة النكوص التى تسيطر على معظم الشخصيات هى المبرر لبطء الايقاع المسيطر على الشريط.

وبالطبع نجح المخرج فى اختيار شخصياته، فبدت قريبة الى محيطها الاجتماعى وبالاخص الممثلة ثريا العلوى التى قامت بدور مريم وفازت عنه بجائزة افضل ممثلة، دور أول، فى ايام قرطاج السينمائية 2006.

رغم وجود بعض التقارب فى أشرطة داوود

أولاد السيد، إلا ان الحالات تبدو متباعدة، وإن كانت الشخصيات تدور فى دوائر متشابهة، فهى تبقى أقرب الى مكانها وبيئتها، حتى يمكن القول بان هذا الشريط، وكذلك ما قبله من اشرطة من الاشارات الدالة على الامكنة التى بامكانها ان تقود الأحداث وتؤثر فيها.

ليست هناك تعليقات: