الأربعاء، 10 سبتمبر 2008

قراءات سينمائية



لعبة المرايا فى سينما "مى المصرى

سوف نتحدث عن المخرجة الفلسطينية (مي المصرى) ليس من واقع افلامها، ولكن من واقع كتاب صدر عنها، وهى تستحق بلا جدال أن يتم استعراض افلامها نقديا، وكذلك تقديم تجربتها القصيرة الطويلة، وفق تصور يسمى هذه التجربة باسم (سينما مى المصرى).

ولكن هل يمكننا أن نقبل أولا بهذا المصطلح، سينما مى المصرى، وكأننا أمام مخرجة لها اختياراتها المصاغة وفق رؤية معينة وأسلوب فني متميز وطريقة تعبيرية وفكرية خاصة؟

لا شك أن تجربة المخرجة ليست كبيرة بقياس الافلام التى اخرجتها، لكنها تجربة عميقة، تذهب بعيدا فى الاحساس البشرى الانفعالى، وفى التجليات الثابتة فى مسيرة الفرد الذى يقترب من البطولة الانسانية سواء كان طفلا او شابة أو عجوزا. كما أن السمات الشكلية للافلام التى قدمتها المخرجة تشمل قدرا من الانسجام الذى يتحقق احيانا بعفوية، لكنها عفوية وئيدة ومدروسة وتنظر الى المستقبل دائما مهما كانت السلبيات، فى اندماج بين شكل الفيلم ومحركاته وبواعثه الموضوعية.

افتراض به شىء من الحقيقة: ـ

يصعب أن ننظر لسينما تلصق بالمخرجة (مى المصرى)، لكننا نقبل هذا الافتراض بصدر رحب، لأن فيه الكثير من الحقيقة، ومن هنا جاء عنوان كتاب الناقد (فجر يعقوب).. (مندوبة الاحلام سينما مي المصري) الصادر فى طبعة أولى عن مهرجان مسابقة افلام من الامارات، وفى طبعة ثانية عن مهرجان الاسماعيلية الدولى للافلام التسجيلية والقصيرة عام 2006.

جاءت الطبعة الثانية من الكتاب فى شكل كتاب تعريفي مصور من الحجم المتوسط، وان كانت الصور قليلة داخل الكتاب، لكنه الشكل الاخراجي المعروف الذى تصدر عنه كتب المهرجان القومى للسينما فى مصر والتى يتم اختيارها للمكرمين عادة، والمخرجة هى ايضا مكرمة بمهرجان الاسماعيلية السينمائي الاخير، والكتاب بالتالى يدمح الجانب النقدى الدرامي مع متطلبات التكريم ودواعيه.

جاءت مقدمة الكتاب فى صورة مدخل أساسي لابد له، صاغه الناقد السينمائى ابراهيم العريس فى قراءة يبدو أنها لم تعد خصيصا للكتاب، يتطرق فيها الى المفاتيح التى يمكن من خلالها التعامل مع المخرجة مى المصرى ومن ضمن ما يقوله: "ان سينما مي المصرى، فى جوهرها لا تسعى الى قول خطاب معين. إنها وبشىء من الاختصار، سينما تعيد ترتيب الواقع، والى حد ما كما تفعل السينما الروائية، ولكن هنا مع ممثلين تطلب منهم المخرجة أن يلبسوا ادوارهم الحقيقية فى الحياة.

هذا المنظور يستبعد المفهوم المباشر للسينما التشجيلية التى تسجل الواقع وترصده بالصورة، أو تجمع جزئيات هذا الواقع بالتركيب المونتاجى وفق اختيار معين.

ايضا تركز المخرجة على الاطفال أو الفتيان ويتجلى ذلك فى أشرطة مثل "اطفال جبل النار ـ أطفال شاتيلا ـ احلام المنفي" وجميع هؤلاء أطفال من فلسطين، لا يعرفون بعضهم الا عبر الاحلام والامال والانترنت والمآسى المشتركة.

اما النقطة الجوهرية، فهى اندماج الواقعى بالتخييلي، أى دخول الممثلين الاطفال فى لعبة المرايا التى لا بداية لها ولا نهاية. بمعنى تصوير ممثلين يلعبون لعبة السينما، بل إن الذى يقوم بالتصوير يندمج فى المواد المصورة نفسها، فبمقدار ما تتحقق العفوية الكاملة، تصبح عين المخرج مجرد شاهد متورط فى الاحداث.

يمكن ارجاع سينما مى المصرى الى ثلاثة عناصر، العنصر الأول شاعرية الفيلم نفسه وثانيا ادخال الممثل فى لعبةالسينما، وثالثا أن الافلام هى قيد التحقق.

ربما كان الشعور يلازمنا عند تأكيدنا على العنصرين "الأول والثانى اما العنصر الثالث، فهو يدخل فى اسلوبية الاخراج نفسها والتى تتكرر دائما، فلا يوجد شريط نهائى مسبق، ان الافلام هى دائما فى حالة تكون وآلة التصوير تساير الحدث حسبما تتطلب اللحظة نفسها، وهذا ما يمنح الصورة بعدا استكشافيا، لا يتضح الا مع عرض الشريط بصورته النهائية.

نصف اليوم ونصف غدا: ـ

يتطرق الناقد فجر يعقوب فى بداية الكتاب الى ما يسميه نصف الفيلم وهو المفهوم الذى يلصقه الناقد بافلام مى الصرى جميعا، ورغم محاولته ان يشرح تصوره لهذا المفهوم، يبقى التفسير ناقصا ومشوشا.

لنقرأ ما يقوله الكاتب: "نهاية الفيلم تعنى نهاية اسماء وبداية اسماء من أسسوا للخروج باتجاه المنفى، وهم يحملون شقي الاسرار على شاكلة خرز ملون، أو مفاتيح، وهى تتحول تدريجيا الى أحلام من نوع جديد عن حياة قصيرة الأمد "وكأن المعنى يقترب من قولنا بأن النصف واقع والنصف احلام.

نقرأ ايضا كلمات محلقة تكاد تخلو من المعنى: "تنظر الى نصف الفيلم من خارجه، فتراه بأكمله من مجرة الاعتراف بشرعية الحلم، ترى الابطال الصغار بأناقتهم المستحيلة، كما فى افلام العقدة الثلاثية.

أما الموضوع الثانى بالكتاب فهو بعنوان: "مكان الحب حيث الشمس تعانى فيه احيانا من الانطفاء" وهو موضوع مخصص لقرأءة شريط (أحلام المنفى) ولكن بنفس الطريقة التى تختار تركيب الكلمات بأسلوب ربما يقترب من الشعرية احيانا، ولكن شعرية الكلمات فى تناغم وانسجام ليس له علاقة مباشرة بفهم الفيلم أو ابراز جمالياته، فالناقد يترك الفيلم المصور من مجموعة مشاهد ويركب خيال الكلمات التى تجتمع فتسير لوحدها، بدون ضوابط أو تحكم فى الاندفاع، لغاية فهم الفيلم أولا وأخيرا.

يقول الناقد: "مى المصرى تؤكد فى هذا الزلزال البصرى، معنى سينما الحياة ذاتها، دون أن تتدخل بحسها الملهم فى اندحارها التدريجي، فهذا النوع المقلق يتحرر من كل الوسطاء بين الحياة والشاشة، البنية المركبة للمشهد.. الصراع المزيف والهش، الديكورات المريضة، نجوم السينما المغرورين.

البنى الدلالي للغة السينمائية والاشارات المتطرفة المبنعثة منها ايضا" .

ان الموضوع المرتبط بالشخصيات هو الذى يحرك قلم الناقد، وليس الشخصيات التى يكشف عنها الشريط، ولهذا نراه يمضى الى بيروت فى المطلق متأملا علاقتها بالفلسطينى الذى يمثله الناقد من ناحية، وتمثله المخرجة من الضفة الاخرى.

من موضوع عنوانه: "المخرجة التى حسمت فكرتها عن السينما عبر العصور" الى موضوع آخر حول زيارة (جان جينيه) الى المخيمات الفلسطينية وحديث المخرجة مى المصرى عن لقائها معه، لنعرف لاحقا بأن الموضوع هو أصلا مشروع حوار اعده الناقد مع المخرجة، وكان الناتج مبتسرا أسئلة وأجوبة سريعة، لا تكشف عن الخبايا، ولا تبحث فى المجهول.

لعل هذا الموضوع هو الأفضل وهو الاوضح ولكنه منقوص، وبه يبقى الكتاب المعد فاقدا لذلك الحوار الذى يمكننا أن نسميه حوار العمر.

فى موضوع آخر بعنوان "جندي يقيم فى مخيلة كاذبة" يقرأ الناقد بصورة افضل فيلم "أطفال جيل النار" للمخرجة، لكنها قراءة مفتوحة على محاور شتى، لا يجمعها الناقد بقدر ما يزيدها تبديد.

يقول الناقد فجر يعقوب فى ذيل الموضوع: "فيلم (اطفال جبل النار) مفتوح بهذا المعنى على المربعات التى احتلها الاطفال فى مدينتهم وهم يلعبون، أو يعيدون تركيب لعبة المرايا أمام المخرجة التى حسمت فكرتها عن السينما عبر العصور. ألم يبد ذلك واضحا من تلوين كرة لا يلعب بها الاطفال فى مدينة تنتسب بعناية فائقة الى جبل وتموت كل يوم دون نعي من أحد".

حوارات متقطعة: ـ

مرة أخرى يتم التركيز على فيلم "أحلام المنفى" عن طريق حوار مع المخرجة، وخصوصا فيما يتعلق بالتطرق الى الشخصيات وعالمها الصغير، والذى يكبر بالانفتاح على عالم آخر بواسطة وسائط الاتصال المختلفة الحديثة والتقليدية.

ولكن الحوار يحمل ايضا داخله بعض المشغولات العامة، وهذا السؤال الآتى يدل على ذلك، كما أن الاجابة تسير فى نفس الاتجاه:

هل هى سينما الحقيقة وأنت تنتقلين بين الروائي والتسجيلي؟

وتعبر الاجابة عن مفهوم الشريط التسجيلي عند المخرجة، فهى تقول بأنها مع سينما الانسان. سينما الحقيقة الانسانية ان كانت تسجيلية أو روائية.

ليس هناك حقيقة بالمعنى المجرد. السينما رؤية ذاتية مبنية على تفاعل السينمائى مع التجارب الانسانية المحيطة به".

من الموضوعات الرئيسية "أنا وجان" وهو موضوع يقودنا الى العلاقة التى تربط المخرجة مى المصرى مع المخرج جان شمعون زوجا وشريكا فى اخراج الافلام. ومن المعروف بأن المخرجة قد اشتركت مع المخرج فى افلام كثيرة نالت جوائز كثيرة منها: تحت الانقاض 1983 ـ زهرة القندول 1986 ـ بيروت جبل الحرب 1988 ـ احلام معلقة ـ 1992 بالاضافة الى تعاون مشترك فى الانتاج عبرت عنه الشركة التى تأسست بتعاونهما المشترك.

اختلاف واتفاق: ـ رغم صعوبة التفريق بين جهد الطرفين، إلا أن الناقد يحاول أن يبحث عن نقاط الاختلاف، فيعتبر أن مى المصرى أقرب الى المخرج العالمى "فلاهرتى" فى اتكائها على الشرارة الملهمة المتقدة، يبنما يسير جان شمعون نحو اتجاه آخر، فهو قريب الى عالم المخرج التسجيلي (جريسون) المستند على الافكار النابعة من صدق المعايشة، وبالطبع لم نكن نفهم الكثير مما ذكر عن عوامل التباعد بين الثنائى، وبالاحرى لم ندرك الكثير عن العناصر التى تجمع ولا تفرق.

ولقد عزى الناقد الأصل فى أن يختار كل منهما الاتجاه الخاص به الى محور القضية الفلسطينية التى تقبض على مى المصرى دائما، بينما تبقى أحد مشاغل المخرج جان شمعون وليست كلها.

يستمر الناقد فى تقديم اللوحات الذاتية، وهو اذ يقترب أكثر من المخرجة يبتعد عنها، ليكتب الهوامش التى تفصح عن مقاربات لم تزل خبيئة فى نفس كاتبها، لم تجد مجالا لغويا واضحا، أو أنها لم تكتمل فى صورتها فخرجت مادة خام ليس أكثر.

ان النقد الذاتى يمكن أن يشار اليه ايجابيا، على أن يكشف لاحقا عن العلاقة المتفاعلة بين القارىء والكاتب، وهذه العلاقة مفقودة أو تكاد عند التعامل مع هذا الكتاب.

ومرة أخرى نقول بأن النتاج الكلي للمخرجة لا يسمح الا ببعض التقديمات النقدية، أو على الأكثر الكتيبات الاعلامية، على أن تكون واضحة هدفا ومنطلقا.

والكاميرات قارب نجاة: ـ

تستمر العنوانين الغائمة، سنجد أمامنا: أناسة ما هو متخيل وواقعى، ثم يعود الناقد الى شريط احلام المنفى، فيضعه فى "حدق الفراشة فى الفيتو العاطفى". أما الحوار الذى يعود اليه الكاتب مرة ثالثة فياتى فى العنوان الآتى: هبوب الاسئلة على الاسطورة والتاريخ، وفيه استرجاع لذكريات أولى، حيث الاب الفلسطيني والام الامريكية، ثم الثقافة المزدوجةوالدراسة فى امريكا وجواز السفر الدخيل، ثم الهجرة داخل الوطن، واختيار الكاميرا باعتبارها قارب النجاة من حياة لها ألوانها النابعة من الاماكن واللغات عمان ـ الجزائر فلسطين ـ تكساس ـ بيروت وغير ذلك من المرافىء الشاحبة فى الذاكرة، ذاكرة مخرجة خارج حدود الوطن.

تستمر العناونين المعبرة عن حالة من التعويض النقدى، فى الوصول الى فيلموغرافيا المخرجة والجوائز التى نالتها، وكل ذلك يدفع باتجاه أن تتولد من هذه الموضوعات مداخل لكتاب آخر ينتظر أن يكتب حول المخرجة مى المصرى، ويكون مفتوحا امام القارىء، ويحمل قدرا من الموضوعية، رغم المتعة الخفية التى تنبعث من القراءات الذاتية والتى لا تتجاوز متعة التعبيرات اللغوية وفى هذا بعض الكفاية.

لم يتعرض مؤلف الكتاب الى فيلم قامت المخرجة مى المصرى باخراجه وكان بعنوان: حنان عشراوى، امراة من زمن التحدى ـ 1996، وهو الذى اهدى كتابه الى حنان عشراوى نفسها واضاف صورتها الى صور الكتاب المبعثرة.

هذا الفيلم حلقة من سلسلة متتالية كان محورها دائما فلسطين، بما فيها من اطفال واماكن وذكريات وشخصيات تشد الانتباه.

ايضا لم يتعرض مؤلف الكتاب الى آخر افلام (مى المصرى) التسجيلية، وهو يفلم (يوميات بيروت.. حقائق وأكاذيب وفيديو" انتاج 2006.

والحقيقة أن المؤلف نفسه قد كتب حول الفيلم، بنفس طريقته التأملية المعهودة، والتى اختصرها فى عنوان طويل: الطيران فوق المجتمع المثالى بعكازين من خشب. وربما للمرة الاولى التى يعبر فيها المؤلف عن فحوى موضوعه بالعنوان المباشر وبوضوح دال يكشف شيئا ويخفى أشياء أخرى.

لكن هذا الموضوع الذى كتبه المؤلف لم يضف الى محتويات الكتاب، رغم أن الاولوية كانت تنبغى ان تكون له. ليس لأنه يمثل جزءا رئيسيا من الموضوع الكلي، ولكن لأن فيلم (يوميات بيروت) هو من أهم افلام المخرجة، فقد بلغت فيه درجة عالية من الاحتراف، ولاسيما فى دمجها للتحقيق التلفزى مع اعادة تسجيل الواقع من خلال الوقائع المباشرة التى شكلت تجمعات الشباب فى (ساحة رياض الصلح ببيروت) أهم معالمها.

بصورة عامة لقد قدم الناقد والمترجم فجر يعقوب كتابا فيه الكثير من الطموح المجنح الذى يتلاعب بالاحلام ونبؤة الكلمات الهامسة والكاشفة عن المستقبل.

فى الوقت الذى كان فيه موضوعه يسير نحو اتجاه مختلف، اتجاه الواقع النازف بحرقته المؤلمة وقسوة جراحه النازفة، فكأنى بالكتاب يميل نحو الليل والقمر والموضوع يتتبع خطى النهار والشمس فى ثنائية تحتاج الى اعادة فك الارتباط، ثم اعادة تركيب هذا الارتباط من جديد.

ليست هناك تعليقات: