الأربعاء، 3 سبتمبر 2008

اخر فيلم للمخرج النورى بوزيد



النوري أبو زيد فى آخر فيلم له

تحولات بطل من ورق!

يمكن اعتبار المخرج التونسي النوري أبو زيد مخرجا واقعيا باقتدار، فهو ينتمي الى تيار السينما الواقعية التى تتعامل مع المجتمع والسياسة والثقافة وقضايا الحياة الحيوية ومشكلاتها وفق الرؤية الانسانية التى تضع فى اعتبارها الفضاء الاجتماعي السياسي قبل الباعث الذاتي والحافز الشخصي والتحليلات ذات الطابع النفسي.

ان محور افلام النوري أبو زيد الفرد الانسان، أو كيان الفرد الواحد الذى ترتكز عليه الاحداث، لأنه يعد بشكل أو بآخر البطل الاشكالى الذى وجد من أجل الصراع مع من حوله بعد أن صير ضحية عليها ان تدافع عن نفسها.

موضوعات واشكالات: ـ

بسبب التركيز على شخصية الفرد وتحولاته، اعتبر هذا المخرج من اعلام السينما الذاتية او هو أقرب الى سينما المؤلف، وفى ذلك الكثير من الحقيقة، لكنها حقيقة بديهية، حيث يكتب النوري أبو زيد سيناريوهات افلامه بامتياز، وينفذها بعد ذلك وفق نفس رؤية الكاتب، وهو امر ينطبق على الكثير من المخرجين، ومن الطبيعى ان يلجأ المخرج الى حياته الشخصية فى بعض الاحيان، ولاسيما فى الاشرطة الاولى، وهذا ما حدث بالنسبة لشريط (ريح السد 1986) وكذلك شريط (صفائح من ذهب ـ 1989)، لكن الجانب الشخصي يبقى فى الحدود الضيقة، لأن القضية الاجتماعية هى الأصل فى افلام النوري بوزيد، وهو ما اتضح فى باقي افلامه اللاحقة مثل ( بزناس ـ 1992) ثم فيلم (بنت فاميليا ـ 1997)، يلي ذلك شريطه ما قبل الأخير (عرائس من الطين ، 2001) والذى عالج فيه موضوعا اشكاليا ايضا فى اطار اجتماعي وسياسي بحيث يشتبك مع مفهوم الصراع الاجتماعي بمعناه الحياتي والطبقى، مثل اكثر أفلام هذا المخرج.

من جانب آخر لابد من الاشارة بأن افلام النوري أبو زيد تعمل على خلق الصدام مع الجمهور، بالتركيز على مواجهة الواقع بحدة، وهو ما حدث عند اختياره لموضوعات أو تيمات مثيرة للجدل، كما فى شريط (بزناس) عندما تم التركيز على السياحة وعلاقتها ببيع الجسد، ثم شريط (بنت فاميليا) عندما تم التركيز على "موضوعه" المعاملة الجنسية للمراة، وفى شريط (عرائس من طين) اختار المخرج موضوعه الخادمات والمتاجرة بهن، ولا ننسى أن شريطه الأول (ريح السد) قد اقترب من تابوهات التحرش الجنسي والاغتصاب.

اذن كان من المتوقع أن يختار المخرج موضوعا مثيرا فى شريطه الأخير والذى اسماه (آخر فيلم)، وكان الموضوع هو حديث الساعة فى واقعنا العربى والاسلامى، وايضا القضية الأهم على الصعيد العالمى.

لقد اقترب المخرج فى فيلمه الأخير من بعض المفاهيم المتعلقة بمصطلح الارهاب كما يطرح عبر وسائل الاعلام العربية والاسلامية والدولية، وايضا وبشكل خاص مناقشة بعض الآراء المتعلقة بعلاقة الدين بالدولة، وعلاقة الإسلام بالتحولات السياسية والاجتماعية، وكذلك الشكل السياسي والدينى للمجتمع، كما يعيشه المخرج فى واقعه الاجتماعي الذى يحيط به (أي داخل تونس) رغم ان أحداث الشريط يمكن أن تقع فى أى مكان مشابه.

يثير الفيلم عددا من التساؤلات، ولقد عبر المخرج عن ذلك بوصفه كاتبا للنص والسيناريو من خلال مسارين: الأول أحداث الفيلم كما هى وكما تحدث داخل السياق، والمسار الثانى ما يمكن اعتباره خارج سياق الفيلم، رغم انه بالداخل، وتعنى بذلك المشاهد التى تدور وراء آلة التصوير وليس أمامها وهى الكواليس بما فيها من وقائع جانبية وهى التى تعرف باسم (making off) أى الكيفية التى أديرت بها المشاهد وكيفية تعامل المخرج مع الممثلين وأسلوبه فى ادارة الفيلم وزوايا أخرى لا يراها المتفرج، وهذه الكواليس مهمة بالنسبة لشريط (الفيلم الاخير) لأنها تلقى ضوءا، ليس على الكيفية التى تدار بها المشاهد، كما العادة، ولكن لأنها تشرح وتفسر وتعلل اطروحات الفيلم الرئيسية، ولهذا كان الاسم الثانى للشريط (ماكيينع أوف) أى كواليس الفيلم، وهو الأقرب فى الدلالة على الموضوع الرئيسي، حيث لا يشير العنوان الرئيسي الا لمشكلة المخاوف من عدم استمرارية المخرج فى عمله الاخراجى بعد اقدامه على موضوع اشكالى يقارب هذا الموضوع الذى يكثر فيه الجدل وحوله، وتتقاذفه التيارات المذهبية بين اصولية محافظة وراهنية متغيرة ومتجددة.

اذا عدنا لشريط (آخر فيلم) إنتاج تونس 2006 وجدناه يقدم منذ البداية بطله الوحيد فى ظروف اجتماعية معينة، يغلب عليها الفقر والبطالة وسيطرة الاحلام المجهضة. ولقد أطال الشريط في مشاهد المقدمة التى تؤسس للبداية وتنطلق منها، وقد بدت الشخصية الرئيسية أقرب إلى الشخصية الشعبية تدعى (بهته)، وتعمل بالرقص الفردى والجماعى فى الشوارع والساحات. أى أن الشخصية تطورت على عكس طبيعتها واختياراتها.

رقص فى الشارع:

ولقد ركز الشريط على فكرة معينة اساسها مطاردة الشرطة للراقصين فى الشوارع، باعتبار أن الرقص يتجاوز المسموح به، فهو فن حي له طابع جماعى مشاغب، وهو يحمل اوجها من العنف الذى يؤكد على طاقة الشباب والفتيان الكامنة والتى تبحث عن متنفس لها عبر الشوارع وشط البحر والاماكن الداخلية والخفية.

من أهم مشاهد الشريط ذلك المشهد الذى يرتدى فيه بهته ملابس الشرطة الخاصة بصديقه ويجول بها فى الشوارع، ثم يدخل بها أحد المقاهى العامرة بالرواد ويطلب منهم أن يرقصوا، وأن يأخذ كل واحد منهم جواز سفره، وأن يهاجروا بكل سهولة، وجميع ما ذكره بهته هو من الممنوعات بالنسبة اليه، فلاعتبارات معينة أمنية لم يستلم جواز سفره، وهو مطارد في مجموعته من قبل سيارات الشرطة، وهو ايضا، وهو الأهم، لم يتمكن من الهجرة الى اوروبا لتنفيذ حلمه فى ايجاد العمل الذى يحقق له مكسبا ماليا يساعد به نفسه وعائلته، ويمكنه من الارتباط بخطيبته المترددة فى استمرار علاقتها به.

علاقات متداخلة:ـ

ان محاولة أن يكون "بهته" على توافق مع ما هو حوله تنتهي بالفشل، وهنا يستخدم النوري أبو زيد كل ما عنده لدلالة على ذلك ويختلف الأمر قليلا بالنسبة للتصوير الداخلي، فى البيوت الصغيرة، حيث الضيق والحركة السريعة للشخصيات، استجابة للحوار المتقطع السريع المنفعل مع الام المغلوبة على امرها والأب غير المتواجد بالبيت فى أغلب الاحيان، ثم الجد الذى يرغب فى الزواج من جديد، ويأتيه حفيده (بهته) بفتاة تبدى خداعا استعدادها للزواج منه، كى يتمكن من سرقة المال الذى يخبئه الجد، بعد محاولة اولى فاشلة، كانت نتيجتها عدة ضربات بالسوط من الأب، فى بداية الشريط.

ان جوهر المشكلة الاجتماعى والعلاقة مع الشرطة بصفتها سلطة رسمية وعدم القدرة على الانسجام العاطفى والعائلى، كل تلك الدوافع شكلت حافزا للفرار من بيت العائلة، وبالطبع يختار النوري أبو زيد الأسقف والسطوح طريقا للهرب والنجاة والفرار، وهو أمر تكرر ايضا فى شريط (ريح السد).

وربما كان الجانب الجمالى محركا لمثل هذا المشاهد من حيث الاختيار، فهو يستخدم آلة التصوير من الأعلى فى بعض الاحيان لتصوير حركة الممثلين داخل الممرات الصغيرة وداخل أفنية البيوت، وفى مرات أخرى، يحاول أن يصعد ببطله الى أعلى، على السطوح، بعد أن فشل فى التعامل مع حركة المجتمع على الأرض.

ان سرقة المال من بيت الأسرة، معناها عدم القدرة على العودة إليه، وكذلك الأمر بالنسبة لارتداء بدلة الشرطة منتحلا شخصية (عون الأمن)، فهى تعنى أن امكانية التصالح مع السلطة قد صارت مستحيلة، رغم وجود الرغبة فى ذلك منذ البداية كان التخطيط لتقديم فيلم متكامل من المناحي الواضحة التى سيطرت على حركية الأحداث، ولقد تجلى ذلك فى حركة آلة التصوير فى الشارع، وخلاف الرفاق على الطرقات وشاطىء البحر، ودبيب الأفراد جماعيا، مع التركيز على العلاقة العاطفية غير الصريحة بين بهته وخطيبته، والتى تتركه باحثة عن مشروع آخر لها مفيد، رغم أنها متعلقة به عاطفيا.

ولقد انتهى الأمر بهذا البطل الى أن يبقى وحيدا ومعزولا، وهو ما يخطط له الفيلم منذ البداية، حتى اذا وصل الى هدفه، أمكن اصطياد هذا البطل والتقاطه من على قارعة الطريق كسيرا وحائرا وفاقدا للأمل.

الى جانب كل ذلك هناك حالة من التشويه السياسي قد لحقت بشخصية البطل (بهته) فهو اعلاميا يتأثر بما تفرضه قنوات البث المرئى الذى نراه بين الحين والآخر من خلال شاشات التلفزة فى المقاهي وغيرها، وقد يكون هذا ايجابيا احيانا، يتوافق مع الحماس العاطفى لبعض القضايا السياسية، مثل رفض غزو العراق 2003، زمن وقوع احداث الشريط، ولكن التذبذب والانفعال السياسى قد استخدم باعتباره أرضية تمهد لما هو قادم من أحداث ذات صبغة سياسية تمس جوهر شخصية هذا البطل المندفع عاطفيا سياسيا، ولقد تم التعبير عن ذلك بمشاركته فى مظاهرة سياسية احتجاجية فيها الكثير من البراءة والبساطة.

التقاط بطل هامشي:ـ

بالطبع علينا أن ندرك بأن اختيار البطل الهامشي، يعبر عن موقف مبدئى بالنسبة لكاتب السيناريو والمخرج، فهذا البطل ليس مثاليا أو نموذجيا، لأنه مجرد فرد يحترف الرقص ـ الرقص طاقة كامنة وهو سارق ويتعاطى المخدرات ويعيش على الهامش اجتماعيا وسياسيا ـ وفوق ذلك يتصف بالحيوية والتى ابرزها المخرج بوضوح شديد من خلال الحركة السريعة داخل المشهد فعليا وبالمونتاج والتقطيع السريع وتبادل زوايا التصوير.

هذه الحيوية المفرطة هى التى التقطتها عين آخر مراقبة، وبذلك يبدأ القسم الثانى من الشريط.

يبدأ القسم الثانى من الفيلم وكأنه شريط آخر، مع الحفاظ على الشخصية المحورية (بهته) الم والفاشل، الذى تبحث عنه الشرطة، وفوق ذلك كله هناك أفق مسدود أمامه.

هناك شخصية تدعى (عبد الله) ومعه مساعدين يعملون معه، هم أقرب الى التلاميذ ـ ثلاثة شخصيات ـ يلتقطون (بهته) فى محاولة منهم لاستمالته اليهم ـ منتميا الى مجموعة سرية تعمل فى الخفاء، ستارتها دينية اسلامية، وعملها يقوم على تبنى فكرة العنف ضد المجتمع بغرض اصلاحه، مع التركيز على فكرة الشهادة وتحقيق الحلم فى الوقوف على عتبات الجنة، بكل ما فيها من متع معنوية وحسية.

تبدأ عملية غسيل المخ بتقديم مساعدات مالية يحتاجها بهته، وخصوصا وأنه قد ارجع المال الذى سرقه من بيته، مع توفير عمل له ثابت، وكان المرجعية فى ذلك هو الشيخ عبد الله والذى يعمل فى كتابة الأسماء على القبور مستخدما الرخام، فكان عمله بالتالى أقرب إلى الموت وليس الحياة، وكان عمله بالمقابر ترميزا اضافيا.

ورغم ان الفيلم يشير الى عبد الله باعتباره تقريبا ضحية هو الآخر، فقد ساقته الظروف لأن يتقاعد ويتجه هذا المنحى الديني المتطرف مع أنه كان فى بداية حياته مطربا وبعيدا عن هذا الاختيار، إلا أن هذه الشخصية تمارس دورها فى تجنيد من تجد فيهم الكفاءة بعد متابعة ومراقبة وعملية رصد من بعيد وقريب.

هنا يدخل الفيلم فى مرحلته الشائكة، فهو يقترب أحيانا من أفلام سابقة، أشارت الى هذا الموضوع بشكل جزىء أو كلى، وهو يستخدم نفس الشكل تقريبا، ومع ان شخصية (بهته) لديها شىء من المقاومة بفعل التردد، الا أن الظروف الصعبة التى وجدت نفسها فيها، بلا مأوى أو غطاء اجتماعى أو مرجعية مساعدة قد ساعد كل ذلك فى الاستجابة لهذه الغواية والتى عن طريقها سيسترد مكانته الاجتماعية وصورته الضائعة ويحقق احلامه فى الوصول الى الجنة والارتباط بحورية، ويعلى كلمة الجهاد كما رسخت فى ذهنه، مع استمرار تدفق المعلومات التى تمثل حالة من حالات الاجابة عن كل الاسئلة السياسية والاجتماعية والدينية ولو كانت من منظور محدود وضيق، بصرف النظر عن مقاربة هذا الشريط لأشرطة أخرى مثل (طيور الظلام ـ الارهابي ـ الآخر) الا أنه أكثر قربا من شريط (الجنة الآن) للمخرج الفلسطيني هانى أبو سعدة، ولاسيما والشريط يربط الموضوع بالدخول العملى فى التجربة الانتحارية أو حسب المصطلح الجارى سياسيا العملية الاستشهادية، بصرف النظر عن الاتفاق أو عدم الاتفاق حول هذا المفهوم.

كواليس تعبير عن موقف: ـ

ان الجانب الاشكالى فى الشريط يتمثل فى ظهور المخرج اثناء كواليس التصوير في ثلاثة مشاهد بدت ذات لون أصفر متميز، والمشاهد تحتوى على نقاشات بين المخرج وممثله الرئيسي الذى يرى نفسه متورطا فى شريط لم يتم الاتفاق على خطه الدرامى، حيث انزاح مسار الفيلم نحو غايات أخرى دينية وابتعد عن فكرة الرقص الرئيسية، بل صار الرقص حراما حسبما يشير الى ذلك عبد الله عندما يطرح مفهوم الحرام ويجعله شبه قاعدة على كل ما يدور حول شخصية بهته، ولاسيما ما يتعلق بالغناء والرقص والمرأة وغير ذلك من المسائل.

واذا اعتبرنا أن المشاهد التى ظهر فيها المخرج نوري أبو زيد مع ممثله لطفى عبدلي قد كانت طويلة نسبيا، فلأنها تحتوى على نقاش نظري حول العلاقة بين الاسلام والسياسة، مع ايضاح لوجهة نظر المخرج التى يفصل فيها كليا بين الاسلام باعتباره دينا يلزم علاقة خاصة قائمة بين الفرد وربه، ولا داعى لادخال المفهوم السياسى لهذا الدين فى الحياة الاجتماعية المعاشة من جانب آخر يتوسع المخرج فى شرح آرائه وهو يحاول أن يعيد الممثل المحتج إلى موقع التصوير بعد رفضه الاستمرار في العمل بسبب بعض التصورات الدينية المسبقة وأحيانا المخاوف من ردود الفعل.

نعم هناك أكثر من شريط عالمي ظهر فيه مخرجه وهو يقوم بعمله، كما حدث في شريط الليلة الأمريكية لفرانسوا تروفو انتاج عام 1973 وشريط إني أتذكر لفيدريكو فيللني انتاج 1974 ، كما أن هناك أشرطة أخرى يتداخل فيها عمل المخرج مع الشخصيات كما في شريط اسكندرية كمان وكمان للمخرج يوسف شاهين، إلا أن هذا الشريط يضيف حالة مختلفة ، فقد تجاوز الخلاف بين الممثل والمخرج حدود الاختلاف في وجهة نظر المخرج إلى أطراف أخرى خارج الفيلم يخشاها المخرج. وبالاصح هناك محاولة من المخرج لتوضيح الرسالة التي يهدف إليها بدون أن يكون هناك تداخل أو تشويه أو سوء فهم يمكن أن يتسلل إلى الخطاب الذي أراد المخرج إرساله.

بشكل واضح توسع المخرج في الشرح من حيث توضيح مراميه الفكرية التي تفترض نوعا من التسامح والقبول بالآخر كما هو بدون محاولة التعدي عليه بفرض بعض الاختيارات مهما كان نوعها وأهمية التبريرات الدينية الاسلامية المصاحبة لها، فهناك إلى جانب هذه الآراء محاولة لتأويل بعض التفسيرات التي لها علاقة بأسباب نزول الآيات وغيرها، وهو أمر كان من الممكن للمخرج أن يتداركه في أضيق نطاق.

لقد اشتهرت شخصية بهتة مترددة ولكنها مندفعة في استيعابها للمنظور الديني الذي سيطر عليها وخصوصا عند مطاردته لخطيبته السابقة وما صاحب ذلك من تحولات انعكست على علاقته بزوجة عبد الله من ناحية وأمه من ناحية أخرى، فقد صارت المرأة بالنسبة إليه أن تكون حورية من حوريات الجنة أو لا تكون.

أيضا لم يغفل المخرج جوهر مسألة التغيير ولذلك وضع بهتة بفعل الجماعة التي انضم إليها وصار منها في مخزن كبير مهمل ومعزول ليخرج من ثوبه القديم ويلبس ثوبه الجديد ويتخطى التجربة الصعبة التي تقوده إلى القيام بعملية انتحارية بتفجير نفسه في مكان معين تراه الجماعة مركزا مستهدفا.

أمكنة ونهايات : ـ

مثل باقي مواقع التصوير الجيدة التي اختارها المخرج بدقة تنتقل الكاميرا من مكان إلى آخر، المقبرة التي يعمل فيها بهتة مع عبد الله مساعدا له، المخزن القديم الذي بدا أقرب إلى السجن ، سجن الحياة القاسي، والذي يتحرر منه بهتة عندما يخرج مقررا القيام بعملية انتحارية مرتديا الحزام الناسف.

أما المكان الذي ينتهي به الشريط فهو ميناء رادس حيث ينطلق بهتة بحزامه الناسف في الشارع مهددا ومتوعدا الشرطة من ناحية ومندفعا نحو تنفيذ عملية مجهولة الهدف والمكان من ناحية أخرى.

أما اللقطة ما قبل الأخيرة التي ينتهي بها الشريط فهي تمثل سقوط هذا البطل الورقي إلى أسفل وفي إحدى الحاويات الضخمة في الميناء ، إنه سقوط إلى أسفل وليس ارتفاع إلى أعلى كما أنه احتراق وهبوط إلى القاع، وسط انفجار موجة نحو الذات بإحراقها بعد ما تعبت من المطاردة والبحث عن مصير مجهول.

إنه مصير بهتة دلت عليه الحوارات التي نطق بها نوري أبوزيد مخرجا وكذلك أشار إليه سياق الفيلم في إطار من النقاش النظري والذي اقتنع به بطل الفيلم أيضا.

وفي مقارنة بين شريط الفيلم الأخير وشريط الجنة الآن سوف نرى في الثاني نهاية مفتوحة لا نعلم من خلالها هل سيتم تنفيذ العملية أم لا وهذا الاختيار هو استجابة لفكرة القضية التي يحملها للمنطق أحيانا، مع الإشارة طبعا إلى أن أصحاب القضايا الحقيقية لا يتعاملون مع المنطق في أكثر الاحيان.

رغم هذه النهاية الحقيقية إلا أن المخرج يضيف نهاية أخرى اعتاد أن يقدمها في معظم أفلامه واساسها مشهد لعربة يقودها شخص أو أكثر كدلالة على الاستمرارية والتجديد لاعتبارات كثيرة توج هذا الشريط كأفضل فيلم في مهرجان أيام قرطاج السينمائية 2006 كما نال بطله لطفي العبدلي جائزة أفضل ممثل وفازت الممثلة فاطمة بن سعيدان والتي قامت بدور الأم بجائزة أفضل ممثلة دور ثان والحقيقة أن الفيلم من الأشرطة الكبيرة التي تجاوز بها النوري البوزيدي إطار المحلية إلى مرحلة الاتقان والاحتراف ، وخصوصا وان الطاقم الفني المصاحب كان على قدر كبير من الجودة خصوصا التصوير الذي نفذه ميشال بودرو كما أن الموسيقى التصويرية كانت متناسقة مع الأحداث ولاسيما تلك اللازمة الموسيقية المتكررة، مع وجود بعض النغمات الخارجة عن سياقها الفني أحيانا والتي تعد بمثابة الجمل الاعتراضية مثل بعض الألحان الشرقية والهندية.

إن المخرج النوري أبو زيد يصر دائما على خلق الصدمة وبالتالي فهو مخرج متحرك يلقي حجرا تلو الآخر في بركة مائية تبدو دائما ساكنة تحتاج إلى من يحركها.



ليست هناك تعليقات: